تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » هل لدى العرب “مكتبة سينمائية”؟

هل لدى العرب “مكتبة سينمائية”؟

هل لدى العرب "مكتبة سينمائية"؟

 

حين دخلت الصورة إلى المجال التداولي اليومي بجميع أنماطها وحواملها، عملت على زحزحة الخطاب المكتوب الذي تأسست عليه الثقافة العربية، ذلك أن انتشار الصورة داخل المكتبات السينمائية أسهم في تغيير النظم الفكرية والتقاليد الاجتماعية، وزحزح المركزية الكلاسيكية التي انبنى عليها الخطاب المكتوب.

إننا أمام طوفان بصري لم يفكر فيه أحد بعد، إذ على رغم اجتياح الصورة لعوالمنا وأجسادنا وتفكيرنا لا يزال الفكر العربي المعاصر لم يطرق باب الصورة الفنية من وجهة نظر فكرية، فالخطاب المكتوب يسيطر على واقع هذه الثقافة التي لم تدرك بعد مدى تأثير الصورة فيها وفي مختلف ممارساتها الفكرية وأشكالها الأدبية وتعبيراتها الفنية.

اليوم نحن أمام معضلة فكرية حقيقية تزج بنا في غياهب التاريخ، فبدلاً من الانفتاح على “براديغم” الصورة بمختلف تعبيراته الفنية من سينما وتشكيل وفوتوغرافيا وفيديو، لا تزال هذه الثقافة تقدم نفسها مثل امتداد لثقافة كلاسيكية لم تعد تطرح أي شيء بالنسبة إلى الواقع العربي ومآلاته الراهنة.

أسئلة الصورة

إن الصورة مفتاح المعاصرة، لا باعتبارها مفهوماً تاريخياً يفصل مرحلة عن أخرى، وإنما بوصفها “براديغماً” فكرياً تتبلور منه الرؤى والأفكار والأحلام، لهذا فإن الانتماء إلى “المعاصرة” لا يكون فيزيقياً (الحضور الفعلي في العالم) ولكن أن ننتمي إليه فكرياً أيضاً.

كيف يجوز الحديث عن الحداثة والمعاصرة في ثقافتنا ونحن لا نزال نقبع في نوع من الممارسة الثقافية التي لا تزيدنا إلا تهميشاً وغرابة في العالم؟ نستخدم آخر صيحات الحواسيب والهواتف الذكية لكن تفكيرنا يقف في حدود القرن الـ12. نرنو في كل ثانية إلى هواتفنا من دون أن نطرح سؤالاً فكرياً حقيقياً حول ماهية الصورة ومدى علاقتها بأجسادنا. فبمجرد أن نطرح مثل هذه الأسئلة يكون تفكيرنا قد دخل صوب مرحلة جديدة يحطم فيها جميع الأنساق الفكرية التي شيد عليها النظام الفكري العربي القديم.

يقول الباحث سليمان الحقيوي في كتابه “أسئلة السينما المعلقة” إن “الشعور بتفوق الصورة وقدرتها التعبيرية هو شعور قديم عرفته الحضارات القديمة، فوضع العلامات فوق رايات الحرب كانت تحمل إشارات بسيطة لكن دلالاتها كانت تحقق النصر في معارك مصيرية، وتحسم مصائر بلدان بأكملها، وتختزل كثيراً من الكلام والوقت والسرعة في التنفيذ. إن تفوق لغة السينما وخطاب الصورة بمقارنته باللغة العادية قد يبدو غير منصف”.

السينما والترفيه

حين يفكر المرء في أسباب غياب المكتبات السينمائية عن العالم العربي، أول ما يتبادر إلى ذهنه هو أن الثقافة العربية لم تتحرر بعد من سطوة المكتوب والشفهي، لذا صعب تأسيس مكتبة سينمائية إلى حدود نهاية تسعينيات القرن الماضي، فالمؤسسات الثقافية لا تؤمن بالسينما باعتبارها فكراً متجذراً في خصوصيات المجتمع العربي بقدر ما تعتبرها مجرد وسيط فني يسعى لاهثاً وراء الترفيه والاستهلاك. هذه الرؤية الساذجة تطبع مختلف المؤسسات السينمائية التي تدعي الحداثة، إذ يبرز سوء فهم وتعريف الفن السابع من خلال طريقة النظر إليه وممارسته وكيفية التعامل معه. فالتجارب السينمائية العربية باتت تحتل مكانة مركزية داخل النسيج الاجتماعي، والأفلام المنتجة عربياً اليوم في عدد من البلدان ليست ترفيهية تشاهد قبل النوم، وإنما فيلموغرافيا مميزة يتنافس فيها أعظم المخرجين على أكبر الجوائز في العالم.

