غيّر الفن المعاصر جذريا من وظائف الفن مخرجا إياه من منطقة الجمالي والتذوق المتعوي والتسلية وغيرها من قوالب تحبسه على جدران لا تصل إليها الشمس، ليصبح الفن فعل مقاومة وتفكير وتشكّل حياتي لا يعنيه الجمال والقبح بقدر ما يعنيه أن يوجد ويتأثر ويؤثر، أن يكون فكرة نافذة وموقفا وجوديا، وهذا التمشي كان من مؤسسيه الكبار الفنان الألماني جوزيف بويس.
بأسلوبه الفني الذي اعتبر جزءا لا يتجزأ من طبيعته الحسية وبشخصيته المتفردة التي لم تبتعد عن عوالم الفن في تداخلاتها وتناقضاتها التعبيرية، لامس جوزيف بويس الطبيعة بمنظورها الحسي والذهني والتشاركي وأسس معها وحدة متكاملة شكلت مساره الفني، الذي اعتبره مؤرخو الفن منفذا جديدا لفنون ما بعد الحداثة، حاكتها فلسفته البصرية حيث لم يتجرأ فنان على خوض تفاصيل البحث التجسيدي التي صاغها بويس، وتماهى فيها بكله المفهومي فكرا وماديات حسية، فقأت عين الفراغ بالامتلاء التواصلي بينه وبين العصر في تكاملات ما ورائية تلقائية التمرد فلم تكن غرائبية بقدر ما كانت رصينة وبالغة التأثير وصادمة المعنى.
فتحت هذه التجربة لدى بويس منافذ التواصل لديه مع فكرة الفنون المعاصرة، حيث وظفها بشكل تماهى بين الفلسفة والحسيات وبين التواصل مع الطبيعة والإنسان بكيانه الروحاني والشعوري والفكري والمادي كذات حرة لها انفتاحها الكامل مع كل أشكال التمازج حسيا وبصريا، فهو لم يعتبر الفن مجرد وسيلة تعبير بل اعتبره الغذاء الأساسي للعقل والروح والتواصل والانتماء في الوجود.
قوة الإبداع الإنساني
اعتبر بويس أن ما يوظفه من خامات له إيقاعاته المحسوسة التي تفرض عليه وعلى المتلقي الانجذاب والبحث اللامنتهي، وهو ما حمله إلى النضال الاجتماعي والتفرع لهموم الإنسانية الحرة وما دفعه إليه أيضا الصمود أمام الموت.
النجاة من حادث الطائرة وتفاصيل السقوط المرهق من السماء إلى الأرض حوّل مساره الإنساني نحو الفن، الممزوج بالبحث والانغماس في تجليات الفني المرتبط بتفاصيل التمرد لأجل المظلومين، أصحاب الفكرة والحق، فكان فنانا وناشطا اجتماعيا وسياسيا تمادى في التعبير عن الإنسان والطبيعة بما كتب وأدى وعبّر ليكون أكثر فناني العصر الحديث تأثيرا ومثابرة في خلق صور العالم المثالي ويوتوبيا تركز على الطبيعة وتحاكي الإنسانية بالحسيات الروحية.
يعتبر جوزيف بويس أن هدف الفن هو تحرير الإنسان ولكن تفاصيل التحرر من أين تتأتى؟ من الروح أم من العقل، من المخيال أم من الواقع؟ وأين تكمن آليات التحرر لدى الإنسان؟ وما هي طبيعة تفككاتها التي توصل إليها بويس ليصوغ هذه الرؤية، حتى يكون الفن علما للحرية بحسب رأيه، لذلك فقبل الخوض في تفاصيل رؤيته الفنية وما توصل إليه من سيميائيات وشموليات بحثية، كان لا بد من تسليط الضوء على بدايته ونشأة البذرة الأولى لصداماته الحسية والذهنية بين حياة الواقع والخيال وبين الموت فنا، تلك الرؤية التي مزجت لديه الفكرة بالفن.
في عام 1921 ولد جوزيف بويس الفنان التشكيلي الألماني في كريفيلد مشبعا بالثقافة الألمانية والانتماء، مشاركته في الحرب العالمية الثانية كانت فارقا حاسما لتحول طريقه الفكري والمنهجي والفلسفي من ضيق الأفق في مفهوم “الأمة” إلى اتساع الإنسانية في مفهوم الروح التي حملت ذاته نحو الفن والطبيعة، فقد سقطت طائرته في شبه جزيرة “القرم” المتجمدة على الحدود الأوكرانية، تعرض إلى حروق بليغة كادت تودي بحياته لولا إنقاذ أهل المدينة له حيث عالجوه بالشحم واللبد الذي دهن به جسمه بالكامل وكان لا يأكل إلا العسل.
