محيي الدين جرمة
لم يغب عن وعي الفنان التشكيلي اليمني المعروف طلال النجار، والذي اختار الإقامة في السويد منذ سنوات الحرب، تلمس أحوال الفن البصري، وما يتعلق به، ومرسمه العالق بذاكرة ومنزل وطموح فنانين كثر في اليمن وخارجه؛ فالجيل الفني للوحة، وروح التجربة، له حكاية وتواريخ من المعاناة، والكد، والمكابدات، والانكفاء، والعزلات الكثيرة، ظروف وعوامل وارت نجوما في الفن لتستجلي مواقف من خلاله، وتجاربه، فتعددت نظرة الفن الأسيفة عند تأمل المشهد البصري الذي تراجع كثيرا، وبالخصوص إذا عرفنا مصدر استغراب الفنان النجار كغيره تجاه زعم مقولة: “ الفن التشكيلي لا مستقبل له وألا أحد سيستفيد منه”، وذلك ما تنامى إلى مسامعه وحدوسه من قول كهذا أتى من جامعة تعز” إنها كارثة حقيقية..” كما يقول طلال النجار ! ويعلل بالقول:” إن تعز هي من وضعت أسس الثقافة البصرية في اليمن شمالا تحديدا”.
وما دام والحديث هنا يستدعي تعز المدينة اليمنية التي ارتبطت بالثقافة ووعي النخبة الثقافية والسياسية على مدى عقود مضت، فيجدر التذكير بأن هذه المدينة أيضاً قد زارها وفتن بها الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ صاحب نوبل العرب الوحيدة، كما إن المدينة كموطن ومرسم ومتحف للفن التشكيلي البصري قد تحددت من خلالها خارطة طريق الفن عبر أجيال وتجارب عدة لفنانين أبرزهم (رائد الفن التشكيلي البصري في اليمن الفنان المُعلم هاشم علي)، والذي تجمع حول ريادته وتأثيراته الأوساط الثقافية والنقدية للحركة التشكيلية في المشهد اليمني والعربي، كما تجمع على: “ عطاء في الفن لا يزال يضيء بألوانه عزلات خضراء ومستقبل رؤية”.
وكان نجل هاشم علي في سنوات منصرمة قد طرح تساؤلا ممضا حول: “ مصير التصريحات بالعمل على تأسيس متحف تشكيلي وكلية للفنون باسم الفنان الرائد هاشم علي، وما تضمنته تلك التوصيات والوعود من: جمع لوحاته وإقامة معرض استعادي لأعماله، متسائلا: “أي مكان تبقى لهاشم علي في ذاكرة اليمنيين”؟!
فارس الفن البصري ومعلم الأجيال الأول في اليمن الذي رحل يوم السبت في السابع من نوفمبر 2009م، تاركا أسى كبيرا وتأثيرات دامغة وبصمة حضور أثرى من خلالها تجارب عديدة صارت لها سماتها واستقلال رؤاها اليوم. وإثر رحيله تعاقبت الرؤى وفلسفة اللون وأبعاده كمسحة من التصوف والعرفان، وانكبت تجارب وأسماء على دهشة ألوانه واقتفاء ظلاله في التصوير والرسم المبدع الذي ولد من رحم المخزون الثقافي والوجداني للثقافة والميراث الشعبي، ومتلمسا الوجوه في تفرد فرشاته بمدرسة ورؤيا أشارت دوما إلى “الأستاذ” في فن البورتريه”، مجسدا شخصانية فذة تستغور النفس والأمكنة التي رسمها، وتحاكي الإنسان ودواخله وأمكنته وأزمنته وتراثه، أحلامه وآلامه، حتى غدا فنه فلكلور حي، ومتحف ناصع للماء والطبيعة والوجوه التي تسرد روايات وحكايا الإنسان اليمني في سرديته والممتدة عبر الزمن والثقافة بلا انقطاع.
انبثقت رؤى هاشم علي من قراءة متأملة وعميقة للواقع اليمني، بتحولات وسياقات شتى فجاء إبداع ألواحه سيالا وحميما بألفة وشغف مشترك بين مواضيعه وشغف متلقيه ورواد فنه الذي مازال شاهدا وغير مدروس كما يفترض أن يبحث من زوايا كثيرة.
وحينما غيب الموت هاشم علي “ مؤسس الفن التشكيلي الحديث في اليمن” يقول محبوه: “سيبقى في ذاكرة التاريخ امتدادا خالدا لتسامق الإنسان المعبق بعطر الفصول وجمال الروح ومحبة البشر وكل شيء في هذه الحياة، “ ذلك الخلود الذي يسمو بالإنسان إلى معارج الاستثناء ويرتقي به في الإمتداد والبقاء”.
يرسم طلال النجار، وهو أحد أبرز تلامذة الفنان التشكيلي هاشم علي إلى جانب الفنان عبد الغني علي بوجه خاص، والذي دمغت تجربته بأثر كبير حد التماهي الجميل لطبيعة ألوان وهوية التيماتية، المشبعة بحياة اللون وحركته لا جموده، ومن هنا انطلق أبناء هاشم علي، لتنبثق تجاربهم وتأخذ دلالات مختلفة، ولطخات رؤى في الفن تمثل الاختلاف اللامتشابه.
