مصطفى راجح*
لكل شخص مفتاح، أكان فناناً، أديباً، أو إنساناً عادياً. ومفتاح أيوب طارش هو البساطة. مفتاحه هو البراءة الصادقة. أصالة إنسان لا تأسره الأضواء، ولا تُفقِدَهُ الشهرة براءته وإحساسهُ التلقائي بذاتَهُ.
يحدُثْ أن تجلس مع كاتب ربع موهوب، أو شاعر ثلاثة أرباع قصائده إدعاءات وتلفيقات نفسية ولغوية، وكلاهما يشكو النكران، ويتذمر من جحود المجتمع، ويكفر بالحياة والعالم، ويشكو من البلاد التي لم تُقدِر “إبداعه”، ولم تُكافأهُ على ولادته فيها.
وتصدُف أيوب في مقيل، وإذا هو نفس أيوب البسيط الودود الصامت، والثابت على أصالته بعد عمر فني يتجاوز سبعة عقود كان فيها، وما يزال، وسيظل، أيقونة للفن، وصوتاً للوطنية اليمنية، ونغمةً للحب، واسماً يتذكرهُ الفلاحون كلما أخصبت أرضهم، ونداءً يبعثُ الشجن للوطن في وجدان المغتربين وقلوبهم الممتلئة بالحنين.
يتبسمُ بخجل، وتهذيب جمْ كضيف قدم لأول مرة من قريته هناك خلف الجبال البعيدة.
يتلفتُ بوجَلْ كفلاح بسيط وصادق يتوجس خيفةً من زيف المدينة وإغراءاتها.
تسمع من أحدهم حديثا مستفيضا عن الفن والمقامات الفنية، وكيف يولد الإبداع، وما هي الوصفات المثلى للغناء. وعندما تجلس مع فنان، بمقام أيوب طارش عبسي، يشعرك أنه لا يعرف شيئاً، ولم يفعل شيئاً. لكأن الطبيعة ولحن الكون الأعظم نطق من خلاله.
الطبيعة هي التي تنطق بصوت أيوب. اليمن تتكلم عبر نغماته. ناس هذه البلاد، من رحلوا ومن لم يولدوا بعد؛ يتكثفون في نغمة صوته، وما عزفتهُ أوتاره.
-آخر الألحان وخاتمة النشيد!
لا يُذكر الفنان أيوب طارش إلا ويحضر معه الشاعر المتفرد عبدالله عبدالوهاب نعمان “الفضول”. هما ليس مجرد ثنائي “فنان – شاعر”. كل منهما يُكمل الآخر، وكأن عناية ما جمعتهما في زمن واحد في مدينة تعز، زمن توهج اليمن وميلادها الأكبر بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
كان أيوب سيبقى ناقصاً لو أن “الفضول” لم يوجد في حياته وأغانيه.
هو فنان متفرد، وغنى لشعراء غير الفضول، وأجاد وتفنن وأبدع بأغانيه من كلماتهم، لعل أبرزهم عثمان أبو ماهر، أحمد الجابري، وشعراء الأغنية الواحدة؛ علي عبدالرحمن حجاف “طائر أمغرب”، وحسن الشرفي “مطر مطر”.
لكن مُتن فن أيوب، وأهم سمتين فيه “أغاني الحُب – الأغاني الوطنية” جاءتا من “الفضول”.
ولم يكن لقصائد الفضول وأناشيده، ومعلقات قلبه، أن تبلغ مداها الأقصى في أفق اليمن ووجدان الناس، بدون صوت أيوب ونغمته وأوتاره.
تتجلى مكانة الفضول في وجدان أيوب طارش وهو يُغني هذه القصيدة بنبرة شجن حزين:
يا من رحلت إلى بعيد قَصِّر مسافات البعيد
لا تدخل النسيان أو ما فيه من صمتٍ وبيد
فلربما عاد الهوى وأعادك الله المعيد
غنى أيوب “يا من رحلت إلى بعيد” بعد رحيل الفضول بسنوات. هذه القصيدة كانت عزاء الفضول لنفسه قبل مماته، حتى وإن كان مقصودهُ مختلفاً عندما كتبها .
