لؤي العزعزي
“ليس منا أبدًا من مزقا ليس منا أبدًا من فرقا
ليس منا أبدًا من يسكب النار في أزهارنا كي تحرقا”
تنبأ بالوحدة قبل وقوعها، وتغنى بها قبل مخاضها، ووافته المنية قبل تحولها لحقيقة معاشة بثمانية أعوام. شاعرًا وطنيًا لم يأخذ حقه، ولم يعرف عنه ألا ما غُرد عن قصائده الغنائية، وخاصةً تلك التي غردها بلبل اليمن الشجي “أيوب طارش عبسي” عرف كأبرز شعراء الأغنية اليمنية.
شاعرًا وصحفيًا ساخرًا ووزيرًا وسياسي ومن أوائل رجال حركة الأحرار، ومن أبرز كتابها وألمعهم.. الا أن ذاكرة التأريخ لم تذكره الا كشاعر غنائي فقط.
عبدالله عبدالوهاب نعمان، المعروف بالفضول نسبةً لصحيفته الساخرة “الفضول” الناقدة الساخرة الناشئة عام1948م.
الشاعر الذي حاك من شمس الوطن علمًا. ورفعه خفاقًا فوق القمم. من رددت الدنيا نشيدة. وأشرقت تحت سمائه سيوفه. وباركت السماء نضاله وعانق شماله جنوبه.
الشاعر الذي كتب النشيد الوطني الحالي. الشاعر المتفجر شاعرية، ومشاعر.
فارق الحبيب، ورحب بالضيف، وزف العروس، وغنى للصبايا، وغرد مع الطيور، وبكى معهن، وأنشد للوطن، والمواطن. للفلاح، والمهاجر.. الشاعر المتقد عاطفه، وشاعرية، ووطنية متأصلة.
بزوغ نجمه
عبدالله عبدالوهاب نعمان “الفضول” 1917-1982 نشأ وتعلم في بلدته في ذبحان مديرية الشمايتين عزلة/قضاء الحجرية ريف تعز جنوب غربي اليمن. والدة الشيخ البك عبدالوهاب نعمان قائمقام الحجرية بمرسوم من الباب العالي للأستانة من أوائل الممانعين للحكم الإمامي 1918م وتوفى مناضلًا ضد الإمامة، بث في أولاده ومنهم الفضول الروح الوطنية، والثورية. تعلم الفضول على يد والده، وابن عمة الأستاذ أحمد محمد نعمان المناضل ضد حكم ال حميد الدين. انتقل بعدها لمدينة العلم والعلماء “زبيد” ليتلقى العلوم الدينية، واللغوية. عمل مدرسًا في مدرسة “الأحمدية” في تعز 1944م. عرف كأبية وابن عمة بمعارضة الحكم الإمامي، والقي القبض عليه بعد فشل ثورة الدستور 1948م. اعدم والده، بينما استطاع هو الفرار والإلتحاق بمدرسة بازرعة في عدن. لم يستقر به الحال، فستقال من عمله كمدرس. وعمل في مجال الصحافة محررًا في صحيفة “صوت اليمن” وكان يكتب لصحيفة “فتاة الجزيرة” تحت أسم مستعار باسم له دلالةً بالغة عن حالة وحال الكثير وقت ذاك “يمني بلا مأوى”. عندما أسست “الجمعية اليمنية الكبرى” مطبعة عرفت بمطبعة ” النهضة اليمانية” عمل فيها على رص الحروف لصحيفة “صوت اليمن” وفي تشغيل المطبعة، وإدارتها إلى جانب كونه صحفي كاتب في المقام الأول.
لم يطول الحال حتى أسس صحيفته الخاصة عام 1948م وأطلق عليها الإسم الذي عرف واشتهر به “الفضول”. لم يكن للصحيفة مكتب أو إدارة، أو صندوق بريد أو حتى فريق عمل. فقط الفضول وحقيبته التي لم يكن يفارقها والتي اطلق عليها -أي الفضول- ساخرًا كعادته “خُرج الفضول”. لم يستمر صدور صحيفته طويلًا، وتم غلقها من قبل قوات الإستعمار البريطاني سنة 1953؛ لرفضهم تجديد رخصة الصحيفة؛ بضغوط قوية من الإمام.
