يان ماتيكو «1838 – 1893»، رسام بولندي اشتهرت أعماله بالرؤى والتصورات السياسية والفكرية، إلى جانب ما تحتويه من قيم جمالية، وهو صاحب أسلوبية كلاسيكية في ما يتعلق بشغفه في الانفتاح على التاريخ الأوروبي وخاصة بولندا، ويعد صاحب شعبية وشهرة واسعة، فهو الفنان الأكثر شهرة في تاريخ بولندا، ذلك لاهتمامه العميق بحياة الناس ورصد المتغيرات الاجتماعية والسياسية ومحاكمة الخيانة والخروج عن الخط الوطني، الأمر الذي جعل منه رمزاً، ودائماً ما توصف أعماله بكونها ساحرة وأنيقة وتحتشد بالرموز.
عاصر ماتيكو الكثير من الأحداث السياسية الكبيرة منذ صباه، من هنا، نفهم تسرب السياسة إلى أعماله، فقد شهد ثورة كراكوف 1846، وكراكوف هي المدينة التي ولد فيها، وتلك أيام راسخة في أذهان البولنديين، وقد قدّم ماتيكو دعماً مالياً خلال احتجاجات يناير عام 1863، لكنه لم يشارك فيها بسبب سوء حالته الصحية، وتبرع بمعظم مدخراته لهذه القضية، عُرضت لوحته التي حملت اسم «موعظة بيوتر سكارجا» والتي انتهت في مايو 1864 بمعرض جمعية كراكوف لأصدقاء الفنون الجميلة، وقد أكسبته اللوحة الكثير من الشهرة، فأصبح عضواً في جمعية كراكوف العلمية في 5 نوفمبر من ذلك العام، تقديراً لإسهاماته في إعادة توضيح المواضيع التاريخية.
لوحة «ريتان» أو «سقوط بولندا»، من الأعمال الشهيرة لماتيكو، اكتملت اللوحة في 1866، وهي تختبر شغفه بتوثيق الأحداث السياسية، وخاصة التاريخ البولندي، وللفنان ألبوم مصور عن أسلوب اللباس في بلاده، وهو يعد مرجعاً تاريخياً قيماً، وقد لاحظ النقاد تبني الفنان للأسلوب التقليدي المستمد من الواقعية والتأثيرات الدرامية، ودائماً ما كانت أعماله مثار جدل كبير في المجتمع البولندي، خاصة من قبل الطبقة الأرستقراطية والنبلاء، الذين كانوا يرون فيها نقدا وإهانة لهم، وكانت رسوماته تخضع للرقابة الشديدة في الإمبراطورية الروسية، كما أن السلطات النازية كانت قد خططت لتدمير إحدى أعماله، في سياق حربها على الثقافة البولندية، غير أن المقاومة نجحت في إخفائها.
رسائل
اللوحة لا تكتفي فقط برصد التاريخ البولندي بصورة دقيقة، بل حملت أيضاً العديد من الرسائل الوطنية، فهي تحتفي بحب البلاد، وتدعو لاستقلالها عن أي تبعية، وتنتقد الطبقات صاحبة المصلحة في التدخل الأجنبي، وكانت لوحاته بصورة عامة تمثل الضمير الوطني اليقظ والحي، وفي هذا العمل يجعل الفنان من تادوس ريتان شخصية سياسية ووطنية ورمزا للوقوف ضد محاولة بيع الوطن، ويظهر في صورة المحتج ضد التقسيم الأول لبلاده خلال فترة برلمان 1773، وقد اعتبرت اللوحة من قبل النقاد بمثابة أيقونة للاحتجاج الرومانسي.