وكانت هذه الأغنية المرثاة عزاء رفيقه أيوب لهُ، بث فيها الروح بصوته بداية تسعينات القرن الماضي.
كان توقيت أيوب معبراً في توقيت لحنه لهذه الأغنية، الوداع المتأخر، مع بزوغ الوحدة التي تغنى بها الفضول وسكنت وجدانه وتناثرت في قصائده وأناشيده. لم تكن اليمن إلا هوية واحدة في وجدان الفضول وقصائده، وهو يتنقل بين الشطرين. ولعله مات وفي نفسه شيء من انتظار الحُلم الذي تغنى به ورحل قبل تحققه.
تكثفت في صوت أيوب رنة حزن ممزوجة بالشوق والمحبة والذكريات والقصائد والألحان والشجن، والصداقة كاختزال لأرقى علاقة بين الفضول، الإنسان والشاعر، وأيوب، الإنسان الفنان.
ما قيمة الأيام بعد هواك
تنقُصُ أو تزيد
فلقد أردتُ وكُنت لي
في العمر آخر ما أُريدْ
يا آخر الألحان في وتري
وخاتمة النشيد
يا آخر الأشواق في سهري
وفي قلبي العمي
يا آخر الأوراق في زهري
تساقط في الجليد
يا آخر الإشراق في عمري
وآخر وجه عيد
-سر الإبداع المتفرد
الفن، غناءً أو كتابة، هو عملية سرية تُخترق بالبصيرة.
الإبداع المُتفرد، وبالذات في الفن، هو نتاج الفطرة، نتاج اللاوعي أكثر من كونه اشتغالا واعيا. لا شك، يحتاج مهارة، ودأبا، واشتغالا على الموهبة، يبني عليها وينجز من خلالها، لكن الفارق يأتي من الأعماق المجهولة في ظُلمات النفس واللاوعي.
بحسب برتراند راسل؛ السبب هو قوة متناغمة ومسيطرة وليس قوة إبداعية. حتى في أكثر العوالم منطقية بحتة، فإن البصيرة هي التي تصل أولاً إلى ما هو جديد.
الأفكار الجديدة في مجالات إبداعية في الفن، الشعر، الأدب، وكل إبداع؛ نادرا ما تأتي من التحليل المنطقي. تأتي عندما تتغير المسارات العصبية لأي سبب كان، ومن ثم تترجم منطقياً.
يشير ألبرت إينشتاين إلى أن “الخيال أهم من جمع المعارف”. ويضيف مكتشف النسبية قائلاً: “المنطق سيوصلك من الألف إلى الياء، الخيال سيوصلك إلى كل مكان”.
هنري ميللر، الذي لم تفقده الثقافة حسه الإبداعي، يقول:
“إن الاستمرار في الحديث عن الكتابة مع عشاق الأدب ليس بالشيء المثمر. فهناك العديد ممن التقيت بهم يمكنهم أن يتحدثوا بشكل مبدع عن هذا الموضوع أكثر من أي كاتب، ولا يستطيعون كتابة سطر واحد”.
هل هناك أحد في الواقع يستطيع أن يتكلم بمعرفة ودراية عن العمليات السرية؟
العمليات السرية هنا هي الخضات العصبية للإحساس المكثف
أتذكر أنني سألت الفنان أيوب طارش في مقيل عبدالقوي الشيباني: كيف لحنت النشيد الوطني؟ وكم أخذ منك حتى أنجزته؟
قال لي إنه عاش اللحن في منامه. حلُم به.
أيوب لا يكذب.
ومثل هكذا لحن لا يأتي إلا بإلهام كوني يقذف به موجياً عبر تردد الأوتار الفائقة إلى دماغك، وأنت في سابع نوْمَهْ.
في أحد كتب هنري ميللر أشار إلى هذا الإلهام “العمليات السرية” بقصة تستحق الذكر. كان في عشاء خاص مع صديق له افترق عنه منذ الطفولة. ذهب هنري ميللر نحو الأدب، وتخصص صاحبه في الرياضيات، في مجال فيزياء الطاقة العليا.