الا إنه لم يستسلم والتحق بصحيفة “الكفاح” وعمل مشرفًا عليها. وساهم أثناء عمله فيها بالدعوى إلى انشاء كلية “بلقيس” في مدينة عدن التي استقر به المقام قليلًا، وبها توثقت علاقاته بالثوار على حكم الإمامة، واستمرت علاقاته حتى قيام الثورة الجمهورية التي أطاحت بالنظام الملكي عام 1962م.
الفضول سياسيًا
حسب مصادر عديدة ذُكر اعتقال الفضول سنة 1966 بينما هو يتنقل بين الشمال والجنوب كعادته مع مجموعة من السياسيين والزج بهم في سجن رداع المشهور. تحديدًا عندما اعتقلت السلطات المصرية حكومة ابن عمة الأستاذ أحمد محمد نعمان في القاهرة؛ لمعارضتهم التدخل المصري السافر بالشؤون الداخلية اليمنية.
ولم يطلق صراح سجناء القاهرة ورداع الا بعد نكسة سنة 1967م وهنا كتب الفضول رائعته “أرض المروءات” التي عاتب فيها مصر على ما صارت إليه اليمن وقتذاك:
أَيْنَهَـا مِصْرُ لِكَيْ يُخْجِلَهَا أَدَبُ الأَحْزَانِ بِالعَتْبِ الوَدُوْدِ
هَــذِهِ أَحْزَانُنَا لَيْسَ بِهَا أنَّـةٌ تَخْرُجُ مِنْ صَدْرٍ جَحُوْدِ
إِنَّهَا مَأسَـاتُنَا قَدْ جَاءَ يَصْنَعـــُهَا فِيْنَا حَدِيْثَاً لِلْخُلُوْدِ
مُسْلِــمٌ أَنْبَتَ فِيْ إِسْلاَمِنَا أَلْسُنَاً تُثْنِيْ عَلَىْ رِفْقِ اليَهُوْدِ
ثُمَّ أَرْخَى دَمْعَـــةً تُبْدِيْ بِهِ صَالِحَاً أَكْمَدَهُ كُفْرَ ثَمُوْدِ
لِتَـرَىْ مَنْ طَرَحُوْا أَخْلاَقَهُمْ سَيْفَهَا فِيْ عُنُقِ الفَجْرِ الوَلِيْدِ
وأَتَـوْا فِيْنَا عَلَىْ مَجْهُوْدِهَا بَصْقَةً يُمْحَىْ بِهَا فَضْلَ الجُهُوْدِ
بدأت رحلته السياسية سنة 1968م مديرًا لمكتب الإقتصاد والجمارك في تعز تحديدًا بعد انقلاب نوفمبر للعام ذاته. ثم وزيرًا للإعلام وشؤون الوحدة بعدها بسنة ولم يستمر بالمنصب طويلًا؛ وقدم استقالته احتجاجًا على ما الات إليه البلاد آنذاك. الا ان مصادر عديدة ذكرت انه بقرار من القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني -رئيس المجلس الرئاسي وقتها- نصب الفضول بمنصب مستشار لرئاسة الجمهورية.. وقد اطلق على نفسه -حسب المصادر- ساخرًا ومحتجًا بالمستشار الذي لا يستشيره أحد. واستمر في المنصب إلى ان وافته المنية إلى جانب كتابة القصائد التي لازالت معظمها حبيسة الأدراج حسب مقربين.
الفضول عرف باستنهاض الهمم اليمنية للقيام بالثورة الوطنية ضد الإمامة، والإستعمار البريطاني. مما اودى به للوقوع في الكثير من الإشكاليات قبل الثورة الجمهورية.