لقد أدركت السينما العربية مأساة الواقع الذي تعيش فيه فعملت منذ بدايات الربيع العربي على تكثيف مقاربتها للواقع، لذلك تطالعنا سنوياً أفلام موغلة في الواقع بمختلف أفراحه وأحزانه ونتوءاته. إنها سينما تضمر أكثر مما تظهر، فهي تتعامل مع الواقع بطريقة تخييلية ومبتكرة، وبقدر ما تنتمي إليه على المستوى الفكري تتطلع بعنفوان صوب عالم متخيل.

ولعل من الأسباب الحقيقية التي تقف وراء غياب المكتبات السينمائية في العالم العربي، أن المؤسسات لم تدرك بعد أهمية السينما بوصفها وسيطاً فنياً ينتج خطاباً بصرياً عالمياً لأن السينما في نظرهم مجرد أكسسوار يتم التعامل معه من الجانب الترويجي الإشهاري لمختلف أشكال الإنتاجات الثقافية.

إن السينما تتعدى كونها مجرد حامل لمنتج يتم التعامل معه إشهارياً لأنها عبارة عن خطاب فكري يحرك حساسيات وينتقد الواقع ويكشف عن خيبات ويسهم بصرياً في إنتاج المعنى. إن إنشاء مكتبة سينمائية حلم جميل وعسير، جميل لأنه باستطاعة مؤسسات عربية وخليجية تأسيس مكتبات سينمائية بحكم الإمكانات التي تتوافر لديها، إلى جانب وجود عدد من العاملين في أقسام التوثيق والأرشفة، وعسير لأن الذهنية العربية لم تتفتح بعد لمثل هذه الأفكار النيرة التي تسهم في تكريس الفن السابع.

معظم المقررات الدراسية للأعوام الأولى من الدراسة لا يتم فيها تدريس السينما والتعريف بها كخطاب فني يفرض نفسه على العالم، بل إن السينما تفوقت في بداية الألفية الثالثة على المكانة المركزية للمسرح، فغدا الفيلم أكثر الفنون استهلاكاً في العالم بالمقارنة مع المسرحيات وأشكال تعبيرية أخرى، والسبب راجع إلى شعبية هذا الوسيط الفني، فهو يدخل البيوت من دون طلب إذن الناس.

تراكم سينمائي

حققت السينما العربية اليوم طفرة نوعية على مستوى الإبداع لأن هذا التراكم الذي سيفضي لا محالة إلى التفكير في تأسيس مكتبات سينمائية عربية له القدرة على حفظ المنتج السينمائي العربي. فالمكتبات السينمائية غائبة عن العالم العربي مقارنة ببعض الدول مثل فرنسا وإسبانيا، وأهميتها الآن تبدو بارزة وسط هذه التحولات التي تطاول فن السينما العربية، مع أن التفكير فيها عربياً لم يتبلور بعد. وتضطلع هذه المكتبات بدور مهم على مستوى توثيق وأرشفة الأفلام والحفاظ عليها بما يجعلها تحفظ المنتج الوطني من التلف والضياع، بل إنها تقرب المسافة بالنسبة إلى الباحث وتجعله ينسج معها علاقة قوية قوامها التفكير والتأمل، إذ ثمة كثير من البحوث والدراسات التي تم التخلي عنها لأن صاحبها لا يعثر داخل العالم العربي على بعض الأفلام التي تم تصويرها ابتداء من الخمسينيات.

وبما أن غالبية الشاشات الصغيرة في العالم العربي لا تحتفظ بأرشيفها الكامل، فإن الباحث سرعان ما يجد نفسه أمام سراب علمي يحتم عليه السفر إلى الخارج، ففي إسبانيا وفرنسا ثمة كثير من المكتبات السينمائية القوية التي تختزن آلاف الأفلام القديمة التي تعود لفترات سابقة من حصول بعض البلدان العربية على الاستقلال. من ثم فإن هذه المكتبات هي التي تعطي فرصة للباحثين وتشجعهم على كتابة تاريخ السينما العربية والتعريف بها وبأعلامها ومن أسهموا في صناعتها والتوعية بهم.