قدم الفنان الانطباعي السويدي المعاصر أندرس زورن «1860-1920»، العديد من الممارسات الإبداعية التي اتسمت بالاختلاف ورح الابتكار والتميز، الأمر الذي جعل اسمه يرسخ في تاريخ الفنون العالمية ضمن المبدعين المؤثرين. نشأ زورن في منطقة «دالارنا» بالسويد، في بلدة «مورا»، وكان محباً للفن والرسم، وبعد الدراسة في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في ستوكهولم من 1875 إلى 1881، ذهب لمدة ستة أشهر إلى إسبانيا، ومنها بدأ مهنته كرسام ألوان مائية في لندن.
تخصص زورن في الصور الشخصية، وفي عام 1885، عاد إلى السويد ليتزوج إيما لام «1860-1942»، التي التقى بها عندما كان طالباً في ستوكهولم، حيث قضى الزوجان الصيف في أرخبيل ستوكهولم، وهناك أبهر زورن الجمهور بتقنيته المائية، خاصة قدرته على التقاط الضوء على الماء، وخلال شتاء 1887، بدأ زورن الرسم بالزيت، وفي عام 1889 حقق إنجازاً كبيراً في المعرض العالمي في باريس وحصل على ميدالية من الدرجة الأولى ووسام جوقة الشرف أرقى وسام في فرنسا.
في عام 1896، بعد ثماني سنوات في باريس، انتقل أندرس وإيما زورن إلى موطنهما في السويد، ومع ذلك، لم يتوقف هذا الفنان المختلف عن النشاط الإبداعي والسفر، حتى الحرب العالمية الأولى، وجد نفسه يسافر كل عام، وخلال السنوات الأخيرة من حياته، تدهورت صحة زورن بسرعة، وتوفي في مسقط رأسه حيث دفن هناك.
*اختلاف
لوحة «الحافلة»، تعتبر من كنوز الأعمال الفنية التي تجد تقديراً خاصاً وسط مؤرخي الفنون والنقاد، وقد قام زورن برسمها خلال إقامته في باريس ما بين سنتي 1891 و1892؛ أي أنها تنتمي إلى مناخ مختلف عن وطنه السويد، لكنها تحمل الكثير من مشاعر الحنين والصدق، لذلك احتلت تلك المكانة البارزة، فهي تنتمي إلى منهج زورن الفني وأسلوبه في التعبير عن الناس والحياة، وبصورة خاصة كان يلتقط التفاصيل الحياتية اليومية للفقراء والناس العاديين، وذلك يعود لنشأته الأولى، والتي جاءت في ظل ظروف متواضعة في مزرعة صغيرة، حيث ترعرع على يد والدته وأجداده، وتوفي والده، الذي كان يعمل في مهنة متواضعة، باكراً، ولم يلتق به قط، لكن تلك الحياة أسهمت في تكوينه الوجداني والفني وأمدته برؤية مختلفة وملتصقة بالناس في حراكهم الاجتماعي، فكان أن أبدع في رسم الوجوه البشرية في جميع أحوالها ورصد مشاعرها المتباينة.
ولعل تلك البراعة في رصد الحياة الشعبية ورسم الوجوه، هي ما جعلت زورن يكتسب مكانة خاصة ولوحة «الحافلة»، هي ضمن تلك الأعمال التي تؤكد ذلك الأمر، إلى جانب لوحات أخرى جعلته يحقق نجاحاً دولياً كرسام بورتريه، وكان مطلوباً بشكل خاص في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان الأمريكيون على استعداد لدفع مبالغ ضخمة مقابل صوره الشخصية، ويمكن القول هنا إن براعة الفنان في عكس تعابير الوجوه بصورة بارعة، نقلته من الاهتمام بالحياة الشعبية، إلى حياة الطبقات الميسورة، ليمارس ذات الألق، وهو الأمر الذي جعل منه فناناً يشارك بانتظام في المعارض في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وخلال معرض فردي كبير في غاليري «دوراند رويل» في باريس عام 1906، تم الترحيب به كواحد من أعظم الفنانين في عصره وتمت مقارنته بالإسباني المشهور خواكين سورولا إي باستيدا، والأمريكي جون سينجر سارجنت.
*وصف
تعد لوحة «الحافلة»، من الأعمال التي تشير إلى تكريس زورن لنفسه بشكل متزايد لرصد الحياة الشعبية، وتعبيرات وجوه الناس، ففي مشهد هذه اللوحة البديعة، يتأمل الفنان في شخصيات من عامة الناس، في وسيلة مواصلات عامة «حافلة»، وبالطبع هو مشهد نابض بالحياة، حيث ركز الفنان على وضعية تلك الشخصيات داخل الحافلة، وتعابير وجوههم، وهي شخصيات تنتمي إلى فئات مختلفة، كل يبدو منشغلاً بهمه، وكل واحد منهم في لحظة انتظار وصول الحافلة إلى محطته التي يريد النزول فيها.
اللوحة مستوحاة من واقع الحياة التي عاشها الفنان في باريس، خلال إقامته هناك، حيث كان يستقل الحافلة بصورة يومية، ليس فقط بغرض التنقل من مكان إلى آخر، بل لدراسة وجوه الركاب والتأمل فيها بعمق، وعندما كانت الحافلة تسير في المدينة كان الضوء بداخلها يتغير باستمرار، إذ كانت أضواء الشارع الكهربائية قد رُكبت مؤخراً في شوارع باريس، وكان مزيج الضوء الاصطناعي والطبيعي قد خلق تأثيراً جديداً وغير متوقع، فحاول زورن أن ينقل هذا التأثير على القماش، فاللوحة تنتمي إلى مرحلة فنية مهمة في حياة زورن، عندما بدأ يتعلم كيفية تحقيق التأثيرات الدرامية للضوء والظل باستخدام خطوط الخطوط، واستخدمها لإنشاء أسلوبه الانطباعي غير التقليدي، وكان يستخدم مزيجاً من درجات الألوان الأصفر والأسود والأحمر والأبيض.
العمل وجد صدى كبيراً، بل يكاد يكون مدوياً، في الوقت الذي رسمت فيه، وذلك نسبة لموضوعها وفكرتها، والتقنيات المستخدمة، وقد وصف النقاد المعاصرين هذه اللوحة بفائقة الحداثة.