التفرغ للفن
بعد تقديم الاستقالة من منصب وزارة الإعلام وشؤون الوحدة تفرغ للشعر، والأدب. غنى له الكثيرين الا إنه كون ثنائيًا ناجعًا مع فنان الوطن “أيوب طارش عبسي” وشكلا ثنائيًا فنيًا قدما الكثير من الأعمال والملاحم الفنية الغنائية التي ملئت الدنيا، وحلقت سماء الوطن من أقصاه لأقصاه. حضورًا فنيًا غنائيًا غنيًا وفريدًا، ومميزًا مثل حضورًا واسعًا في وجدان، وخيال، وذاكرة.. الإنسان اليمني ولازال حتى اللحظة.
من أوائل أغانيه الغزلية “شبان القبيلة” الأغنيتين اللتين لحنهما الفنان القدير محمد مرشد ناجي لروحه السلام من أوائل أغانيه الغزلية “شبان القبيلة” الأغنيتين اللتين لحنهما الفنان القدير محمد مرشد ناجي لروحه السلام والخلود، وغناها محمد صالح عزاني، والفنانة فتحية الصغير. ومن بعدهما بأغنية أخرى تغنى بها المرحوم أحمد علي قاسم. ومن أشهر اغانيه الأولى “دق القاع” و “عدن عدن” وهما وثيقتا توثيق علاقة الفضول بأيوب طارش عبسي.
أم كلثوم والفضول
حسب صديقي المرحوم-الفضول- جازم الحروي، وأمين قاسم سلطان. فإن سيدة الطرب والغناء العربي أم كلثوم كانت قد أخذت قصيدة الفضول “لك أيامي” لتغنيها مع جملة من القصائد التي عزمت على غنائها لشعراء من كافة أنحاء العالم العربي؛ غير أن المنية وافتها قبل أن تحقق ذلك.
ميزاته الفنية والشاعرية
تميز شعره بالسلاسة والسهولة والعمق. بين الفصحى والعامية. تميز شعرة برشاقة العبارة، وغزارة الأسلوب، وتدفق الصور الجمالية والشعرية.. نحا في ذلك نحو أعلام المدرسة الرومنسية.
استطاع أن يزاوج بين الفصحى والعامية.
قال الشاعر الشاب يحيى الحمادي في قصيدتي الفضول ” من أجل عينيك” “مدارب السيل”: “تعتبر أغنيتا من أجل عينيك ومدارب السيل علامتين فارقتين في التوجة الحداثي للشعر الغنائي اليمني.. إذ خرجتا عن القاموس المكرور الذي نسج على منواله الكثير من شعراء الأغنية اليمنية خاصةً الصنعانية منها ألا ما ندر في شعر صبرة والحضراني. فالأغنيتين قالتا لنا كيف بإمكان الشاعر أن يقول كلامًا كبيرًا، وعميقًا بأقل ما يمكن من الحروف البسيطة السهلة”
وكذا يقول الدكتور الشاعر عبدالعزيز المقالح معلقًا عن ديوان الفضول الوحيد ” الفيروزة”: “كل عز لا ينبع من القلب لا يكون مختلطًا بصوت الوجدان مهما كان غرضه لا يصل الى القلب، ولا يتجاوز التلاعب الصوتي با لألفاظ ولكن بالرغم من ذلك التجديد المطلق فان ما يسمى بشعر الإفضاء عن الإحساسات، والإنفعالات التي يستخدمها الشاعر من معاناته العاطفية، وتتبلور في صيغة فنية تعكس صدق التجربة مع الحب والحبيب. وهذا نموذج واحد من شعر الحب عند الفضول وهو نموذج منتزع عشوائيًا من بين عدد غير قليل من النماذج العاطفية، وهي غير تلك النصوص الغنائية التي تتردد على حناجر الغنائيين الموهوبين .. وفي مقدمتهم الفنان أيوب طارش”
ويستطرد المقالح “ان هذا هو نص القصيدة العاطفية التي يروى فيها الشاعر حكاية حب كبير لم يكتب له البقاء ولم يعمر في واقع الحياة طويلا”.
قفل قصيدة حياته
بسكتةً قلبية سنة 1982م توفي الفضول وترك لنا ارث فني، ووطني ناضح بالقومية، والجمال عن عمر ناهز الخامسة والستون عاماً.
