ماذا لو تداخل عالَم الفنون، بما يحويه من مسرح وتشكيل وتصوير فوتوغرافيّ وموسيقى، بمنهجيّات تعليمنا المواد الدراسيّة، وتخطيطنا الوحدات وتطبيقها مع الطلّاب؟ ماذا لو طوّرنا خيال طلّابنا لنصل بهم إلى الفاعليّة في التعلّم، وحسّنّا من مهاراتهم الحسّيّة لنصل بهم إلى الجودة المنشودة في التعليم، وليصلوا بدورهم إلى المخرجات الأفضل في اكتساب معارفهم ومفاهيمهم؟ فإذا نظرنا إلى التعليم، باعتباره عمليّةَ تحرِّر ثقافيّ، نجد أنّه يعتمد على سيرورات مبنيّة من مراحل متتاليّة، تهندس حدودَه ثلاثةُ محاور أساسيّة ومتداخلة: محور السياق المجتمعيّ؛ ومحور السياق الثقافيّ؛ ومحور احتياجات الفرد نفسه ضمن السياقات المذكورة. فما العلاقة بين الحرّيّة الفنّيّة وعمليّة التحرّر الثقافيّ؟ كيف يؤدِّي المعلّم دوره في دمج الفنون بتعليم المواد الدراسيّة؟ وكيف يطوِّر الطالب مهاراته الحسّيّة ليكتسب المعارف المرجوّ بناؤها باستخدام الفنون في عمليّة تعلّمه؟
يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة، بتسليط الضوء على أهمّيّة استخدام الفنون ودمجها في العمليّة التعليميّة، نمطًا من أنماط التعلّم المُعتمِد على تنمية المهارات الحسّيّة والحركيّة لدى الطلّاب، لتطوير أدائهم الفرديّ والجمعيّ، والوصول بهم إلى الإبداع المتجلّي في المخرجات المرجوَّة منهم في مراحلهم التعليميّة. بالإضافة إلى ذلك، يشير المقال إلى أهمّيّة التنمية المهنيّة للمعلّمين، وتمكينهم من استخدام الفنون ودمجها في تعليمهم المواد الدراسيّة.
علاقة الفنّ بالحرّيّة الثقافيّة
تشير البحوث إلى أنّ دمج الفنون في عمليّة التعليم والتعلّم يسهِم في تنمية وعي الطلّاب الذاتيّ، ويمكّنهم من التواصل الاجتماعيّ. وبالتالي، يطوِّر نسجُ علاقات اجتماعيّة وتفاعليّة مع أقرانهم مهاراتِهم الذهنيّةَ العليا، ويعينهم على الفهم الحسّيّ والتعبير عن ذواتهم. يدلّ ذلك على أنّ الفنون لا تطوِّر المهارات الفنّيّة فحسب، بل هي وسيلة لاستدامة عافية الطلّاب، لما تتركه من أثر جليّ طويل المدى في النواحي الاجتماعيّة والحسّيّة-العاطفيّة (Spendlove, 2007). فاستخدام الفنون يمكِّن الطالب من إسماع صوته وإظهار حركته ومشاعره، وهذا ما تتميّز به العمليّة الفنيّة بما تمنحه من حريّة للفرد.
تتجلّى هذه الحرّيّة الفرديّة، بحسب (Dewey (2015، في أفكار الفرد ذاته ومشاعره وأفعاله؛ فنراه يعبِّر ويتفاعل مع من حوله بحرّيّة، يُظهِر بها مكنوناته ويصل عبرها إلى المخرجات التي تمكِّنه من الوصول إلى حلول المشكلات بطرائق إبداعيّة. بالإضافة إلى ذلك، أظهر بحث(2000) Sharp وLe Metais، والذي أجري في بريطانيا حول فكرة تدريس الفنون في المناهج الدراسيّة، أنّ تعليم الفنون يشكِّل مفتاح تطوير التربية متعدّدة الثقافات، لفهم الآخرين وتقبّل اختلافاتهم الثقافيّة، بغرض قبولهم اجتماعيًّا، ولا سيّما في البلدان المستعمَرة التي تسود فيها النظرة الاستعلائيّة للمستعمِر. لذلك، تعدّ التربية متعدّدة الثقافات محورًا رئيسًا في دمج الفنون بالتعليم، نظرًا إلى مردودها في فهم السياقات الثقافيّة المختلفة.
