زيد خلدون جميل*
وضع الرسام الألماني اللوح الخشبي على الأرض في العراء، وبدأ بالرسم شارحا للصحافي الواقف أمامه أنها لوحة على طراز الرسام السريالي الألماني ماكس أرنست. وسأله الصحافي عن سعر اللوحة إذا باعها مدعيا أن ماكس أرنست قد رسمها، فكان جواب الرسام خمسة ملايين دولار. وكان السؤال التالي «كم سيستغرق رسمها؟» وهنا أتى الجواب سريعا «ثلاثة أيام وربما أقل». ولم يكن هذا الحوار من فيلم سينمائي، بل برنامج «ستين دقيقة» الأخباري الأمريكي الشهير. والرسام في هذا البرنامج لم يكن سوى ولفغانغ بيلتراكي Wolfgang Beltracchi الذي وصفه البرنامج بأنه ربما أعظم مزور لوحات في العالم، وكان من الواضح استمتاع الرسام بهذا الوصف. وضحك عندما سُئِلَ إن كان قادرا على تقليد ليوناردو دافنشي، أجاب مزهوا بالتأكيد، لكنه تواضع عندما اعترف بأن تقليد الرسام الإيطالي بلليني صعب جدا.
لم تكن تلك حالة شاذة، لكنها مثال تناوله الإعلام بشكل لافت للنظر لظاهرة خطيرة في عالم الرسم، ألا وهي تزوير أعمال الرسامين العالميين، وقد انتشرت هذه الظاهرة في جميع أرجاء العالم وعلى مختلف المستويات والأنواع، حيث طالت تزوير أعمال الفنانين العرب مثل خالد الجادر وشاكر حسن ولؤي كيالي وآخرين. وقد يظن القارئ أن التزوير الفني يعني رسم لوحات شهيرة وبيعها على أساس أنها أصلية، لكنّ هذا في الحقيقة شيء نادر، فالتزوير الأكثر نجاحا يتمثل في بيع لوحة أو تمثال غير معروف لفنان كبير. وقد يبدو هذا غريبا، لكنه في الواقع الخيار الأسهل، فمن المعروف أن اللوحات الموجودة حاليا في المتاحف والمعارض والمجموعات الخاصة، أي التي يملكها أثرياء، هي بعض ما رسمه الفنانون الكبار حيث تضيع الكثير من اللوحات أو تسرق. وقد تُذكَر بعض هذه اللوحات في المراجع الفنية مع وصف بسيط لها. ويعرف الخبراء كذلك أن لوحات لكبار الرسامين العالميين تكتشف بين الحين والآخر، بل إن بعض أشهر الرسامين في العالم أصبحوا بتلك الشهرة بعد وفاتهم مثل، فان كوخ وبول سيزان، ما أثار موجة عالمية للعثور على لوحاتهم التي بيعت بأبخس الأثمان. ولهذا السبب قام بعض كبار المزورين بالبحث عن تفاصيل تلك اللوحات المفقودة، لاسيما لوحات رسامي نهاية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر. ولماذا رسامو هذه الفترة بالذات؟ الجواب بسيط، فالتزوير لا يقتصر على تقليد أسلوب الرسام الشهير، بل استعمال المواد التي كانوا يستعملونها في رسومهم. ومن الممكن العثور على مثل هذه الأشياء حاليا، فإذا كان الرسام الشهير يرسم على لوح خشبي، فالعثور على أثاث خشبي قديم من تلك الفترة ممكن ورخيص جدا. والأمر سيان إذا كان الرسام الشهير يرسم على قماش قطني، حيث من السهولة العثور على لوحة رخيصة من تلك الفترة مرسومة على قماش قطني، إذ يقوم المزور بإزالة الرسم الأصلي للحصول على قطعة قماش قطني فارغ من فترة الرسام الشهير. أما الألوان، فالمزور الماهر لا يستعمل الألوان المعروضة في الأسواق، بل يقوم بصناعة الألوان بنفسه كما كانت تصنع في تلك الفترة ويختار الألوان التي كان الرسام الشهير يفضلها، بالإضافة إلى ذلك يحاول المزور رش التراب أو القهوة على الجانب الخلفي للوحة لأعطائها مظهرا قديما. ويمتاز رسامو تلك الفترة ببساطة استعمال الفرشاة، على عكس رسامي الفترات الأقدم.
