تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » «فتاة صغيرة» لكريستوس… تحفة سبقت عصرها

«فتاة صغيرة» لكريستوس… تحفة سبقت عصرها

الرسام الهولندي بيتروس كريستوس «نحو 1420 -1475»، يعد واحداً من أهم رسامي عصر النهضة المبكر الهولندي نشط في مدينة بروج جنباً إلى جنب مع الرسام هانز ميملينج، وأصبح الرسام الرائد بعد وفاة جان فان إيك، حيث تأثر كريستوس بهذا الأخير كثيراً، إضافة إلى الرسام روجير فان دير وايدن، واشتهر برسوماته وابتكاراته ذات المنظور الخطي والتقنية الدقيقة التي تبدو مستمدة من المنمنمات وزخرفة المخطوطات، ويُنسب إليه اليوم نحو 30 عملاً، من أشهرها صورة كارثوسي، اعتبر الرسام الرائد والأهم في بروج، التي كانت آنذاك مركز الرسم الهولندي.

كان كريستوس شخصية مجهولة لعدة قرون، وبالكاد يذكره المؤرخ الفني جورجيو فاساري في سيرته الذاتية للرسامين، لاحقاً، أصبح كريستوس معروفاً وذا مكانة كبيرة في عصره، وأجريت حوله بحوث كثيرة كتلك التي قام بها كل من جوستاف فاغن، ويوهان ديفيد باسافانت، حيث بذلا جهداً كبيراً على مستوى سيرته الذاتية، وأعماله الفنية، ويشار إلى أن كريستوس ولد في بارله، بالقرب من أنتويرب وبريدا، في هولندا، واعتبر لفترة طويلة تلميذاً وخليفة لجان فان إيك، وقد تم الخلط بين لوحاته في بعض الأحيان مع لوحات فان إيك، نسبة للتشابه الكبير في الطريقة والأسلوب والمواضيع.

وعند وفاة فان إيك عام 1441، تولى كريستوس إدارة ورشة أستاذه. وقد اشتهر بكونه رساماً مستقلاً ومشهوراً، ويقال إنه سافر إلى إيطاليا وتأثر بحركة الفنون هناك.

لوحة

لوحة «فتاة صغيرة»، هي واحدة من الأعمال المميزة للفنان كريستوس، ورسمت على شجر البلوط نحو عام 1470، وقد أنجزت بطريقة مبتكرة للغاية ولم تكن معروفة في ذلك الوقت، ونفذت بخلفيات مفصلة وليست مسطحة، وتأثرت بخبرة الفنان في المنمنمات والزخارف، واهتمامه بالمنظور الخطّي والتقنية الدقيقة، وقد اعتبرت اللوحة أيقونة فنية غاية في الجمال، ووجدت صدى كبيراً في زمن الفنان وعند النقاد ومؤرخي الفنون في العصور اللاحقة والحديثة، فأعجبوا بتقنية الرسم التي تثير الأسئلة والنقاشات حول اللوحة، أشار عدد منهم إلى أن اللوحة تمثل نقلة فنية كبيرة وحقيقية في مجال فن التصوير المعاصر، لكون فتاة اللوحة تظهر وخلفها فضاء واسع وواقعي وثلاثي الأبعاد، كما أن الشابة تبدو وكأنها تحدق نحو المشاهد، ويرتسم على وجهها تعبير معقد يمزج بين التحفظ، والذكاء، والانتباه، ولكل تلك الأسباب والملاحظات النقدية، اعتبرت اللوحة من أبرز فنون التصوير خاصة في تلك المناطق الواقعة شمال جبال الألب، وهي المناطق التي تأخر وصول النهضة الإيطالية إليها نحو أواخر القرن الخامس عشر، وأثرت في النهضة الألمانية والفرنسية والإنجليزية والبولندية والبلدان المنخفضة والحركات الوطنية والمحلية الأخرى، وكان لكل منها خصائص ونقاط قوة مختلفة.