قد نجد في التعليم الرسميّ ساعات مخصَّصة لكلّ مادّة تعليميّة، حيث يُحدِّد أصحاب القرار وصنّاع السياسات لمدراء المدارس عدد ساعات تدريس كلّ مادّة أسبوعيًّا. وبطبيعة الحال، تنال الحصّةَ الأكبر من الساعات الموادُ الأساسيّة، مثل اللغة الأمّ والرياضيّات والعلوم. وإذا وُجدت مادّة الفنون في المقرّر الدراسيّ، فلن يتعدّى الوقت المفرز لها ساعة أو ساعتين أسبوعيًّا، وتكون مادّة منفصلة وقائمة بذاتها كبقية المواد الدراسيّة. في حين تبنّت بعض الدول فكرة دمج الفنون في التعليم، مثل نيوزلندا وألمانيا وفرنسا وأستراليا وتشيلي وكندا وولايتا نيويورك وكاليفورنيا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فأدخلت موضوعات الفنون ضمن المناهج الدراسيّة.
ويُهيّئ دمجُ الفنون بالتعليم بيئات تعليميّة داعمة، كما يزيد من دافعيّة التعلّم لدى الطلاّب، وذلك نتيجة استخدام المعلّمين أنماطًا واستراتيجيّات مختلفة وخارجة عن المألوف، ومغايرة للأساليب النمطيّة المعهودة. من هنا، لا بدّ من إعادة التفكير في تصميم تطوّر المعلّمين المهنيّ، سواءً أكان ذلك في الكليّات المعدَّة لتأهيل العاملين في الميدان التربويّ، أم بالورشات التدريبيّة المُمنهَجة والموجَّهة إلى مدراء المدارس ومعلّمي المواد الدراسيّة المختلفة، والوصول بهم إلى الأداء المرجوّ منهم في استخدام الفنون في التعليم.
لمّا كان المعلّمون يمرّون بعمليّة صقل هويّتهم المهنيّة في دورات التنمية المهنيّة، والتي تنعكس في أدائهم التعليميّ وممارساتهم السلوكيّة مع طلّابهم، كان دمج الفنون بالتعليم في هذه الدورات التدريبيّة من مهمّاتها الرئيسة؛ وذلك لإسهامها في تطوير مهارات المعلّمين ومعارفهم وخبراتهم، ليمكِّنوا بدورهم الطلّابَ من زيادة معارفهم ومستوى قدراتهم على الإبداع والتجديد. أمّا مدير المدرسة فله دور فنّيّ في هذا المجال، لأنّه مسؤول عن إدارة المدرسة بجميع عناصرها. وهو مسؤول أيضًا عن تطوير المعلّمين مهنيًّا، على النحو الذي يسهِم في تطوير الهويّة المهنيّة الخاصّة بهم. وبالتالي، للمدير الدور الرئيس في تحديث استراتيجيّات التعليم وأنماطه في المدرسة، والسعي المستمرّ إلى تمكين المعلّمين من ذلك (Hallinger, P. & Murphy, J., 2013).
أمثلة دمج الفنون بالتعليم
قد تتداخل الفنون في تعليم اللغات وتعلّمها مثلًا، حيث يمكن للطلّاب أن ينشدوا قصيدة شعريّة، تُلحَّن في دروس اللغة المدمَجة بالموسيقى، ممّا يسهِّل عليهم حفظها، حيث تعدّ الآلة الموسيقيّة أداة فنّيّة تُستخدَم لتمكين الطلّاب من عمليّة الحفظ. أو يمكن للطلّاب تجسيد شخصيّة ما من نصّ أدبيّ قصصيّ، لعرضه بأسلوب مسرحيّ تشويقيّ، يُرفَق بالمؤثّرات الداعمة لمحاكاة الشخصيّات؛ فيستخدم الطلّاب الحسّ والحركة وأساليب مختلفة في التواصل، ممّا يسهِم في تنمية مهارات التعبير الشفهيّ لديهم، فضلًا عن تنمية مهارات الخطابة والحوارات المتنوّعة، ومهارات القيادة والتواصل الاجتماعيّ ضمن الأعمال الجماعيّة التي يشاركون فيها أقرانهم.