ولفغانغ بيلتراكي
لتىسهيل فهم عملية التزوير، لنأخذ المزور الألماني ولفغانغ بيلتراكي الذائع الصيت كمثال، فهو يدرس أسلوب فنان شهير متوفى بعناية فائقة، من حيث الأسلوب والألوان ويزور المناطق التي كان ذلك الرسام يزورها ليدرس إلهامه، وحتى يدرس هوايات ذلك الرسام وحالته النفسية والاجتماعية، وكيفية جلوسه أو وقوفه عند رسمه اللوحات. لكن المشكلة كانت تكمن في كيفية تقديمها إلى المعارض الشهيرة التي كانت تشتري لوحات المشاهير ذات الأسعار الباهظة. وكانت البداية عندما ذهب إلى أحد دور المزاد الشهيرة، عارضا لوحة ادعى أنها من رسم الرسام الفرنسي الكبير جورج فالميير Georges Valmiers (1885 – 1937) وكان مرتبكا جدا، إلا أنه فوجئ بقبول خبيرة ذلك المعرض تلك اللوحة معتبرة إياها أثرا بالغ الأهمية للرسم التكعيبي. لكن بيلتراكي أدرك أن طريقة الاتصال بدور المزاد يجب أن تكون أكثر إقناعا، فالمعرفة الشخصية والأوراق التي تشرح تاريخ اللوحة ذات أهمية قصوى، ولذلك اعتمد على زوجته وشخصية مرموقة في عالم المعارض لتسويق لوحاته. وكان دور زوجته مثيرا للاهتمام، فقد كان جدها جار أحد أشهر معارض اللوحات في بداية الثلاثينيات. وكان صاحب ذلك المعرض قد فر من ألمانيا عام 1933 بسبب تسلم النازيين السلطة في البلاد، تاركا معرضه الذي اختفت لوحاته إلى الأبد. وبما أن جد زوجة المزور الألماني كان ثريا، فقد أدعى المزور الألماني أن صاحب المعرض قد باع اللوحات إلى جد الزوجة. ولزيادة الثقة في الادعاء قام بتزوير علامة تجارية قديمة الشكل لذلك المعرض وعليها صورة صاحبه، وألصقها في الجانب الخلفي للوحة. أما إذا شك أحدهم بالأمر وفي تاريخ اللوحة، فكان المزور الألماني يزيد من أدلة تاريخ اللوحة، ففي إحدى المرات شك أحد الخبراء بلوحة قدمها المزور الألماني، فادعى المزور الذكي بأنها كانت معروضة في معرض شهير في ألمانيا عام 1924 وأبرز صورة فوتوغرافية قديمة لذلك المعرض تظهر فيها اللوحة معلقة على الحائط وتجلس أمامها جدة زوجة المزور، وكان ذلك كافيا بالنسبة للخبير. وفي الحقيقة أن ذلك المعرض الشهير الذي أقيم عام 1924 لم يعرض تلك اللوحة، ولم تكن الصورة حقيقية حيث إن المرأة كانت زوجة المزور مرتدية ملابس من طراز عشرينيات القرن العشرين. وتذكر المصادر أنه كان أحيانا يرسل لوحاته بنفسه إلى مختبرات مختصة بفحص الأعمال الفنية، قبل عرضها على المعارض كي تكتشف أخطاءه ليتجنبها في أعماله التالية.