هذا الحادث عرّضه إلى أزمة نفسية حادة تعافى منها بالفكر المتماهي مع الطبيعة بلوره بالفن الذي انصرف إليه وتمرد فيه وهو ما يبرر اعتماده على الورق والشحم وخامات العسل كمواد فنية قدم بها مفاهيمه وأسس فيها روح التواصل بينه ككيان وبين الحياة كحضور، درس النحت في أكاديمية الفنون بدوسيلدورف من سنة 1947 إلى 1952 وفي تلك الفترة أشبع أفكاره بفلسفة رودولف شتاينر “حكمة الإنسان” فلسفة الأنثروبوصوفيا “Anthroposophie” .
لقد أثرت هذه الفلسفة كثيرا على أبحاثه الفنية ارتكازا على العقل الإنساني والتحرر التعبيري والفكري دون قيود فقط بالتماهي مع الطبيعة بلا شروط، وبفرض التعايش السلمي وتحقيق السلام المتكامل بين الإنسانية والطبيعة وهو ما جعله يلجأ إلى خامات حسية لتوظيف مساراته التعبيرية والمفهومية منها الشحم والدم وألوان الطلاء وتركيبات ملونة كان يستحضرها من العسل كما يستحضر المواد اللاصقة وأوراق وأغصان الأشجار في شكلها الحي ويستخدم الحيوانات ميتة أو حية.
وهو ما جعل بويس يعيش حالة الفن من أجل إيصال الفكرة أكثر من تفسيرها لأن تفانيه في التعبير عنها وتجسيدها كان يحمل رسائل متكاملة لا تعنيه وحده، بل تعني الإنسان الموجود واقعا وحضورا. عند أدائه كان بويس عفويا لدرجة لافتة ومتعايشا لدرجة لا تفصل بينه وبين الفن، كان بروتوتيبا لكل مفاهيمه يخرج أحيانا عن سياق الفكرة بفكرة أخرى، كان ثائرا في توصيف أعماله مؤمنا أن أكثر القوى الثورية هي القدرة الإنسانية على الإبداع وقوة الإبداع الإنساني هي الفن.
من الفكرة إلى العمل هو المنهج الأول الذي تنطلق منه عروض بويس ومفاهيمه التي يعبُر بها نحو المتلقي، هي ورشات حياكة الحكمة وانتشالها وتوظيفها الروحي والتفصيلي الذي يشرح به مدى القدرة الخارقة في التواصل مع الطبيعة وهي التي اكتسبها من تجاذباته الفلسفية والحسية التي كونتها فلسفة رودولف شتاينر لديه، حيث تركز فلسفته على الروح كفكرة أساسية تربط كل الأشياء في العالم بوصفها أساسية في تكوين المادي، وهي التي تعبّر عن المفهوم الشامل للإنسان في الوجود.
بويس وحكمة الإنسان
يركز الفيلسوف على فكرة النظام الاجتماعي الثلاثي، فقد تصور شتاينر مجتمعا مستقبليا منظما في ثلاث مجالات منفصلة، هي الاقتصاد والسياسة والثقافة، معتبرا أن نجاح كل مجال منها يكمن في استقلاليته عن الآخر، أما الزراعة فيجب أن ترتكز على الجوانب الروحية والعملية والعلمية باستخدام الأساليب الطبيعية والمستدامة مثل التسميد وتناوب المحاصيل لتعزيز النمو الصحي والوقاية من الأمراض، كما اعتقد شتاينر أن العلم لا يتنافى مع دراسة الظواهر الروحية.
وقد كان التماهي الروحي بين شتاينر وبويس دافعا للأخير ومحركا حسيا وذهنيا في تعامله مع الفكرة الفنية بحكمة توظيفية وهي التي ميزته فنيا عند النحت أو الأداء والتجريب، لتجعل منه أكثر من مجرد فنان، فقد ساعدته على كسر مفهوم الفن باعتباره قالبا جماليا فقد تمادى مع أفكاره المعاصرة عندما ترسخ لديه اليقين أن الفن يقع في المقام الأول في الحياة لأنه يعتبر بمثابة عمل إنساني على صياغة المجتمع، لذلك كان فنه متعدد التخصصات وهو ما عبّر عنه “يجب أن يكون للفن تأثير على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري والعلمي، وهذا ينطبق على كل شخص في مجتمعنا، لأن “كل شخص فنان” ولأن الفن هو عقيدته”.