قال له صديقه: عندما تواجهني مسألة صعبة، وأعجز عن إيجاد حل لها، أقوم باستعراضها والنظر فيها قبل النوم، ثم أنام. في صباح اليوم التالي، وقبل أن أعمل أي شيء أجلس على الطاولة، وأضع المسألة أمامي، وأبدأ بحلها، وكأني أنقل الحل آلياً من دماغي.
-الفن وهوية الأمة
الهوية، هوية كل أمة، ليست معطى جاهزا. الهوية تتشكل عبر الزمن. ولعل هناك ما لا يقل أهمية عن العمران والدولة ومؤسساتها الوطنية، ويسبقه، ويتزامن معه، ويتجاوزه.
تُبنى الهوية عبر تاريخ تتكاثف على صفحاته مؤلفات المؤرخين، وقصائد الشعراء، وأغاني الفنانين، وما ينجزه الأدباء والرسامون والنحاتون، وما يتراكم من وعي للأمة بذاتها وتاريخها وفنونها ومبدعيها.
هل كان بإمكاننا أن نتعرف على أنفسنا كيمنيين في القرن العشرين من دون وجود أناس مثل النعمان والزبيري، أيوب طارش، الفضول، المحضار، أبو بكر سالم، البردوني، مطهر الإرياني، القمندان وفيصل علوي، لطفي جعفر أمان، مطهر الإرياني وعلي الآنسي، وبقية السلسلة الذهبية لأدباء اليمن وشعرائها وفنانيها الكبار؟
لا شيء يضاهي قدرة الأدب والفن على إنتاج هوية الشعوب وإدراكها لذاتها الجمعية.
أيوب طارش عبسي هو ركن من أركان الهوية الوطنية اليمنية.
تعرفت الوطنية اليمنية على نفسها بصورتها الأكثر وضوحا وبهاءً في صوت أيوب.
وُلِدت ثقافيا بصيغتها الحديثة في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، وتجسدت مشروعا سياسيا بولادة جمهوريتي سبتمبر وأكتوبر، وعُزِفت نغمتها بصوت أيوب وأوتاره.
صوت أيوب نغمة وطنية للأرض اليمنية، في كل ما غنى، لا أناشيده فحسب.
إنْ غنى للحب، تطل اليمن من بين الآهات.
وإن غنى للزراعة والمزارعين تفوح رائحة اليمن من عبق الأرض.
وإن غنى للمغتربين، يطل نداؤها يدغدغ قلوب المفارقين.
وإن غنى لريفيات القرى، يلتمع الحنين من العيون.
وإن غنى لتهامة يتجلى صوت البلاد مداوياً لعذابات السنين،
وإن غنى للوحدة، يلتمع اليمن الكبير من بين نغمات أوتارهُ.
وإن غنى للوطن، يتفرع صوته إلى قوس قزح من ألوان الفن: أناشيد وطنية؛ يمن المحبة، وحنين رجاله ونسائه للحياة، ومهاجل فلاحية، ودندنات صباياه في الآبار، وشبابه في الحقول والوديان، نداءات الأرض لأبنائها الموزعين في بقاع الأرض البعيدة، وكل ما تقوله لأبنائها.
-أصالة لا تُبْلى
أيوب الفنان هو سبعون عاما من أصالة لا تُبلى مع الزمن. أصالة شخصيته هي ما أتحدث عنها هنا، لا فحسب إبداعه الشاسع والثري والخالد.
وكل أصالة إبداعية لا تكون إلا انعكاساً لأصالة ذات متفردة وموهوبة.
أحد أهم الدروس في التاريخ هو هذا:
الفن والأدب يعيدا بناء الأمم المدمرة.
حين يتحول الموت مناخاً يومياً، حين تموت أشياء كثيرة؛ يحيا الشاعر والفنان؛ ليعبر المجتمع عبرهما عن نفسه، حياته التي تفلت منه، آمالهُ، آهاته المكتومة، وجوده.
هذا الأيوب ليس فرداً. هذا
“البيت” البردوني ينطبق عليه تماماً:
لأنك الكُل فرداً
كيفيةٌ لا تُكيف
حتى لو اختفى الشعب اليمني من على وجه الأرض، وبقيت أغاني أيوب وأناشيده الوطنية، سيعرف العالم من خلالها من هُم اليمنيون.
نقلا عن موقع قناة “بلقيس