للوهلة الأولى قد يخيل للناظر إلى منسوخة للوحة من لوحات الهولندي فيرمير، أن ما ينظر إليه لوحة ضخمة لها أبعاد تليق بالمشهد الذي تقدمه حتى ولو غلب على المشهد كونه لا يضم سوى شخص واحد هو في معظم الحالات هنا امرأة، كل ما تفعله هو أنها تقوم بعملها اليومي الذي اعتادت أن تقوم به وحتى من دون أي تفكير أو إعداد خاصين. إنه عمل تلقائي من الصعب القول إنه يحتاج حقاً إلى تخطيط أو استعداد. كل ما يحتاج إليه إنما هو مسطح أبيض وريش وألوان ونظرة يلقيها الرسام، غالباً على محيط حياته وعلى نساء بيته ليطلع المشهد من بين يديه مفعماً بالحياة يعكس بالأحرى تلك الحياة التي قد نسميها اليوم، حياة البورجوازية الصغيرة المدنية في عالم يتغير ويتخذ لنفسه شكلاً ومحتوى ووظيفة، السمات التي سيستقر عليها عصوراً طويلة بعد ذلك.
ففي نهاية الأمر، كانت الحقبة التي اشتغل فيرمير خلالها واحدة من تلك الحقب الانتقالية التي تعد بأنها ستترسخ بعد ذلك. وربما أكثر من ذلك، ترسخ قيماً وجدت نابعة من ظروف اجتماعية واقتصادية وجمالية وربما أخلاقية أيضاً تمثل نقلة نوعية في الحياة الاجتماعية كان من مهام الفنان أن يلتقطها ليؤسس انطلاقاً منها. ومن هنا لا شك أن فيرمير، وهو الحالة التي تعنينا هنا تحديداً، كان مدركاً، ولا سيما من خلال لوحاته “النسائية” – أي اللوحات التي صور فيها نساء ربما كن في معظمهن من أهل بيته، بالنظر إلى أن ذلك البيت كان يعج بالنساء. فالفنان كان أباً لسبع بنات وكان لديه في البيت من الوصيفات والخادمات والجارات والقريبات ما قد يصل إلى عدد مماثل – كان مدركاً أن المطلوب منه هو أن يعكس في لوحاته مشاهد الفضيلة المرتبطة أصلاً بالحياة اليومية، أو الحياة المطلوب تصويرها انطلاقاً من اليومي… في الأقل.
من دون شكوى أو تذمر
ومن هنا لا بأس أن نلاحظ أن في لوحات فيرمير التي صور في غالبيتها نساءً يقمن بأعمالهن وحيدات من دون شكوى أو تذمر أو أي نوع من أنواع التبرم، تهيمن الفضيلة على سلوك النساء حتى وإن كانت واحدة منهن تلتفت فجأة إلى الرسام بشيء من الوقاحة أو بدهشة في الأقل (لوحة “الفتاة ذات اللؤلؤة” التي تلقب عادة بموناليزا الشمال!). أو حتى لو كانت المرأة التي يصورها فتاة هوى تمارس مهنتها من دون خجل أو ندم (لوحة “السمسارة”). وعلى العكس من ذلك يبدو الرجال في لوحاته إما شبقون يحاولون إفساد أخلاق الفتيات، وإما علماء ومفكرون لا يهمهم من شؤون الحياة سوى إنجاز عملهم الذي يعبر عنه الرسام من خلال عديد من العناصر التي يضفيها على اللوحة خالقة من حول شخصياتها أجواء موحية أو مباشرة. ومهما يكن من أمر هنا، لا بد أن ننظر بإمعان وتحديداً بالنسبة إلى لوحة “وعاء الحليب”، التي نتوقف عندها والمعتبرة واحدة من أجمل لوحات فيرمير و… أصغرها على أية حال على رغم أنها واحدة من تلك اللوحات التي يوحي تأمل نسخة عنها بأنها كبيرة الحجم. ففي نهاية الأمر لا يزيد ارتفاع “وعاء الحليب” (1660 – 1661)، كثيراً على 45 سم مقابل عرضها البالغ 41 سم (وهي معلقة في ريكجميوزيوم في أمستردام)، وهي تكاد تشكل ما قد نسميه ثلاثية المرأة في حياتها اليومية، إلى جانب “شاغلة الدانتيلا” و”وازنة الذهب” وهي لوحات ثلاث تنتمي إلى فترة متقاربة، والطريف أن “وعاء الحليب” هي الأكبر بالنسبة إلى مقاييسها بين اللوحات الثلاث. لكن هذه معاً تشكل متناً اجتماعياً وربما أخلاقياً واحداً. هذا ناهيك بأن ما يجمع بينها بشكل أخاذ هو أن النساء الثلاث اللاتي تمثلهن اللوحات لا يبدو عليهن أنهن يبالين على الإطلاق بالرسام الذي يلتقط المشهد.
