اكتشف الفنانون التشكيليون مبكرا قيمة الصمت، قبل أن يكتشفها حتى المبدعون بالكلام مثل الشعراء والكتاب. فالصمت إذن أداة تواصل شأنه شأن اللسان والصوت، ولكنه قد يكون أبلغ قدرة على التواصل والكشف والتعرية، وهو ما تؤكده تجارب فنية معاصرة غيرت جذريا نظرتنا إلى الصمت.
للصمت وقعه وإيقاعه على دهشة الإنسان وتجلياته الفكرية وأفكاره التي تتأتى من عمق دواخله، لذلك يعتبر الصمت دليل صخب كثيف داخلي منساب بتفاصيل مفهوميّة وحسيّة وذهنيّة وتوليفية بين كل ذلك وذاك تفسّر ما يختلج العصر من جنون وتفصيلات تتصادم وتتصارع سلوكيا ونفسيا وانسانيا، ولعل التحوّل من اللغة العلامة المنطوقة الشفوية ذات المنطق والمعنى إلى لغة الصمت المتاح في بوح ذهولي مكتوم بحكمة أو محكوم بهوس الأفكار، يحتاج الكثير من التأمل للتفسير وللتعمق والفهم، لذلك كان الصمت دليلا ودلالة، وكان له المعنى الكثيف في الفن التشكيلي.
فالصمت في الفنون التشكيلية والبصرية أكثر من دليل ودلالة وأعمق من مجرّد ممارسة فلسفية تأملية في دهشة العمل أو في استنطاق تفاصيله المُلهمة التي تبعث باللغة على التفكّك والتفكيك من أجل التوصّل إلى رؤية ميتافيزيقيّة قد تفسّر الظواهر المُعلنة والمُسقطة والمسكوت عنها والمتجاوز عنها، فهو عنصر اشتغال مهم على مدى أزمنة تعلّقت بتاريخ الوجود والكيان وكينونة الفن.
نموذجان متضاربان
هذا الطرح تمازج في تفصيله التراتبية وفقا لما كتبه النرويجي إيرلنغ كيج في كتابه “الصمت في عصر الصخب” والذي حاكى فيه تفكيك التدرج الحسي والنفسي والحاجة التفاعلية بين الصمت والصمت في كثافة الوجود والكون والطبيعة بين تفاصيل الانتماء الزماني للأمكنة والأيديولوجيا والتكامل الصاخب معها، ليجد أن الصمت حاجة بقاء فعليّة، وقد عرّج على الصمت عند المستويات الفنية وأعاد صياغاتها التي تهبه حسيّة الفكرة التي تبدأ من الفنان وتنتهي عند المتلقي وتخلّد اللحظة الصامتة في العمل الفني على مدى عصور، وبالتالي تخلق تلك السكونات حالة وعي لاواعية بين الفن كأثر والفن كفكرة.
ولعلّنا هنا نقع بين نموذجين متضاربين في تلك الحسيّات في الوقع بين الصمت والصخب، بين الصمت والصرخة، وبين الصمت والحركة المتجلية في الكون، من خلال تجربتين شكّلتا منعرجا انحرف بفكرة الصمت في الفن الحديث والمعاصر بين إدفار مونتش وبين مارينا أبراموفيتش في رحلة الصمت في الفن، الصمت والفن.
فكيف تشير التجربة الحسية للصمت بين مونتش الذي أوقع الصمت على المتلقي بصدمة صرخة مدوّية في الفضاء المصمّم للوحة يكاد فيه صداها يخترق القماش بتفاعل لامس اللون والفراغ، ومارينا أبراموفيتش التي حوّلت الصمت إلى تفاعل أدائي تواصلت به مع المتلقي وأشركته في تمازج نفسي بين العدائية وتسلسل الدوافع وامتزاج التناغمات التلقائية المستفزّة للصمت بينها وبينهم.