في آخر أعمال معرض له في السويد حيث يقيم، يرسم الفنان البصري اليمني طلال النجار برؤية جديدة وحداثة راكزة ومواكبة لما راكمت تجاربه السابقة من خبرات وتوظيف تقنيات متنوعة من تفرده في فن الشخصانية أو ما يعرف بفن البورتريه، إلى غير ذلك من الرسم بالرصاص على ورق، مرورا بكارلستاد: Karlstad
الوان زيتية.Oil
20*30 c 2022
حيث أقام آخر معرض له في استكهولم، لتتبدى ألواحه بتأثيرات تجربة جديدة ومختلفة من النوستالجيا الفنية وعناصر الرؤية للطبيعة وبحنين يصده جدار الشتات.
غيران: مدينة صنعاء القديمة بقيت “الملهمة الأولى لكثير من الفنانين اليمنيين شمالا وجنوبا وغربا وشرقا” كما استقر رأي عديد تشكيليين يمنيين بينهم طلال النجار تتوزعهم أمكنة مختلفة، ولايزالون رغم الظروف الضاغطة وعوامل النفي القسري والاختياري، وطلب الحياة في العيش، ينتجون إبداعا متعدد الرؤى والتحليلات التي لا تبتعد كثيرا في “شطح مكين” منها عن أجواء وترميزات صوفية اللون المحلق بنصوع وصفاء يرتاد حلولاته وفضاءاته الخاصة، ليسافر عبر لغة اللون بقطوف قريبة المعنى والمتخيل في رسم أبعاد اللوحات وأمكنة الاحتشاد في عزلات متوثبة تتأمل اكتناز دلالاتها البعيدة في سمات الموضوع وتعالقاته بمعان خارج جغرافية إقامتها ونفيها ولغتها التي تقيم فيها، لتعوض إقامتها الدائمة والبعيدة عن تلك البقاع النائية والعزيزة في قربها من وجدان ومشاعر الفن ومعمل التجربة والرؤى والتصورات.
في السياق ذاته أجد تجربة طلال النجار ماثلة في ازدهار وغزارة اللون وتجدد التيمات والرؤية البصرية في عديد أعماله وأسفاره، رغم اختلاف المكان وانزياحات المعنى والخطاب.
يرسم على قماش وكنفس ويجرب ألوانا مائية، وفرادة في لغة الحروفيات سبق لإحدى لوحاته أن حازت جائزة عربية رفيعة، كما يستخدم تقنيات أخرى تتفارق عن سواه من التجارب في الفن.
وتتجلى في أعمال النجار اختزالية رؤيته وفلسفته للفن في قوله: “ اذا بحثنا جيداً تحت الأرض وداخل الجدران وفي أعماق أرواحنا سنجد كنوزنا المفقودة. فلا تدعوا الأسطح تعمينا عن رؤية الحقيقة.”
وإذا كان الفن كأسلوب في الرسم، ومدرسة، وطبيعة ترتقي في اللوحة بلا مألوف شعبوية البراني، فإن تقنية ورؤية الفنان أيضا، تختلف بقدر ما تتجاسد كلغة وألوان وتناصات بعينها. لكل رسام وجهة نظر وموقف في الفن وفي حياة أعماله، خارج مجرد اختزال ذلك إلى واقع ضيق، لأن نظرة الفنان أكثر رحابة من واقعها، كما قد يبدو ذلك معقولا ولا نمطيا من منظور استاتيقيا الفن، وشموله في الأداء، وتعبيرات وتغايرات تجاربه المختلفة، وتجاورات أمكنته ومعيوشاتها.
وبالنظر الى تجارب أخرى لاتسعفني المساحة هنا للتوسع في مقاربة أعمالها فأننا هنا نستشف طبيعة اللون في أعمال الفنانة آمنة النصيري والتي تكاد تختبر ذائقة متلقيها إن لم توقعه في مغبة حكم قيمة بزعم التشابه التيمي لألواحها المتفردة، لكنها فجأة تضيء بنصوع خضرة ألوانها لتتخذ أبعادا سلسة في تصوير القرى والمدرجات اليمنية المرتبطة بالإرث الفلاحي والحضاري للإنسان، وعوامل التعايش مع الطبيعة والمناخ وتحولاتهما في سيرورة من الزمن المستمر، فتحتشد في لوحات النصيري عناصر جمة من الرموز وأنواع الزهور التي تتعين من قبيل رؤية التوثيق البصري للطبيعة الغنية بثراء تنوعها ومجالها النباتي، حتى لتبدو جماليات الفن في إبداع النصيري كمحميات طبيعية داخل الفن وإطاراته الآمنة والأكثر أمنا من واقعها في التعرض لعوامل الطبيعية والتعرية والاندثار.
مظهر نزار، اسم في الفن لا يمكن تجاهله أيضا، فلتجربته ومرسمه ومعارضه الاستعادية منذ عقود، حضور ماثل لعين المشاهد، وانطباع السائح الأجنبي الذي له علاقة بألواحه منذ استقرار الفن وسماسر الفن القديمة، التي عرفت كمتاحف مشتركة لمعارض الفن ورؤاه، وكم قدمت تجربة مظهر نزار اليمن بإشراقات اللون وطبيعة المعمار والمدلول الحضاري والتاريخي بشواهده، من خلال نماذج وأعمال وأوجه ومناظر تماست متماهية حد العشق مع صنعاء القديمة وحضرموت، ورمزية الهدهد وصورة المرأة كتجريد، وغير ذلك من استلهامات الفن وتعالقاته بالمكان والأرض والإنسان.
نقلا عن مجلة “اليمامة”