لؤلؤة

وصف المؤرخ الفني جويل أبتون الفتاة بأنها تشبه «لؤلؤة مصقولة تبدو عاكسة للضوء على وسادة من المخمل الأسود»، ولعل أبتون يشير إلى دقة وبراعة الفنان في صنع قطعة فنية نادرة بالفعل، خاصة على مستوى استخدام التقنيات وتوظيف الضوء والظلال وتوزيع الألوان بطريقة مبتكرة، إلى جانب تلك الخليفة المدهشة، ويشير بعض النقاد إلى أن «فتاة صغيرة» تأثرت بأسلوب كل من جان فان إيك وروجير فان در فايدن، وزادت شهرتها ومكانتها في العقود التي تلت، ولفتوا إلى أن جاذبية الصورة تنبع من النظرة المحدّقة المثيرة للفضول، وذلك الانحراف البسيط في الحاجبين.

«فتاة صغيرة» لكريستوس… تحفة سبقت عصرها

يشير مؤرخو الفن، إلى أن كريستوس رسم الفتاة في مشهد تراجيدي ينمّ عن شخصية فاضت بالكثير من الحزن بزاوية معمارية متزنة، فقد تركزت هيئة الفتاة في نطاق مستطيل الشكل، فيما توازت المنطقة المكسوة بالخشب مع رداء الفتاة الذي يعلوه عقد على خط العنق، واتخذ شكل المثلث في هيئته، كما أن الخلفية لا تنتمي إلى المعايير المعهودة في فن التصوير، وقد أضاف الفنان على الخلفية البنية بعض الرتوش البسيطة، وذلك على النقيض من مبدأ الرسام جان فان إيك، مما يشير إلى روح الابتكار عند كريستوس، حيث احتوت خلفية اللوحة في طياتها العديد من اللمسات الفنية؛ وتميزت الطبقة العليا بلون مغاير وطبقة خشبية، والطبقة السفلى بطابع خشبي كثيف، وعكس الحائط الخلفي صورة واقعية قصد بها على الأغلب تشكيل صورة حية مفعمة بالحيوية وتظهر الفتاة وكأنها في منزلها.

يلاحظ المشاهد ذلك الضوء الذي يسقط من ناحية اليسار على الخلفية، وهذا يسهم في انعكاس بعض الظل عليها، كما أن لون قبعة الفتاة عمّق من ظلال الخلفية، وساهم اللون الأسود على الحائط في إضفاء العمق والأصالة، وتأكيد الاتجاه الفكري الذي بدأه الرسام فان أيك، فالضوء يسقط بعض الومضات سوداء اللون وتشكل سيلاً من الظل في الحائط الخلفي المعاكس للفتاة والتي تتكامل مع وجنتها وخط شعرها.

يشير مؤرخون آخرون إلى أن الفتاة ذات لون باهت ومقلتين تشعان بوميض شرقي خافت، وهي ذات فم حاد، ورسمها يعكس ظلال الفن المثالي القوطي كما يظهر في التعابير الغامضة للوجه، والأكتاف الضيقة، والشعر الذي عمل الفنان على ستره بطريقة متقنة، بالإضافة إلي الجبين الواسع العريض غير المألوف والذي ظهر بوضوح من خلال تمشيط شعر الفتاة إلى الخلف، حتى تكاد تنعدم رؤيته في المقدمة، وترتدي الفتاة في اللوحة ثياباً فخمة، وتزينت بالمجوهرات غالية الثمن، والملاحظ أنها ترمي المشاهد بنظرات ثاقبة وواعية في حذر شديد، وهو الذي يجعل اللوحة واقعية ونابضة بالحياة.

هوية الفتاة

أجريت حول اللوحة الكثير من الأبحاث التي استهدفت الكشف عن هوية الفتاة، وأشار مؤرخ ألماني إلى انتماء الشابة إلى إحدى العائلات الإنجليزية المرموقة وهي أسرة جون تالبوت وهو شخصية شهيرة، وكان تالبوت قد قتل في معركة كاستيون عام 1453، والحقيقة أن الأبحاث طالت الكثير من الجوانب في اللوحة الموجودة اليوم في متحف جيمالد جاليري للفنون في برلين/ ألمانيا.