وتساءلت في أعمالها هل الصمت مستحب في لحظته أم هو عنف مكتوم على زوايا ردّات الفعل النفسية التي يقوم بها الجمهور بعدوانية وشراسة وتداخلات؟ وما الذي يتدافع انسيابيا بين التجريب في عناصر التكوين الحسية والفكرية التي تكشف عن الطبيعة الإنسانية ودلالاتها الفلسفية عند محاكاة لغة الصمت المفروضة من العمل الفني إبداعيا ولغة الصمت السلوكية المثيرة للعدوانية المكتومة؟
الصرخة التأملات
يحتاج العمل الفني إلى الكثير من الصمت الفاصل بين المحيط والإنسان والفضاء لتلقيه وفهمه وتأمله وإدراكه لذلك تقوّي تلك السكونات فاعلية التأثير وهنا يطرح إيرلنغ كيج قيمة الصمت في الفن وتأثير الفني على الحالات الصاخبة التي تفرض الصمت أمام العمل الفني والاستمتاع بذلك الصمت في لحظة سكون باذخة.
فالصمت في العمل الفني يواجه قيمة الفراغ نفسها لأنه لا يتعنصر معه بقدر ما يُعلي من قيمته الحسية ومن غموضه اللامتجاوز، تلك السكنات التي توقف المتلقي بدهشة وانتظار وبحث وانغماس وتساؤل وتفكّر جمالي، إن الرابط بين الفن والرؤية والصمت هو تمثيل الضوضاء في الاضطراب والضجيج من خلال الصور والانعكاسات التي تثير صداها، فكيف يمكن لمعنى أن يمثّل معنى آخر وكيف للعين أن تمنح للفكر عمقه الصامت والمتجلي؟
وهنا نقع على فنون العصور الكلاسيكية التي كانت تتغذى على الصمت في النحت والتماثل الإبداعي فيه مع الرسم وكثافة البحث في المقدّس وتجلياته الضخمة والمُتقنة والمثالية ودهشات التمازج بينها وبين الألوهي، مما يترك مجالات للتفسير ببلاغة لا محدودة تروّج لفكرة الصمت المُنضج للحواس وتجليات فلسفاته الجمالية، وبالتالي كانت الكلاسيكيات ومبدأ التوحّد الابداعي تفرض ذات التجلي وتجلي الذات الفنية الإبداعية أمام دهشاتها المعلنة في الخامة واللون والتوافق بينها وبين التلازم الطبيعي للفكرة الفنية الممتعة.
يشبّه كيج المتلقي بالأصمّ أحيانا في استقبال الفكرة الفنية الممتعة وتأملها خاصة في تكاملها مع فنون الموسيقى والأدب والشعر والمسرح فتتداخل وتتكامل مع العصور التي كانت فيها النهضة البشرية مؤثّرة على مفاهيم الصمت الميتافيزيقية والرؤيوية، والتي ترسّخت في كل الفنون لتصبح للصمت معاني أخرى حملت صخبا وضوضاء أكبر، تجسّدت في أكثر الفنون، خاصة في الثنائية الدرامية للعزلة والصمت، كتلك التي كرّسها غوغول وتشيخوف في الأدب بفرض نوع من الصمت المتغيّر مع أزمنته الحسية التي ترصد الحياة اليومية وتستدرج الكتابة بشكل واقعي ناقد وحقيقي، وهنا يُفرض التساؤل، هل ينطبق ذلك الصمت الجمالي في كلاسيكيات الإستتيطيقا على الانحراف الحسي التعبيري والواقعي والتجريدي والسريالي في تواترات العصر الحديث وتجليات الحروب العالمية التي أثّرت على فكرة الصمت الجامد والبليغ في الفن التشكيلي كما في تجربة مارك روثكو وحقوله الملوّنة التي استحالت نحو فكرة معلنة في ضجيجها الواقعي واحتمالاتها، فهو لا يحبّذ شرح لوحاته بل يعتبر الصمت في امتداداته الملوّنة دقيقا وبالغ الإتقان وهو ما يحتاجه المتلقي لفهمها.
الصمت الصاخب أو الصمت الذي حمل ضجيجا هو عبارة عن محفّزات للتفكير تحاول أن تلامس الإنسانية ومبادئ الوجود، وهنا يعبر نحو صرحة مونتش حيث يقول روثكو إن “أقوى صرخة عرفتها هي تلك التي تكون مُفرغة من الصوت، الصرخة لإدفار مونتش، إنني أقع صامتا عند مشاهدتي لها، لقد مرّ صمت معبّر بين الرسم وبيني، وهو ما جعلني أشعر تماما بصلتي القويّة بخبرة الصارخ”.