حياة حافلة بالإنجازات السياسية، والنضالية، والفنية.. توفى قبل أن ينشر نتاجه الكامل. ولم ينشر له سوى ديوان ” الفيروزة” وكُتيب “المعرفة سلاح المعركة” غير انه لم ينشر باسمه حسب نجلة مروان، واخيه المهندس عبدالكريم عبدالله عبدالوهاب نعمان والذين اخرجا الديوان والكتيب بمجهودهما الشخصي.
قلّده الرئيس علي ناصر محمد، رئيس هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى، في اليمن الجنوبي حينها، وسام الآداب والفنون، في 10 سبتمبر/ أيلول 1980.
كما قلّده الرئيس علي عبدالله صالح، رئيس الجمهورية العربية اليمنية حينها، وسام الفنون في 23 يونيو/ حزيران 1982.
وأطلق على مكتب الثقافة لمحافظة تعز باسمه غير انه لم توضع بشكل عملي.
يقول فضل النقيب في ذكرى وفاة فقيدنا عام 2007: “مازال «الفضول» عبدالله عبدالوهاب نعمان عقب مرور 26 عاماً على رحيله في مثل هذا الشهر الكريم بتاريخ 14 رمضان 1402 هـ يتلألأ في ضمائرنا ووجداناتنا وشعاف جبالنا وأغوار ودياننا ومدارب السيول وأفواف الزهور وعيون العشاق ودموع المحرومين المحزونين كما لم يستطع أي مبدع آخر في جيله ان ينافسه أو يكون بجانبه فرس رهان؛ ذلك أن ينابيعه لم تكن في وارد العموم ولا حتى خصوص الخصوص فهو أشبه بالطفل العبقري يرى ما لا ترى العيون ولذلك يتسم شعره بالدهشة البريئة والقدرة الفائقة على إعادة الخلق فإذا ما وقعت في يده حصاة شربت من الأمطار واستضاءت بالبروق تحولت إلى زمردة انيقة على صدر المحبوبة الولهى ، وهو ليس بحاجة إلى الشهادة من أحد ، فمن زكته الحقول والشلالات وبيادر الحب المحلقة بأجنحة الملائكة لا يحتاج إلى تزكيات النقاد وأظنه كان ضنيناً بغرره على الكتابة والكتاب، ولكننا اليوم أحوج ما نكون إليه، إلى روحه الموقدة الجامعة إلى غضبه الهادر وتسامحه الوسيع ومفهومه لوطن المحبة السالك إلى الخير والنافر من الضير”
ورثاه الدكتور عبدالعزيز المقالح ” لقد رحل عبد الله عبد الوهاب عن حياتنا فجأة لكنه لم يدخلها فجأة بل دخلها صارخا صاخبا سخرا دخلها من كل الوان الواقع الدميم الذي عانت وتعاني منه بلدنا وكانت سخريته وضحكته هما الوسيلة إلي التغيير كما كانا أيضا وسيلته إلي مقاومة اليأس ومرارة مواجهة الاخرين وبعد .. فهذه الكلمة الطالعة من زحمة المشاعر الحزينة ليست نعيا وليست رثاء انما هي مجرد تعبير عن صدمة المفاجأة عزائي لا بناء الشاعر الفقيد ولكل إفراد اسرته.. وعزائي للشعر والشعراء.. وانا لله وانا إليه راجعون “
وودعته بلقيس إبراهيم الحضراني:
“لا أحب ما أعزي به نفسي ونفس من احبوك سوى هذه الابيات لرفيق دربك إبراهيم الحضراني
قد رحلوا لم يضربوا موعدا إن عزائـي أن أراهم غدا
ما بعدوا عني سوى غمضة وتلتقــي الغاية والمبتـدأ”
برحيلة فقدت اليمن مشعلًا من مشاعل العطاء والشاعرية والنضال. فقدنا علمًا من معالم الحرية، والمحبة، والعطاء.. ما يعزيني أنه سيظل خالدًا بأعماله الخالدة التي لا ولن تموت.