تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » زها حديد… فنَّانةٌ تشكيليَّة معمارية

زها حديد… فنَّانةٌ تشكيليَّة معمارية

زها حديد… فنَّانةٌ تشكيليَّة معمارية

زها حديد ليست مهندسةً معمارية فقط، بل، كما أتمثَّلُها دائماً، هي فنانة تشكيلية معمارية، من قبيل الفنانين السرياليين والتكعيبيين الكبار، الذين كانوا يميلون إلى الأشكال الهُلامية، أو ما لا يمكن تحديد هويته أو شكله بسهولة، بمقارنته بغيره مما يوجد في الطبيعة، فالهوية والشكل عند زها حديد، فنيان جماليان، وهُما ابتكار زُها، بما تُضْفِيه أشكالها على الفضاء من إبداع، لا يقتصر على العمارة في ذاتها، بل على المكان والزمان معاً، المكان من حيث ما يُضْفِيه عليه من خصوصية تُغَيِّر ملامحه، وتُغَيِّر طبيعتَه، ورؤيته البصرية، وبما تُضْفِيه هذه الأشكال على الزمان نفسه من تَغَيُّرات وتبدُّلات، من حيث الضوء والظل، ومن حيث الألوان التي هي ألوان طبيعية، لكنها ألوان تخرج عن طبيعتها، بما يحدث فيها من انعكاساتٍ على مواد البناء، أو مواد الرَّسْم والتشكيل بالأحرى.

دائماً، كلما وقَفْتُ أمام عمل من أعمالها، وهي، في حقيقتها ليست بنايات، كما يحدث أن أجد عند غيرها من المعماريين، بل هي أعمال فنية بديعة، تتغيَّر رؤيتها بما يتغيَّر به النَّهار نفسه، بين الصباح والمساء، وبما تتغيَّر به الفُصول الأربعة نفسها، وتتغيَّر به زاويا النَّظَر. فَكُلّ زاوية، كأنها عمارة أخرى، أو عمل آخر، لأنَّ زها حديد، لا تُكرِّر نفسَها، أو لا تُكرَّر أعمالها، فهي حريصة على الخلق والإبداع.

يمكن، في هذا السِّياق الفنِّيّ الجمالِيّ أن أتحدَّث عن شعرية المعمار، أو شعرية هذه الأعمال التشكيلية المعمارية عند هذه المهندسة الفنانة، فعَمُلها، ونحن نتمعَّنُ فيه بِعُمْق وتأنٍّ، هو كتابة، وهو لُغَة، وعلامات، ورموز، تستمدّ إبداعيتها من طبيعة ما تختلقه من أشكال، بعضُها كأنَّها مصنوع باليَد، بأشكالها المَخْرُوطيَّة، وبما تُوحِي به من تعرُّجات، وتَفْضِية خرائِطِية، أو مَتاهِيَّة لا تستنفدها العين، لما فيها من تَشَابُكات وتصادِياتٍ.

لا يمكن رؤية واحِد من أعمالها دُفْعَةً واحِدَة، بل إنّنا نحتاج إلى أكثر من زيارة، وأكثر من زاوية، وأكثر من لحظة من لحظات النهار، وكذلك الليل، فليست أعمالها التشكيلية المعمارية هي نفسها في كل الأوقات، كما يحدثُ في عمارة ما بعد الحداثة، التي اعتمدت في موادها على الزُّجاج الذي ينعكس عليه الضوء والظل، ويمنح العمارة أكثر من وجه، وأكثر من واجهة، ويُوسِّع فضاءاتها ومساحاتها بصرياً.

زُها حديد، ابتكرت عمارةً غير مسبوقة، ما جعلها فنَّانَة معمارية عالمية، لا تذهب إلى بلد من بلدان العالَم، في أوروبا، أو في آسيا، أو في العالم العربيّ، دون أن تجد يَدَها فيها، أو ما أنشأتْه فيها من جمال. فأعمالها، في أي مكان تكون فيه، هي متاحف في الهواء الطلق، وهِيَ تجريبٌ في الشكْل والمادة، وفي المحتوى.
ولعلَّ البقاء خارِج هذه العمائر، والنَّظَر إليها في ضوء الشمس، أو ظلمة الليل، لا يكفي لاكتشاف كُنْه هذه الأعمال الفنية المعمارية، فما لم ندخُل إليها، فلن نكتشف ما يربط الداخِل بالخارج، أو العُمْق بالسطح. وهذه من خِصال ابتكاراتها، فعمارتها تُشْبِه متاهةً، من يدخل إليها، عليه أن يعرف كيف يتحرك فيها، وكيف يستمدّ من جمالها ما يملأ رويته بطرافتها الفنية، وما تكْتَنِهُه من أشكال، ومن تعرُّجات، والتواءات، فهي، في السياق المعماري التاريخِي لنَسَب زها حديد، تُشْبِه ما عرفْناه وقرأناه عن بُرْج بابل، لكن أبْراج زها حديد، هي أبراجٌ بابلية مُفْعَمَة بالخيال، وبالدَّهْشَة، وبنشوة الاكتشاف.

لا تفصل زها حديد، في أعمالها التشكيلية المعمارية الإنسان، عمارتَها عن الإنسان، أو تفصل الإنسان عن العمارة، فهي، بقدر ما تجعل الإنسان يكتشف عظمة العمارة، يكتشف أنَّ هذه العمارة فيها حياة، وفيها نبض، وفيها حركية وامتداد، وهي تتجدَّد من تلقاء ذاتها، وفيها روح ونَفَسٌ، بنفس روح ونفس الإنسان، وهذا ما يجعل من هذه المرأة تكون واحدةً من كبار الفنانين المعماريين، لا المهندسين الذين يحرصون على ملء الفراغات فقط، بل هي تُـجَمِّل المكان، وتُضْفِي على الفضاء لمسةً، أو خُضْرَةً من نوع خاصّ، هي ما يطبع المكان بتوقيعه، لِيُعْرَف المكان بعمارة زها حديد، وليست العمارة التي تُعْرَف بالمكان.

نقلا عن “الشرق الأوسط”