إن الصمت لم يقف عند درجات المتابعة التي يمنحها الفنان للمتلقي ويتركه إلى عوالم العمل الفني لإدراكها بل كان الصمت وحدة تشبّث بها الفنان حتى يقدّم ذاته الجمالية والغامضة من جديد، وهنا نشير إلى تجريبية إيف كلاين مع مراحله المعاصرة التي قدّم فيها الموسيقى والأداء والمينيمالية معتمدا على مساحة الصمت والتأمل كما في تجربته “سيمفونية الصمت وحيد النغمة”، وهي تآلف موسيقي مكرّر لمدة 20 دقيقة وصمت آخر لمدة 20 دقيقة حيث التكامل يخلق نوعا من التوحّد المدهش بين الموسيقى والصمت وهنا لعب على ذهنية الأحادية بين القطعة الصامتة والنغمة أحادية اللحن.
التفكير نقيض الصمت
إن ما اعتمدته مارينا أبراموفيتش من تصوّرات بصرية وأدائية وتعبيرية في تكاثف الصمت لغة ورمزية وحسية وذهنية كان له أثره البليغ على تكوينات روح الفنون المعاصرة وتمرّداتها النفسية والسلوكية، التي أثارت حولها الجدل دوما عن مدى تطرّفها الفني ودمويّتها الصادمة للمتلقي وهي تختبر طاقة الجسد، حيث أنها لا تكفّ عن تفكيك الحسيّات وتمديد الفعل الصامت منها إلى المتلقي الذي كانت تدفعه للتواصل معها حد العنف والتطرّف والمحاكاة النفسية لذلك الشلال الدافق من الأفكار التي لا يكف الصمت عن تغذيتها بآلاته المنهمكة في الدماغ.
ترى أبراموفيتش أن “الصمت أداة تعيننا على الفرار من العالم المحيط بنا”، وربما قصدها من الفرار هو التجلي الحسي المتخلّص من كل القيود أو من “الكونترول”، ذلك المحيط المُعلي للدرجة الإنسانية، فهل الإنسان المستفزّ بالصمت والجمود والمكتوم في الأفكار التي تتبادر إلى ذهنه قادر معها على أن يتحكّم في نفسه وإنسانيته؟
إن هذا التجلي الحسي والفكري هو ما قدّمته في تجربتها الشهيرة “الإيقاع 0” وجعلت من صمتها وخضوعها أداة تجريبية لاستفزاز الجمهور وتوظيفاته لذلك الصمت المخزّن فيه من خلال الأشياء التي أتاحت له ليفعل بها ما يشاء، فكانت التجاذبات الحسية المتطرّفة عليها صدمة بصرية في عالم الفنون المعاصرة، استكملتها أبراموفيتش بتجريب الصمت الفعلي “لحظات من الصمت” طبّقتها على الفكرة الإنسانية التي أفرزت عندها فلسفة بصرية جديدة وهي أن النظر إلى الشيء بصمت لا تعني أننا مختلفون عنه بل هو جزء منا.
لقد كان تجريب الصمت من خلال المتلقي والتحديق فيه تبحّرا في مشاعره وأفكاره رغم سكوته، وبالتالي كان الصمت مثل طريق مهّدت للفنانة الغوص في العمق الإنساني دون أن تضطر المتلقي لتفسير نفسه بالكلمات، معتبرة أن اللغة قد تغلّف المشاعر وتردم الأفكار التي يحتاج الإنسان إلى استخراجها والتعبير عنها وهو ما يحدثه الصمت نفسه لأنه يجعل الإنسان عاريا من قيوده.
إن القيمة التي يقدّمه العمل الإبداعي للصمت هي الدرجة التي تكون أكثر وضوحا في تكاثف المعنى وبالتالي تخترق درجاتها المعبّرة عن الذات فلا يكون الصمت المتبادل مع الفنون والآداب والموسيقى مضجرا ولا مخيفا، بل يكون بحثا وغوصا داخليا في تفاصيل الأفكار وترويضها واستدراجها أكثر نحو إدراك الجمال.
نقلا عن صحيفة “العرب”