رائد الفن البيئي
اتسمت علاقة جوزيف بويس مع الطبيعة بجانب واع بكل ما يدور في تفاصيل الواقع، فقد كان يروعه الدمار الذي سببته الصناعات والمشاكل البيئية التي كانت تهدد الطبيعة والتحول الغريب في المجتمعات نحو الاستهلاك، وهو ما دفعه في سنة 1982 إلى السعي لتنفيذ مشروع 7000 شجرة عندما قام بزراعة أول شجرة في معرض دوكومنتا.
وكانت الفكرة دعوة الناس إلى القيام بنفس الفعل في كل المنطقة، وأن تكون كل شجرة بجوار عمود حديدي، حتى تبقي على الحياة خضراء وحقيقية غير مصنعة، وهو ما سعى لترسيخه في ذهن المتلقي وتحميل المسؤولية المشتركة في تنفيذ الفكرة الفنية بالتفاعل مع الطبيعة خاصة وأن أفكاره لم تهدأ منذ الخمسينات في الدفاع عن مواقفه الفنية والحسية والبيئية والسياسية والاجتماعية.
اعتبر عرض “أنا أحب أميركا وأميركا تحبني” سنة 1974، الذي نفذه الفنان بقدر كبير من الرمزية والإنسانية احتجاجا ضمنيا وموقفا واضحا، أقام فيه داخل معرض في نيويورك حيث تحول من ألمانيا بشروط كان أولها أن ينقل إلى الولايات المتحدة دون أن تطأ قدماه الأراضي الأميركية أي دون أن يتنقل على قدميه، كموقف من حرب فيتنام عندما اختار أن يُحمل على نقالة ملفوفا في اللباد، وهو العمل الذي اعتبر أكثر عمل فني مناهض للسياسات الأميركية، في عمله هذا كان يتواصل مع ذئب يروضه يتصادم معه ويتعايش مع طبيعته بفطرية، مسالمة وهادئة كان يشير في هذا العرض إلى موقفه من إبادة الهنود في الولايات المتحدة وتهميشهم وقد تعمد توظيف رمزية الذئب التي تعني في الثقافة الهندية الأميركية الكثير.
علاقة بويس مع الطبيعة لا تقف عنده ولا تتوقف عند اشتغاله الفني أو استنباطه المفهومي لفكرة البقاء ورفض الحروب والتخريب، فقد بقيت فيه مثل قناعة تعبيرية نقلها إلى كل من تعاملوا معه في المجال الفني أو في الحراك الاجتماعي، اعتمدها في النحت والأداء وبدأها منذ 1965 حيث عبّر عن رفضه لتقسيم ألمانيا معارضا لجدار برلين، وقد قدم وقتها عرضه باعتماد أرنب ميت، دهن وجهه بالعسل كرمز للخصوبة والطبيعة والفكر الحي قائلا “إن العسل مادة حية وفكر الإنسان كذلك ولكن يمكن للفكر أن يقتل ويُقتل، كما يمكن للمرء نفسه أن يقتل عقله بالكلام في السياسة أو بالتنظير دون الفعل”، كتب عنوان العرض “كيف تشرح اللوحات لأرنب ميت”.
اختلفت نظرة بويس لكل تعابير الفن والنشاط الاجتماعي والتحركات السياسية في معاني السمو اللامؤقت وفي شمولية التعبير التي لا تقف عند الأفراد، وهو ما أثّر على أصدقائه ومعاصريه، فقد كان ينقد الناشطين بسخرية قائلا “أن ترى أصدقاءك وزملاءك وهم يلوّحون بلافتات الاحتجاج في الشارع هذا أمر جيد وتحرك حر ولكن هل تساءل أصدقاؤك بأيّ حال سيبدو الشارع بعد نهاية الاحتجاج، سيأتي الناس الأكثر هشاشة وفقرا لينظفوا، ولأن العمال هم أجانب ولا نقابات تدافع عنهم، فإن الأمر يبدو مهمشا إنسانيا”. لذلك كانت مواقف بويس في تصادم واضح مع الرأسمالية التي اعتبرها مدمرة واستعبادية.
أسس بويس من خلال مفاهيمه البصرية وفلسفاته التعبيرية رؤى مختلفة عن الفن الذي رأى فيه أكثر بكثير من مجرد منتج تجاري، يهدف إلى إرضاء ذوق جامعي اللوحات والمقتنين الأثرياء فبالنسبة إليه، بالفن الحياة أصبحت واحدة وموحدة، والعروض الفنية والأدائية تعتبر بالنسبة إليه طقوسا حسية في عقيدة الفن.