أعمال المشاهير
كان تزوير المزور الألماني بارعا، حيث اهتم بكل التفاصيل الممكنة ومنها، توقيع مشاهير الرسامين، فعندما زور لوحة للرسام الفرنسي فرديناند ليجير الذي توفي عام 1955، أكد ابن الرسام الراحل صحة توقيع والده على اللوحة فور رؤيته له. ولم يكن لدى زوجة الرسام الألماني ماكس أرنست أدنى شك بصحة لوحة نسبت إلى زوجها بيعت بمبلغ سبعة ملايين يورو، بل اعتبرتها أفضل ما رسمه في مجال المناظر الطبيعية، بينما كانت اللوحة في الحقيقة من رسم المزور الألماني. وحدثت المفاجأة يوم الواحد والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر عام 2006 عندما قام أحد جامعي اللوحات العالمية بشراء لوحة للرسام الألماني الكبير هاينرخ كامبندوك بعنوان «لوحة حمراء مع خيول» من أحد دور المزاد الشهيرة في ألمانيا، بمبلغ مليونين وثمانمئة ألف يورو، وكانت من مجموعة صاحب المعرض الذي هاجر من ألمانيا عام 1933. واتصل الشاري بمديرة أحد المعارض السويسرية لمشاهدة اللوحة مبلِّغا إياها، أن ما لديه سيثير إعجابها، لكن اللوحة لم تثر إعجابها، بل شكوكها، حيث لم تكن مقتنعة باللوحة، أو الوثائق المصاحبة لها. وزاد من تساؤلها علامة صاحب المعرض القديم. وكانت تعرف أن هناك خبيرا واحدا فقط في العالم بالنسبة لمجموعة ذلك المعرض القديم، فاتصلت به وشاركها في شكوكها، حيث وجد تلك العلامة غير مقنعة. وللبت في أمر هذه اللوحة أرسلت إلى مختبر في بريطانيا لفحصها، وكان الأثنان على حق، أذ أكتشف المختبر أن الصمغ المستعمل للصق علامة صاحب المعرض القديم كان جديدا وأن الجانب الخلفي للوحة مغطى بطبقة من القهوة. وأما اللون الأبيض في اللوحة، فيحتوي على مادة التيتانيوم التي بدأ استعمالها في عشرينيات القرن العشرين، بينما من المفروض أن اللوحة رسمت عام 1914. وبالتالي كان القرار أن اللوحة مزورة، وهنا بدأت التحقيقات وسرعان ما ألقي القبض على المزور الألماني وزوجته وشقيقتها وشريك آخر أثناء هروبهم، على الطريق السريع في ألمانيا بطريقة سينمائية. وسبّب إلقاء القبض عليه عاصفة هوجاء عصفت بعالم الفن حيث حامت الشكوك حول جميع اللوحات التي تبيعها دور المزاد العالمية وسرعان ما أعاد الكثير من الزبائن اللوحات مطالبين بنقودهم، حتى إذا لم تكن هناك أي شكوك حولها، فعلى سبيل المثال كان جامع اللوحات الفرنسي المعروف جوليانو رفيني قد باع خمسة وعشرين لوحة بمبلغ مئة وتسعة وسبعين مليون جنيه إسترليني، وما أن اكتشف أن إحداها قد زورت من قبل المزور الألماني حتى شك الجميع بالمجموعة برمتها. ومما زاد الطين بلة أكتشاف الخبراء وجود خصائص مشتركة في جميع اللوحات التي زورها ذلك الألماني الشهير.
صحة اللوحات
وتضررت سمعة الخبراء العالميين المختصين في تأكيد صحة اللوحات، فمثلا قام أحد أشهر خبراء اللوحات في العالم بتأكيد صحة سبع لوحات للرسام الألماني ماكس أرنست، وعندما بيعت تلك اللوحات استلم ذلك الخبير العالمي مبلغ 400000 يورو مقابل أتعابه، وشمل هذا عمولته في عملية البيع، لكن التحقيق أثبت أن تلك اللوحات السبع كانت من تزوير المزور الألماني. واتهم أحد الخبراء الألمان بالتواطؤ مع المزور الألماني. وتعرضت سمعة أشهر دور المزاد والمعارض في العالم إلى ضربة عنيفة، جعلتهم يدون وكأنهم مجموعة من المحتالين أو الهواة على الأقل، وبدا الأثرياء الذين يشترون اللوحات وكأنهم مجموعة من الحمقى. واكتشف المحققون أن هذا المزور الألماني كان قد قضى ثلاثين عاما في هذه المهنة حيث زور ما بين مئتين أو ثلاثمئة لوحة لحوالي مئة رسام عالمي متوفى.