عمل روتيني
إنهن غارقات تماماً وكل منهن في العمل الذي تقوم به، وهو من الجلي أنه عمل روتيني لا يتطلب من أي منهن تصرفاً استثنائياً يخرج عما هو مألوف. بل تكاد الواحدة منهن، ولا سيما في تآلفها المعتاد ليس فقط مع المكان – البيت على الأرجح – الذي تمارس فيه عملها، بل كذلك مع واقع أن ثمة رساماً قد يشكل في حد ذاته “العنصر الخارج عن المألوف في المشهد كله”، تكاد تبدو وكأن تلك الوقفة “اللامبالية” في حضرة الرسام إنما هي بدورها مهمة تقوم بها بشكل تلقائي لا يحتاج إلى تفكير خاص ولا يثير لديها أية دهشة – ولنلاحظ هنا، في المقابل، الدهشة المحملة بالمعاني التي لا يمكن إلا أن نلاحظها على وجه “موناليزا الشمال”، وقد “أدركت” أن المعلم يصورها! مهما يكن لا بد من العودة هنا إلى الظروف التي حقق فيرمير خلالها تلك اللوحات الثلاث ولا سيما منها “وعاء الحليب” التي قد يمكن اعتبارها واحدة من أكثر لوحات مرحلة نضجه تعبيراً عما يمكننا أن نعتبره قلبة أساسية في فنه.
وريث شرعي
ففي المرحلة التي انصرف فيها هذا الفنان الاستثنائي والمقل في إنتاجه على أية حال، إلى تعيين نفسه وريثاً شرعياً لما يسمى “فن النوع” في الرسم الهولندي، أي فن رسم لوحات منزلية بعدما نزل الفن من عليائه إلى أرض الواقع، ومن جدران الكاتدرائيات وقصور علية القوم إلى بيوت الطبقات المتوسطة، كان لا بد أن يطاول مواضيع الرسم تبدل أساس أيضاً، فكان فيرمير واحداً من الذين التقطوا الفكرة ومن هنا، بعد أن كان قد قدم نفسه كمعادل للأستاذ الكبير بيتر دي هوخ في رسم المشاهد المنزلية الداخلية ذات الشخصيات المتعددة – بما في ذلك مشاهد السيدات وخادماتهن والمحملة بالمعاني وضروب الإثارة – ها هو ذا الآن يجري نوعا التجريب التوليفي من حول شخصية واحدة في اللوحة لا شك أن “وعاء الحليب” كانت نموذجاً مميزاً عن النجاح الذي حققه في مجالها هذا. وكان لافتاً كيف أنه أقدم على خوض تلك التجربة من خلال نوع فني كان منسياً بعض الشيء حينها، نوعاً يطلق عليه اسم “لوحات المطابخ”. وهو نوع كان فنانون معروفون سابقون لفيرمير قد حققوا في مجاله هذا نجاحات كبيرة. ومنهم بيتر آرتسن ويواكيم بوكلاير اللذان عرفا على نطاق واسع قبل ذلك بقرن من الزمن وانتشرت لوحاتهما في البيوت من خلال المنسوخات بخاصة. ولعل اللافت هو أن تلك اللوحات ويدور معظم مشاهدها و”أحداثها” في مطابخ البيوت بحيث غالباً ما تكون للخادمات أدوار أساسية فيها. وكان من المعروف والمعتاد أن تموج تلك اللوحات بالحياة.
المطبخ مركز الحياة المنزلية
والحقيقة أن هذه اللوحة التي ترافق هذا النص هنا تبدو خير نموذج على تلك الحياة التي تبدو وكأنها جعلت من المطبخ مركز البيت الذي بالكاد يمكن أن نلمح فيه أثراً لوجود رجالي. واللافت هنا هو أن المشهد نفسه لا يعبر عن أية دونية للمرأة أو عن أية بؤسوية. فالمرأة هنا – وهي بالتأكيد كبيرة الخادمات كما تدل ثيابها ووقفتها الواثقة من نفسها وتعاملها مع أغراض المطبخ بكونها أسلحتها الخاصة – تعرف ماذا تفعل وتعتبر نفسها محور ما يحدث إلى درجة أنها لا تبدو مهتمة بقرب نظر من يتأمل اللوحة من الحوائج والعناصر التي تعرف أنها هي المتحكمة بها في نهاية الأمر، وهو أمر قد يكون من اللافت كم أن منسوخة طبعت قبل فترة في أمستردام تمثل اللوحة في ثلاثة أبعاد تكشف عن ذلك الإحساس، الذي يخامر الناظر إليها حين يحرك المنسوخة أمام عينيه فيبدو كل ما فيها متجسداً متحركاً يكفي مد الأصابع لالتقاطه! ومهما يكن من الأمر في النهاية هنا، من الواضح أن ما أغرى الرسام بأن ينقل هذا المشهد ويخلده إنما هو بساطته وتواضعه وعاديته. فمع تلك الحقبة الانتقالية في الفن “المنزلي” الهولندي كان قد بات من الواضح أن الفن الكبير بات الفن البسيط، والجمال الاستثنائي ينطلق من كل ما هو عادي. وهو ما التقطه فيرمير (1632 – 1675) واشتغل عليه بحذق بالتأكيد.