تزدحم الأفكار في وعي الفنانة التشكيلية اليمنية سبأ القوسي بازدحام المشكلات المركبة التي تعيشها بلادها جراء الصراع الدامي الذي لم تكن بعيدة من معتركه، تارة بحضورها وسط هذا الركام، أو بتعبيرات ريشتها التي تجسد ما يجول في داخلها تارة أخرى.
تصف سبأ نفسها بإنها فنانة تنحاز إلى المشكلات التي تعيشها هي بنفسها ترجمة للحال التي وصلت إليها اليمن في أعمال تجسد الواقع بلغة تراجيدية تؤكد أن للريشة قدرة على ترجمتها.
ولدت سبأ عام 1983 في العاصمة صنعاء، وكان للجو الذي ترعرعت فيه دور في بلورة شخصيتها الفنية التي تنزع كما يلاحظ في لوحاتها إلى المدرسة الواقعية التجريدية كحال كثير من الفنانين اليمنيين، وهذه الفترة عُرفت بنشوء المناخ السياسي والإداري والعمل الحزبي والتنظيمي في اليمن، مما قاد إلى حراك ثقافي مدعوم بالفرص الذي من خلاله لمعت أسماء نسوية قيادية كان لكثير منهن تأثير مباشر في طموحات الفتاة المنحدرة من محافظة ذمار ذات التركيبة القبلية شديدة التمسك بالعادات الاجتماعية المتوارثة.
استلهام ممن سبقن
هذا الجو كان لا بد من أن يؤثر في مساحة أحلام الفتاة التي تخرجت في كلية الآداب بجامعة صنعاء قسم اللغة الألمانية عام 2007 مما دفعها، كما تشير، إلى “التمرد على العادات والقيم السائدة التي تجرم حضور الفتاة في المعترك الإبداعي والثقافي والإعلامي”.
ولهذا تستحضر تجارب الرائدات اليمنيات “لا سيما حين تتزامن صورهن مع ما تحمله من موروث وطني تاريخي حول الملكة بلقيس وأروى الصليحي وزرقاء اليمامة وغزال المقدشية”.
عن النزعة القومية وما تحمله من مدلول سياسي أحياناً تقول سبأ “تأثرت بقاعدتي الثقافية التي استقيتها من روافد القومية العربية بكل قضاياها الإنسانية والخطاب الوطني الجامع للمعاني المبدئية للنظام الجمهوري ومسيرة ثورتي سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) وأهدافهما.
وأضافت “بحكم السن حينها كانت تجذبني الصور في أغلفة الكتب الرسومات الكاريكاتيرية في الصحف الدورية والأسبوعية وشكلت لي مفتاحاً للتأمل دفعني إلى توسيع مداركي واكتشاف ميولي وقدراتي الفنية والأدبية”.
استقراءات ذاتية
تعبر لوحاتها التي حضرت في أكثر من معرض محلي ودولي عن المشكلات الاجتماعية السائدة والصراع السياسي وتأثيرهما في كل من الأطفال والمرأة تحديداً.
وانعكست هذه الظروف على مسيرة القوسي الإبداعية في “فترات حرجة من حياتي”، إذ كانت تبني فيها لبنات أفكارها استقراءات ذاتية خارج صندوق المنع والمضايقة المجتمعية والسياسية والحرب وما خلفته من دمار نفسي على الإبداع كما هي الحال ف كل المجتمع.
وتقول “أنتمي إلى محيط اجتماعي لا يزال غارقاً في ثقافة النظرة الدونية للمرأة والتحفظ والتشدد تجاه أي نشاط تقوم به خارج بيتها أو يكشف عن هويتها ولكني بدعم والدي وأسرتي عبرت عن نفسي، فحضرت لوحاتي ومعارضي المتعددة داخل اليمن وخارجه”.
القناعة في وجه الصراع
كان لحال التناقض التي يشهدها اليمن بين التيارات الفكرية وقناعاتها ثمن دفعته هي وأسرتها، إذ تقول “اخترت أن أعبر عن ذاتي بفني ورسوماتي وأن أمشي على الطريق الذي أسعى إلى استكشافه من دون الاستعانة بمرشد يملي علي الأوامر”.
وتتابع التشكيلية اليمنية “أوضاع الحرب والصراع السياسي والتضييق المجتمعي الجائر دفعتني إلى مواجهة ما سأقف أمامه وأتعلم منه باستعداد لتحمل كل التبعات، مما جعل مني رمزاً للشخصية المتمردة في أسرتي الكبيرة أو الفتاة الفنانة التي لا تقبل بالأدوار النمطية المجهزة لها مثل من سبقنها من قريناتها”.
ثمن أول ظهور
وتشير سبأ إلى أنها تأثرت بالفنون التشكيلية من جداريات بغداد وتماثيل ألمانيا ولهذا “طمحت إلى أن أعكس ذلك على بلدي، فاخترت دراسة اللغة الألمانية وحزت شهادة بكالوريوس وخلال الدراسة في المدارس والجامعة أقمت معارض مشتركة عدة كانت تحمل أفكاراً تتجاوز إعادة رسم صورة أو مشهد، فكانت تختزل اللوحة من موقف أو فكرة أو مشهد، وبرزت تلك الأفكار في معرض ضمن فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية عام 2004”.
شكل ظهور سبأ القوسي حينها جدلاً وإشكالاً واسعاً في محيطها الاجتماعي كأول فتاة من قبيلتها يجري تداول اسمها في وسائل الإعلام، إلا أنها “تجاوزت كل إشارات الاتهام بكسر قواعد الأسرة وتقاليدها، فواصلت إقامة المعارض في صرح الجامعة وشاركت أيضاً في نشاط أدبي وثقافي تحت سماء التجاذبات الحزبية”.
