تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » رواد الفن التشكيلي في العالم.. الشهرة والتقييم

رواد الفن التشكيلي في العالم.. الشهرة والتقييم

رواد الفن التشكيلي في العالم.. الشهرة والتقييم

 

لا شك في أن الحديث عن أشهر رواد الفن التشكيلي أمر محال، من جهة كون هذه المسألة نسبية بإطلاق، فما أراه أنا أعظم فنان قد لا يراه غيري كذلك، ولا شك أيضًا في أن هذا الاختلاف في الأذواق أحد تلك الأسس التي يقوم عليها جوهر الفن ذاته؛ فالفن الذي لا يدعم الحرية وينافح عنها بكل ما أوتي من قوة ومن أدوات ليس فيه من الفن شيء.

ولئن كان فريدريك نيتشه؛ ذاكم الفيلسوف الألماني الشهير، تحدث، في فاتحة القرن العشرين، عما أسماه «المنظورية»؛ تلك التي يعني بها أن كل إنسان لديه زاويته الخاصة في الفهم والتأويل، أيًا كان ذاك الذي يئوله (لوحة فنية أو نص مكتوب)، ولئن كانت شتى مدارس ما بعد الحداثة في الأدب والفن شددت على التشظي، والتنوع، وحتمية التفرد، باعتبارها إحدى آيات تفتح الكائن البشري ودلائل ازدهاره، فإن ذلك كله يظهر وبجلاء عندما يقف مجموعة من الأشخاص أمام لوحة فنية لـ «إدوارد هوبر» أو «جويا» أو غيرهما من الفنانين.

الشهرة والتقييم الجمالي
وعلى أي حال، فثمة أمر آخر، يجب أن نصدّر بها حديثنا عن أشهر رواد الفن التشكيلي في العالم، وهو ذاك المتعلق بأن الشهرة في ذات نفسها لا تعني شيئًا، ولا تضمن قيمة فنية، ولا هي دليل على عِظَم قدر المشهور ولا علو شأنه، فكم من فنان حقيقي لم يعرف إلا بعد موته بكثير، وكم من موهبة لم يأبه الناس إليها، ناهيك عن أن الاعتماد على الشهرة وحدها في التقييم الجمالي أو النقد الجمالي قد يُسقط الفن في فخ الشعبوية، وهو أمر لن يكون في صالح الذائقة الفنية الرصينة.

لكن، وعلى الرغم من ذلك، آثرنا أن نشير، ولو نحو عابر، إلى ثلاثة من الفنانين التشكيلين من ذوي الموهبة الفنية الرصينة، وممن كان لهم إسهام واضح وجلي على صعيد الحركة التشكيلية، وحتى وإن رأى البعض أن غيرهم أشهر منهم، فعاذرتنا أمران: الأول أن المسألة نسبية محضة، كما صدرنا حديثنا بالتشديد عليه، والثاني: أن هؤلاء الثلاثة ممن لهم أعمال أحدثت فارقًا بالفعل، ويمكن للوحة واحدة من لوحاتهم أن تقول الكثير.

إدوار هوبر.. الاغتراب المعاصر
لم يكن غريبًا أن تشير أوليفا لاينغ في كتابها: «المدينة الوحيدة: مغامرات في فن البقاء وحيدًا» إلى إدوار هوبر؛ وأن تقف أمام أكثر من لوحاته، لتتأملها وتقلبها ظهرًا لبطن، وليس غريبًا كذلك أن تأخذ لوحته Nighthawks حيزًا كبيرًا من تأملها وتفكيرها؛ فلئن كانت «أوليفا لاينغ» تحدّثنا في الكتاب سالف الذكر عن تجربتها مع الوحدة فليس من الغريب أن يكون إدوار هوبر هو سيد المشهد.

فهذه الوحدة لم تأخذ مساحة من عمل وتفكير فنان كما أخذت من فن وتفكير «هوبر»؛ على الرغم من أنه هو نفسه رفض، في إحدى مقابلاته الصحفية، أن تكون الوحدة هي موضوعه الفني الأبرز، ولا شك في أن هدفه من هذا التهرب هو عدم رغبته في السطو على خيال المتلقي وتوجيهه وجهة معينة، وكذلك عدم رغبته في حشر نفسه في زاوية معينة.

يعتمد «إدوارد هوبر»؛ لإظهار مدى استلابنا وغربتنا المعاصرة، على رسم مجموعة من الأشخاص المنعزلين سواءً في قطارات أو فنادق وغيرها، والظل دائمًا ما يكون حاضرًا وبقوة في كل لوحاته.

وهو يعتمد كذلك على إظهار مدى استغراق كل فرد في ذاته؛ فحتى لوحاته الثنائية أو التي تنطوي على أكثر من شخص ترى كل واحد فيهم ذاهلًا عن الآخر، شاردًا ببصره، سارحًا بخياله بعيدًا عن الجميع، وغارقًا في ذاته، ومستغرقًا في تأملاته.

آرثر هاكر.. ألم الغياب وأثره

مع آرثر هاكر نحن نشعر بأن ثمة غصة في الحلق، ثمة ألم سببته حادثة ما، كغياب شخص عزيز، وأحالنا هذا الغياب غير ما كنا عليه، وأحيانًا نشعر أثناء وقوفنا أمام بعض اللوحات أننا أما ثيمة انتظار لا يرحم، انتظار من قد لا يأتي.

لكن الهيام أو الاستغراق في العوالم الذاتية والخاصة تراه واضحًا وجليًا هنا، وإنما بطريقة أخرى غير تلك الطريقة التي سلكها إدوارد هوبر، بالطبع ليس الأمر هنا متعلقًا بفانتيزا ولكن قد أجسر على القول إنه متعلق بميتافيزيقا أكثر منه أي بعد آخر.

إدفارد مونك.. «صرخة أخيرة»
هذا الرجل قرر أن يخرج من شرنقة الذاتية التي غرق فيها كل من «إدوار هوبر» و«آرثر هاكر»، كل بطريقته الخاصة طبعًا، وأن يحتج، أن يقول لا في وجه الجميع، وأن يصرخ؛ ولذلك كانت لوحته «الصرخة» هي التعبير الأجلى عن هذا التحدي وعن هذا النداء الأخير لمجتمع لا يرحم، قسا قلبه وتحجر فيه كل شيء.

ونلاحظ أن الشخص في هذه اللوحة هزيل تمامًا، لم يعد فيه من سيمياء البشر شيء تقريبًا، وفي هذا دلالة على أنه لم يقرر أن يصرخ صرخته الأخيرة إلا بعدما أعيته السبل، وأضناه انتظار أن يفهم الجميع.

ولا شك في أن ثيمة الوحدة حاضرة هي الأخرى في أعمال إدفارد مونك أو في بعضها على الأقل، ولوحته Between the Clock and the Bed مثال قوي على هذه الوحدة المضنية، والانتظار المهلك كذلك.

وحتى في اللوحات التي قرر فيها التعبير عن بعض المناظر الطبيعية، كان المظهر العام الحزين؛ إذ اختار على سبيل المثال في لوحة Moonlight by the Mediterranean درجة من اللون الأزرق تشي بالكآبة والضجر.

باختصار قرر إدفارد مونك أن يرينا، عبر لوحاته المختلفة، الحياة على حقيقتها، قاسية وحزينة، ولذلك كانت أعماله انعكاسًا لهذه النظرة للحياة.