استغل المزور الألماني عملية التحقيق معه ومحاكمته للظهور أمام كاميرات الصحافة والتلفزيون وكان استمتاعه واضحا بكل هذه الاهتمام، لكن استمتاعه بهذا الاستعراض كان قصيرا، إذ لم تدم المحاكمة، التي أدانته بتهمة تزوير أربع عشرة لوحة، أكثر من عشرة أيام نظرا لتوصل الادعاء العام ومحامي المزور وزوجته إلى اتفاق، حيث حكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات بينما حكم على زوجته بأربع سنوات وأمرت المحكمة المزور بدفع غرامة مقدارها خمسة وثلاثين مليون يورو. وقد تم التعرف على ستين لوحة مزورة من قبله. ويعني هذا أن أغلبية لوحاته المزورة ما تزال في المعارض والمجموعات الخاصة على أساس أنها أصلية.
أفرج عنه بعد أربع سنوات بينما أفرج عن زوجته بعد سنتين، ولم تكن فترة السجن مزعجة حيث كان السجن مفتوحا، أي أن المزور وزوجته كانا يقضيان الليلة في السجن، بينما يخرجان للعمل في ستوديو تابع لأحد أصدقائهما. وكانت المحاكمة سببا في جعل المزور شخصية شهيرة في عالم الفن حتى إذا كان السبب إجراميا. والغريب في الأمر أن الإعلام لم يعتبر هذا المزور مجرما، إذ أُلف عنه كتابان وأنتجت عدة أفلام وثائقية عنه وظهر في برامج تلفزيونية عديدة، ما جعله أشهر مزور للوحات في العالم. ويكشف هذا عن الأعجاب الغريب بكبار المجرمين من قبل الجمهور.
ما يزال المزور الألماني ولفغانغ بيلتراكي يرسم اللوحات، لكن باسمه. وفي نهاية المطاف فالسؤال هو، ما هو رأي الخبراء الذين اكتشفوا تزويره باللوحات المرسومة باسمه؟ يقولون إنه عديم الموهبة، وإنه في أفضل الأحوال فنان سيئ. لم يتوقف تزوير اللوحات بعد القبض على المزور الألماني الشهير، بل ما يزال كبيرا، وتستمر الفضائح، فقد أغلق أقدم معرض للوحات في نيويورك بسبب بيعه لوحات زورها مهاجر صيني في مرآب مهجور. وضج عالم الفن بفضيحة متحف أورلاندو للفنون الشهير في الولايات المتحدة الأمريكية عندما اكتشفت السلطات الأمريكية أن جميع اللوحات المعروضة فيه، والمنسوبة للرسام الفرنسي جان مشيل باسكيات، مزورة.. واكتشف أن أكثر من عشرين لوحة معروضة في مدينة جنوى الإيطالية للرسام الإيطالي الراحل أميدو موديلياني مزورة. وقدر أحد الخبراء أن نصف اللوحات العالمية حاليا مزورة، على الرغم من ظن بقية الخبراء أن هذا التقدير مبالغ به.
وإذا كان هذا المزور الألماني قد خالف القانون والأخلاق، فكبار الفنانين العالميين لم يكونوا أفضل منه أخلاقيا، فمايكل أنجلو، الذي يعد أحد أعظم النحاتين في التاريخ، قام عام 1496 بنحت تمثال على الطراز الروماني ودفنه تحت الأرض ثم قام بتمثيلية اكتشافه مدعيا أنه تمثال روماني تاريخي وباعه. أما بابلو بيكاسو الذي يعتبر أشهر رسام في القرن العشرين، فعثرت الشرطة الفرنسية على قطعتين فنيتين لديه كانتا قد سرقتا مع قطع أخرى من متحف اللوفر في باريس. وادعى بيكاسو عدم معرفته بكونهما من المتحف، على الرغم من أن جملة «ملك لمتحف اللوفر» كانت واضحة على قاعدة كل منهما. وكان ذلك أحد أسباب التحقيق مع بيكاسو كمشتبه فيه عندما سرقت لوحة «الموناليزا» عام 1911. والجدير بالذكر أن «الموناليزا» نفسها لم تكن في مأمن، ظن البعض أنها مزورة منذ تعرضها للسرقة.
*باحث مؤرخ من العراق