تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الفن لم يخلق لتزيين الغرف والصالونات

الفن لم يخلق لتزيين الغرف والصالونات

الفن لم يخلق لتزيين الغرف والصالونات

سامي عمامي*
الفن ليس ترفا ولا هو مجرد ترفيه، رغم ما فيه من جانب متعوي ترفيهي، فالفن رسالة أعمق بكثير، إنه خطاب إنساني هدفه الحياة والإنسان بالدرجة الأولى، تتنوع مدارسه وأنواعه ولكن مساره الإنساني واحد، إنه فعل أخلاقي ضد الدمار والجريمة والقتل والتخريب، وهذا ما تكرس مع فنانين كثيرين لعلنا نربط بين اثنين منهما، رغم تباعدهما، هما بابلو بيكاسو وحازم بيطار.

جنود بخوذات حديدية تحجب ملامح وجوههم، يمسكون بنادقهم وهم على أتم استعداد لإطلاق النار على حشد من النساء العاريات والأطفال، وجوه يملأها الخوف والرعب، خلفهم تماما ثمة دمار المباني الذي يخبرنا بفظاعة الحرب ومآسيها، هكذا اختار بابلو بيكاسو أن يرسم لوحته “مجزرة في كوريا” ليقدم لنا الحرب بكل تداعياتها النفسية والمادية ويفضح ويكشف من خلفها وحشية الإنسان ويفكك لنا روحه المسكونة بالتسلط والاستعباد.

استطاعت اللوحة أن تثير التعاطف مع ضحايا الحرب أينما وجدوا وحشد الدعم للقضايا الإنسانية العادلة، وكرست بيكاسو كأحد أهم المبدعين المدافعين عن السلام، المناهضين للحروب، فتجاوز الفن معه بعده الثقافي إلى بعده الإنساني الذي يوحد الناس حول القيم والمثل المشتركة.

بيكاسو المقاوم
التقاطع بين السياسي والفني يجعل من الفن أداة مقاومة بيد المستضعفين وسلاحا لمواجهة سلطة القمع أينما كانت، لنجد أنفسنا أمام سؤال حارق ونحن نشهد في وقتنا الحالي أبشع المجازر الإنسانية التي ترتكب في حق الفلسطينيين من قبل المستعمر الصهيوني، هل مازال الفن في عصرنا الحالي أداة مقاومة وكيف استطاع توظيف إمكاناته لخدمة قيمه المثلى؟

يحاول الفن دائما الاصطفاف خلف القضايا الإنسانية العادلة ويسعى إلى أن يكون صوتها العالي الصادح المتمرد في وجه الظلم، ولعل أشد أوجهه هي الحرب ومدى تأثيرها المدمر على المدنيين الأبرياء. إن المتتبع لخطيّة المسار الفني يتبين بوضوح دوره الريادي في خلق مقاومة سلمية لكل ما يهدد وجود البشر وأمنهم وظهر هذا بشكل جلي أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية وبعدهما، ومن بين الأسماء التي برزت في نسج هذه السردية الدراماتيكية للحرب نجد في مقدمتهم الرسام الإسباني بابلو بيكاسو.

عمل بيكاسو على إنجاز أيقونته الفنية “غارنيكا” سنة 1937، والتي جاءت كرد فعل ضد كل أشكال العنف والاضطهاد، وساهمت في مزيد ترسيخ الوعي وتشكيل رأي عام موحد ضد الفاشية ووحشيتها، فهي تستوعب المشاهد وترمي به وسط الأحداث القاسية وتحوله إلى أحد ضحاياها، فيشعر المتلقي بأسى الضحية وحزنه، إذ أنها تعتبر تمثيلا قويا ومؤثرا لفظائع الحرب ومخلفاتها.

ولتكتمل أركان المشهد الحزين عمد بابلو إلى معالجة فنية تقنية بصرية ذكية من خلال الاعتماد على أسلوب “أحادية اللون”، مما أضفى إحساسا بالكآبة والارتباك والتشظي، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل في نهج المقاومة والرفض لأي شكل من أشكال الحروب، لتأتي سنه 1951 ومعها أيقونة إبداعية جديدة تؤرخ لخراب الحرب حملت عنوان “مجزرة في كوريا”، عمل إنشائي محبوك ببراعة بيكاسو المألوفة، حيث انتقد فيه الهمجية الإمبريالية الأميركية على الأراضي الكورية الشمالية التي راح ضحيتها ما يقارب أو يزيد من 35 ألف شخص.

ولأن تأثير الفن كان دائما أكثر بلاغة وأشد تعبيرا فقد اكتشف العالم مع “مجزرة في كوريا” بشكل أشد وضوحا فظاعة الجروح الإنسانية التي تتكرر مع كل حرب جديدة، فيتغير المكان لكن نتائجها تتكرر، “فالفن لم يخلق لتزيين الغرف إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء، وكما بدا من خلال المعارك التي مضت أنه على الإنسان أن يقاتل كل ما يهدد حريته”، بهذا المعنى يتحول الفن إلى بندقية مقاومة في وجه الخوف والقلق والرعب التي تنبتها الحروب فينا.

اللوحة صوت فلسطين
لأن العالم اليوم يشهد أبشع أيامه وأكثرها دموية حيث لا تتوانى الآلة العسكرية الحربية الإسرائيلية عن محو الأخضر واليابس فهي لم ترحم شيخا ولا طفلا، لا حجرا ولا شجرا الكل مهدد وفي أيّ لحظة بالفناء، حالة هستيرية مرضية يمارسها المحتل ضد أصحاب الأرض المقاومين، فلا يسعنا إلا أن ننظر إليهم بعين التباهي والانبهار تمجيدا لهذا الصمود الأسطوري لحق السكان الأصليين في التمسك بوطنهم.