إشكالية التجريدية
وحول انحصار التشكيليين اليمنيين في قالب المدرسة التجريدية دون غيرها من المدارس الفنية، أوضحت القوسي “على الصعيد الشخصي أتجنب السريالية لسوء فهم البيئة لرمزيتها وعدم تكافؤ الذائقة الجمعية لهذا النوع من الرسم ذي الخيال الخصب والبعيد، فربما لم نصل إلى مرحلة استقرار ثقافي وتطور إبداعي لننتهج المدارس الأخرى”.
صالح عند خيل سبأ
وتحدثت عن الفعاليات الوطنية التي شاركت فيها بقولها “أسهمت في معرض الخيل الأول الذي حضره الرئيس الراحل علي عبدالله صالح ونائبه حينها، عبدربه منصور هادي (تولى السلطة لاحقاً) وقيادة الدولة وكانت أبرز لوحتين لي وتجسد صورة للخيل كوسيلة وعنوان للفارس المقاوم للمحتل التركي أحمد حسين القايفي بأسطورتها الشعبية التي تحكي عن ذلك، ودور الخيل في المناسبات الاجتماعية كوسيلة نقل في حقبة من الزمن عبر لوحة الحريوة (العروسة) التي تظهرها على ظهر الخيل وترافقها (الشارعة) الوصيفة، وسايس الخيل أو أي متطوع من الأقرباء لقيادة خطوات الخيل الى بيت الزوجية”.
النأي عن المشهد الملتهب
لم ينحصر نشاط القوسي في الفنون فقط، فكان لها نشاط إعلامي قادها إلى ترأس تحرير صحيفة جامعية ومشاركتها في صحف عدة بأعمال أدبية متواضعة نشرت فيها قصصاً قصيرة ونثراً أدبياً، وكانت إذاعة صنعاء متنزهاً للتنفيس عن أفكارها ونشر مواضيعها.
وفي خضم الصراع الجاري خفت بريق لوحاتها، بناءً على رأي مسبق “مما يجري من متغيرات في الوطن العربي عامة واليمن خصوصاً منذ 2011″، بحسب قولها.
وهذا النأي دفعها إلى عدم القبول بما تصفه “أي سيناريوهات معدة مسبقاً لتجسيد أعمال ليست نابعة من قناعاتها، فما اكتسبته من والدي كان أصلب من أن يُثنى ولهذا لم أخضع للتجاذبات السطحية أو الاستقطابات القائمة”.
أطلق سراحك منك
انعكس تحررها من كل تلك الاستقطابات في تحدٍّ لتقيم معرضها الخاص تحت عنوان “أطلق سراحك منك” الذي استضافه بيت الثقافة في 2014 وافتتحه وزير الثقافة عبدالله عوبل وحضره وزراء وكتاب وشخصيات نخبوية ومثقفون كان على رأسهم الأديب عبدالعزيز المقالح وأقيمت خلال أيام العرض ندوات عدة وحلقات نقاشية في المجالات الفنية والإبداعية كافة، مما أسهم في تسليط الضوء على أعمال سبأ القوسي وفلسفة أعمالها ورسخ اسمها في قائمة مبدعي اليمن.
ذاع صيتها تحديداً مطلع عام 2016 والسبب “لوحة الكفيف وحمامة السلام” التي رسمتها وكانت “أشهر اللوحات التي أثرت في قلوب الشعب اليمني المكلوم ولامست الجانب الإنساني في وجدان الرأي العام”.
هذا الحضور مكن من تصنيف أعمالها في سياق إنشاء وقيام قانون العدالة الانتقالية المفترض في مثل الظرف الذي تمر به البلاد، وتم إنتاج فيلم وثائقي فرنسي أشرفت عليه المخرجة العالمية خديجة السلامي وقدمت خلاله دور الفن في الحروب واستضاف القوسي ضمن العرض كنموذج، وتم عرضه لمصلحة الاتحاد الأوروبي في مهرجان المقاومة السينمائي 2018 تحت عنوان “اليمن: الأطفال والحرب”.
قواعد الحرب
احتفظت سبأ في قاع ذاكرتها بأكبر حدث مؤلم تأثرت به في حياتها كما تفيد، فعلى رغم مرور أكثر من ثمانية أعوام عليه، إلا أنها أخرجت هذا المخزون المؤلم إلى النور، وتشاركته مع المجتمع اليمني في معرضها الخاص الثاني الذي حمل عنوان ” قواعد الحرب” بدعم وتمويل من الاتحاد الأوروبي وبمشاركة من معهد “غوته” الألماني لعمل مشروع فني.
وتشرح القوسي أن فكرة المشروع كانت تقوم على “عرض أعمالي كافة منذ بدء الحرب حتى آخر لحظة من تباشير انتهائها بتبادل الأسرى عبر طائرات الصليب الأحمر، إذ ألقيت كلمة في افتتاح المعرض حول ولادة الفكرة في أوج دوي انفجارات الحرب وسقوط مقذوفات ضخمة في جبل نقم قرب سكني ونجاتي وأسرتي من الموت بأعجوبة”.
حظي معرضها الأخير بالإشادة الواسعة من الحاضرين والمتابعين على منصات التواصل، وبموجب ذلك، تلقت القوسي دعوات إلى المشاركة في مؤتمرات على غرار معرض رسالة السلام التي قدمتها إلا أنها اعتذرت من حضوره، موضحة “عاهدت نفسي ألا أغادر وطني إلا وقد نعم بالسلام والإرادة الكاملة من دون توظيف أو تناغم مع أي متطلبات لأي طرف من أطراف الصراع”.