خلفية
تصوّر اللوحة تادوس ريتان يحتل المكانة الكبيرة في هذا العمل الفني، فهو نائب في البرلمان البولندي للكومنولث البولندي الليتواني عام 1773، وفي هذا المشهد يصور الفنان لحظة اجتماع البرلمان لمُراجعة طلبات الدول الثلاث المُجاورة للكومنولث، وهي الإمبراطورية الروسية وبروسيا والنمسا، من أجل تقنين مطالباتها الإقليمية والمعروفة باسم التقسيم الأول لبولندا، وكان البرلمان البولندي يعمل تحت ضغوط، فإضافة إلى التهديد المُباشر من القوات الأجنبية الموجودة في الكومنولث، كانت هنالك تحديات داخلية كبيرة، وهي المتمثلة في حصول عدد كبير من النواب البرلمانيين على رشى، كما أن بعضهم كان قد تعرض للتهديد من جانب الدبلوماسيين الأجانب، وقد بَرَّرت تلك القوى الثلاث تدخلاتها في الشأن البولندي كتعويض عن التعامل مع دولة جارة ذات مشاكل ولاستعادة النظام عبر التدخل العسكري، لكن في الواقع كانت الدول الثلاث مُهتمة بمصالحها والحصول على مكاسب إقليمية.
والقصة الشائعة، أن ريتان، في لحظة احتجاجية ضد تدخل تلك الدول والقوى الإقليمية بشأن بلاده، قام بتعرية صدره بصورة دراماتيكية، ورقد على مدخل الباب من أجل إغلاقه حتى يحول دون خروج أعضاء البرلمان من القاعة التي كان يجري فيها النقاش، إذ إن عملية خروج النواب من المكان كان يعني بصورة عملية قفل باب النقاش والقبول بطلبات تلك الدول الثلاث التي تريد أن تتدخل في بولندا عسكرياً.
اعتبرت اللوحة رمزاً لجميع الانقسامات التي تعرضت لها بولندا ما بين 1772 و1793 و1795، ويصور العمل عدة شخصيات تاريخية مهمة في ذلك الوقت، لكن الشخصية المركزية في اللوحة هي ريتان رمز المقاومة والاحتجاج، وظهر في الجانب الأيمن من مشهد اللوحة بأكمله، بوضعيته الدرامية تلك، وهو مستلقٍ على الأرض وممسك بقميصه في مشهد مسرحي معبر، وقورنت اللوحة مع لوحة «الحرية تقود الشعب»، للفنان يوجين ديلاكروا التي رسمها إحياءً لذكرى ثورة يوليو الفرنسية التي قادتها المعارضة الليبرالية، غير أن النقاد قد اعتبروا أن وضعية ريتان في لوحة ماتيكو هي الأفضل والأكثر مثالية وتعبيراً عن الحدث.
ولئن احتل ريتان الجانب الأيمن من اللوحة، فقد قبع الخونة في اليسار والوسط، بعد أن حصلوا على الكثير من الرشى، وتظهر في اللوحة شخصيات حقيقية عرفت بخيانتها حينذاك، مثل العضو المستقبلي في كونفدرالية تارغوفيتسكا آدم بونينسكي، رئيس البرلمان، وهو يرتدي ثوب المحكمة الأحمر ومُطالباً ريتان بالخروج أو مُشيراً إلى الحراس الروس المُسلحين خارج الباب بأن يقوموا بإخراجه من القاعة، ويحمل أدم بونينسكي عصاً خشبية مُتواضعة للمشي، بدلاً من عصا رئيس المجلس، والتي كان قد سرقها ريتان قبل ذلك بيوم.
شخصيات
وإلى جانب بونينسكي تظهر شخصيات أخرى ناحية اليسار وفي الخلف والوسط، أما على مستوى الشرفة، فيتم تسليط الضوء على أحد أهم مُهندسي تجزئة بولندا السفير الروسي نيكولاس ريبينين، جالساً بين سيدتين، وإلى يمين الشرفة، يظهر رمز آخر مهم مُتمثلاً في لوحة لواحدة من قياصرة روسيا، فيما يقف عند الباب، خلف ريتان، جندي روسي، ويبدو أنه كان الشخص الوحيد الذي بدا متعاطفاً مع ريتان، هو شاب يقف في مُنتصف الحجرة يُمسك بيده سيف مبارزة وقبعة روجاتوفكا، كانت تُستخدم في الجيش البولندي.