وفي السياق ذاته، يمكن للمعلّم في درس العلوم تكليف الطلّاب بزراعة نبتة، على سبيل المثال، ويطلب إليهم توثيق مراحل نموّها باستخدام آلة التصوير. يصوّر الطلّاب كلّ مرحلة، ثمّ يعرضون الصور في درس العلوم، وفق تسلسل المراحل، مع تسجيل ملاحظاتهم عن كلّ مرحلة، وكتابة ملخّص النتائج النهائيّة. هذه المهمّة تسهِم في اكتساب الطالب أولى مهارات البحث والاستقصاء، حيث تحدث عمليّة التمكين الذاتيّ لديه بالبحث عن المعارف وما وراءها، وبالتصوير والتوثيق. يلي ذلك كتابة التعابير التي تلائم التوثيق، وشرحها في الحصص الصفّيّة أمام الزملاء.
أمّا في مادّة التاريخ، فتخيُّل الطالب الشخصيّات التاريخيّة ورسمها بحسب سياقها الثقافيّ والزمكانيّ، قد يساعده في توسيع مداركه، وتحسين استنباطاته. يتحقّق ذلك حين يستخدم الطالب الفنون ليعكس ثقافةً ومجتمعًا وسياقات تاريخيّة، بصريّة أو أدائيّة، وذلك بالانتقال من حقبة زمنيّة إلى أخرى، ومن سياق الى آخر.
العلاج بالفنون
يعدّ العلاج بالفنون، كسائر العلاجات الحسّية، مثل الاستشفاء بالطبيعة أو الموسيقى أو السّباحة، شكلًا من أشكال العلاج العاطفيّ، حيث يُستخدَم لتحسين أداء طلّاب ذوي صعوبات التعلّم، أو طلّاب طيف التوحّد. فضلًا عن الطلّاب الذين يعانون اضطرابات حسّية- عاطفيّة واجتماعيّة، ويواجهون صعوبة في تطوير مهارات التواصل الاجتماعيّ، ومهارات التعبير عن الذات. لذا، فاستخدام الفنون أداة علاج فرديّ لطلّاب ذوي الصعوبات المذكورة، قد يسهِم في تمكينهم من التفاعل الاجتماعيّ تفاعلًا أفضل، ويقلّل من حدّة الاكتئاب الناتجة عن صعوباتهم وقدراتهم المحدودة في التعبير عن أنفسهم. الأمر الذي قد يعزِّز ثقتهم بقدراتهم، ويُعينهم على تحرير مشاعرهم والقدرات الكامنة في ذاتهم.
* * *
بناءً على ما تقدّم، نرى أنّ التعلّم بالفنون يوسِّع مدارك الطلّاب وآفاق تفكيرهم، ويمكِّنهم من بناء المعارف. لذلك، تعدّ الفنون، بمختلف أشكالها، الأدائيّة والبصريّة، أداةً لتمكين الطلّاب من التطوّر الذاتيّ والمجتمعيّ، لما تودي إليه من تنمية قدرات التواصل والتفاعل الاجتماعيّ، سواءً بالعمل الجماعيّ وضمن سياقاته الثقافيّة، أم بالعمل الذاتيّ الذي يتجلّى في قدرة الفرد على تنمية مهارات قياديّة، يستطيع بها قيادة تعلّمه ومستقبله.
من هنا، ليس من الضرورة أن يكون المعلّم أو المعالج بالفنون فنّانًا بالفطرة، كي يرتقي بالطلّاب عبر دمج الفنون بالمواد الدراسيّة، وإنّما وجب تزويده بالآليّات اللازمة لذلك، وتمكينه منها، بتنظيم دورات تدريبيّة، أو خلال فترة التأهيل للعمل في الميدان التربويّ. لذلك، علينا إعادة التفكير في فعلنا الثقافيّ ومنتوجنا التربويّ، من أجل تحقيق حريّة ثقافيّة في المجال التعليميّ.