وأمام عجز الجميع من منظمات دولية كالأمم المتحدة عن إيقاف كل هذا الدمار والعبث الذي كشف عنصرية العالم في التعامل مع هذه القضية، يجد الفنان الفلسطيني نفسه مجبرا على حمل راية الدفاع عن وطنه بعد أن خذله القريب قبل البعيد، ليقاوم ويفضح ويكشف بفنه قبح الدمار النفسي والمادي هناك من خلال توثيق ما يجري على أرض المعركة.

لن نجد تعبيرا عن الواقع الفلسطيني أبلغ من صور الرسام والسينمائي حازم بيطار الذي حاول بصوره الخارجة عن المتداول أن يكون لسان دفاع عن حق شعبه في أن يحيا بسلام وأمان في طرح وتصور جمالي فلسفي قل نظيره في عالمنا اليوم، حيث تحاشى السقوط المباشر في سرد حكايات وأوجاع شعبه ليلبسها ثوب الخيال والرمزية والواقع، ثلاثية ساحرة شكلت نواة أساسية في تشكيل تركيبة لوحاته فانزاحت بها من المحلية إلى العالمية لتلامس بها وجدان كل فرد حر.

منجزات الفنان حاولت التملص من البعد التوثيقي الذي طبع أغلب أعمال الفنانين الفلسطينيين (إعادة تمثيل التراث المحلي بمختلف أوجهه) إلى بعد تعبيري بصري غير مباشر يكشف فيه جراحات وانكسارات النفس، حيث الخراب يحيط بكل التفاصيل الحياتية اليومية للفلسطيني، يظهر هذا المعنى جليا في لوحة “رمال جنين الطاهرة”، فيها انتهج بيطار الترميز معنى تعبيريا يتأرجح بين الظاهر والخفي، بين الدال والمدلول لعبة أجادها ليضع المتأمل في حيرة الفهم فيفكك ويحلل رموز اللوحة ليصل إلى المغزى.

استطاع الفنان خلق حالة بصرية تستدعي من المشاهد جهدا لفهمها من خلال العمل على تصوير البيوت والمباني المدمرة ملبسا إياها ألوان العلم الفلسطيني، ليضفي على المكان هوية ثقافية ويجذره في السياق التاريخي، فخلف هذا الحطام وجع شعب وعدو يدمر ويهدم، رحلة بصرية امتزج فيها الخيال بالواقع لتنطق بلغة كونية عالمية محملة بشحنه عاطفية ومضمون وجودي فلسفي تجاه ضحايا الاستبداد والحرب.

العالم الساحر لبيطار
أجاد حازم بيطار تشكيل العملية الإبداعية داخل فضاء لوحته إذ نجح في إدارة توظيف النسب والظلال والضياء لخلق إيهام بصري سحري يشي بمشاعر الحزن والقلق والترقب لما قد يأتي ولا يأتي، مستفيدا في ذلك كله من خبرته الطويلة بعالم السينما حيث للضوء والظل الريادة في بلورة الشكل النهائي للّقطة السينمائية، كما هو الحال في المجال التشكيلي، فالمجالان لهما نقاط تماه عديدة متمثلة في الخط واللون والإيقاع.

بهذه الخبرات التقنية الواسعة استطاع بيطار أن ينسج صورة تشكيلية قريبة من عوالم الصورة السينمائية، فتتحول الصورة معه إلى تجربة جمالية ومخيال اجتماعي حسب قول الباحث الفرنسي جون دافينيون، لأن في تشكيلها تستدعي كل الفنون (السينما، الأدب، التصميم…) فتصبح الصورة هنا أداة تأثر وتأثير وهو ما من شأنه أن يدعم فكرة التفاعل بين الفنون لإنتاج صورة مبهرة ذات معنى دلالي، فالانفتاح على باقي الفنون الأخرى بات أكثر من ضروري، لأن ذلك يعني قطعا فتح نوافذ معرفية جديدة وآفاقا كونية للمنجز التشكيلي.

بين أنقاض الدمار وصراخ الأطفال وجراحاتهم حاول حازم بيطار أن يصبغ أعماله بمسحة أمل دسها بحرفية بين تفاصيل تركيبة لوحاته محاولا بذلك استبدال الواقع المضخم بالدمار بمشهد سحري خيالي، حيث لا صوت فيه للرصاص ولا أزيز لطائرة حربية ترسل من جناحيها الموت بسرعة البرق، عوالم من الأمل يتجاور فيها الواقعي مع السريالي مع الرمزي في مزيج مبهج يسر الناظر إليه.

للفنان قدرة بديعة على توليد الحياة من أنقاض اليأس، حياة أخرى ممكنة نقاتل بها الخراب والقتل اليومي سيتعثر بها المشاهد من الوهلة الأولى ويكتشف معها سر البقاء والخلود، فقد تخطى حازم بيطار حدود المنطق وحواجزه متسلحا بألوانه المشعة بالنور والنابضة بالحياة، ألوان تعج بعواطف لا مثيل لها تبعث في الروح السكون بعد أن أتعبها ضجيج الحرب .

لقد نجح بيطار في أن ينجو من فخ الموت بفنه وحلق بعيدا في عوالم سحرية فاتحا جناحيه للحياة على أمل أن تمنحه قليلا من الهدوء والسكينة راسما لنفسه مسارا إبداعيا مميزا يقاتل به أعداء الحياة وقاطفيها.

*كاتب تونسي
نقلا عن صحيفة “العرب