على الدوام تصبح لوحات الفنان الهولندي فان جوخ «1853 – 1890»، موضوعاً للباحثين والمؤرخين والنقاد، ينكبون عليها بالتناول والتحليل والتفسير للكثير من خباياها، خاصة أن الفنان الكبير أسقط على أعماله تلك مشاعره المتناقضة بين القلق والتوتر والقليل من لحظات الصفاء والارتياح؛ حيث تعرّض منذ أوقات باكرة من حياته للنكسات العاطفية والصدمات النفسية، بل إن العديد من النقاد باتوا يصنفون أعمال جوخ بحسب تقلباته النفسية تلك، وصارت لوحاته مجالاً خصباً لتشريح شخصيته وتفسير انفعالاته، ولا تزال أعمال هذا الفنان العظيم تشكل منبعاً ينهل منه فنانو العصر الحديث.
لوحة «شرفة مقهى في الليل»، التي رسمها جوخ في عام 1888، من اللوحات ذات الأهمية الخاصة بالنسبة للفنان، وكذلك لتأثيرها في مجمل الإبداع الأوروبي وبصورة أكثر خصوصية على الرسامين الألمان؛ إذ تُعد مصدر إلهام للحركة التعبيرية الألمانية في القرن العشرين، وهي من اللوحات التي تنتمي إلى فترة ذهابه إلى باريس عام 1886، بغرض العلاج من الصدمات النفسية وحالات الاكتئاب التي تعرض لها، وكان يبلغ حينها من العمر 27 عاماً، وهنالك درس الأعمال الفنية اليابانية وتأثر بها تأثراً كبيراً، ومن العاصمة باريس انتقل جوخ إلى الجنوب الفرنسي وتحديداً ذهب إلى منطقة «آرل» في بداية العام 1888، وقيل إن من أهم أسباب انتقال فان جوخ إلى الجنوب هو كرهه لباريس وللشهور الطويلة من الشتاء فيها، إضافة إلى أنه أراد مكاناً يجمع عدداً من الفنانين من أجل العمل الجماعي والنقاشات، وعلى الرغم من أن ذلك لم يتحقق، إلا أن الوقت الذي قضاه في الجنوب الفرنسي كان من أخصب فتراته الفنية، وكانت «شرفة مقهى في الليل»، ضمن الأعمال التي أنجزها هنالك، والتي يظهر فيها بصورة كبيرة تأثره بالممارسات الفنية اليابانية، إلى جانب تعمقه في الانطباعية.
*وصف
رسم فان جوخ اللوحة بألوان الزيت على القماش، وموضوع العمل هو مقهى في آرل في جنوب فرنسا، والذي يُعرف باسم مقهى «تراست»، وهي نتاج تأمل عميق في المكان والطبيعة المحيطة، وعلى الرغم من طغيان اللون الأصفر على مجمل رسومات الفنان في تلك الفترة، إلا أن الأزرق كان هو اللون الأساسي، إلى جانب درجات من البرتقالي والأصفر والبنفسجي والأخضر تكاملت كلها، رغم التباين، في حوارية لونية بديعة، وانسجمت مع الضوء الذي تمّ توظيفه بطريقة خلابة ورائعة، ولاحظ عدد من النقاد أن جوخ في هذا العمل لم يستخدم اللون الأسود رغم أن اللوحة رسمت في الليل، وتلك إحدى عبقريات فان جوخ، الذي أراد أن يتبعد عن الطريقة التقليدية والمباشرة، وأن يوحي بأن التوقيت مسائي من خلال لعبة الضوء والظلال، حيث أراد الفنان أن يبتعد عن فكرة تصوير لوحة ليلية بالطريقة المعتادة لدى الرسامين، والواضح أن فان جوخ قد وظف خياله الجامح بطريقة خلاقة، فعلى الرغم من أن مشهد المقهى حقيقي، إلا أنه صنع الكثير من التفاصيل الصغيرة المتخيلة، بما يتماهى وينسجم مع طريقته وأسلوبه الانطباعي، كما أنه قام بإخفاء وحذف بعض التفاصيل التي كانت موجودة في المقهى وحوله، وكثيراً ما يحلو للنقاد في العصر الراهن المقارنة بين مشهد المقهى الحقيقي وذلك الذي قام برسمه فان جوخ.
أشار بعض النقاد إلى أن تلك اللحظة التي رسمت فيها اللوحة تشير إلى حالة صفاء نادرة للفنان؛ حيث إن مشهد العمل العام يشعر بالإشراق والتوهج الروحي والارتياح النفسي والصفاء الذهني، وذهب فريق منهم إلى أن فان جوخ حاول في هذه اللوحة أن ينتهج نهجاً جديداً لإعادة إنتاج الواقع المحيط؛ حيث إنه لم يرسم الشرفة الليلية في ورشة العمل الخاصة به، كما يفعل الفنانون عادة، بل شرع في عملية الرسم مباشرة تحت سماء الليل.
*درس
تعد اللوحة من أجمل ما تركه جوخ من رسومات، وفيها تظهر عبقريته الإبداعية، وعلى الرغم من أنه لم يضع توقيعه عليها، إلا أنه تحدث عنها بالتفصيل في ثلاث رسائل أرسلها لشقيقه وشقيقته، وقد اعتبر الكثير من المؤرخين الفنيين والنقاد، أن ما جاء في تلك الخطابات عن العمل، هو بمثابة دروس في اللون والفضاء والضوء والحس والمزاج، وكذلك الدفقات التعبيرية الشعورية لدى الفنان، ويقول جوخ في إحدى تلك الرسائل: «أعمل في الوقت الحالي، على لوحة تمثل الواجهة الخارجية لمقهى ليلي، وعلى الشرفة كان هناك عدد قليل من رواد هذا المقهى، ثمة فانوس أصفر كبير يضيء الشرفة والواجهة الخارجية، بل ويلقي ضوءه على حجارة الرصيف بنغمة اللون البنفسجي المائل إلى الوردي، والأجزاء العليا من البيوت، هي تماماً مثل الطريق الذي يتلاشى تحت السماء الزرقاء المرصعة بالنجوم باللون الأزرق الداكن أو البنفسجي مع شجرة خضراء، لدينا ليل من دون لون أسود ومن دون أي شيء آخر عدا جمال اللون الأزرق أو البنفسجي والأخضر، وفي هذا الفضاء تلون المساحة المضاءة نفسها بالأصفر الكبريتي الشاحب وشجرة الليمون. يبهجني كثيراً أن أرسم الليل بشكل فوري. في العادة يرسم الفنان ويلون اللوحة في النهار بعد أن ينتهي من التخطيط الأولي. إلا أنني أحب أن أرسم الليل في الحال، صحيح أنني في وقت الظلام أخلط أو أتوهم بين الأزرق والأخضر، أو بين الأزرق الليلكي والوردي الليلكي، إلا أن هذه هي الطريقة الوحيدة لقضاء ليلتنا التقليدية مع بصيص ضوء شاحب مائل البياض، في حين أن شمعة بسيطة تزودنا بأغنى ألوان الأصفر والبرتقالي».
وتلك الكلمات المضمنة في الرسالة، تظهر تلك البراعة التي اشتهر بها فان جوخ، والعبقرية الإبداعية في توصيف الطبيعة والألوان، والمقدرة على صناعة الانسجام وحالة من التوافق اللوني.