تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » “دروب المرجلة”.. درس لصناع الدراما !

“دروب المرجلة”.. درس لصناع الدراما !

دروب المرجلة

زهير الطاهري*

يخوض مسلسل دروب المرجلة في مناطق معقدة على المستويين النفسي والاجتماعي بما يتعلق بالشخصية من حيث الفطري والمكتسب وطريقة بنائها وإعادة تشكيلها، أو بالأصح ولادة الشخصية مرة ثانية، ولادة من رحم البيئة والتجربة، وهي طريقة بدوية قديمة لصناعة الرجال، اختبار كفاءة أو رجولة، سمها ما شئت، لكن الفشل فيها كبير والناجي منها يكون شخصا مختلفا، تجارب شاقة في بيئات قاسية تكفي لتفقد المرء شخصيته، في سبيل إعادة تشكيلها من جديد، على افتراض أن كل شيء مكتسب وقابل للتغيير. فشاهين الفتى المدلل وابن المدينة الطري يجد نفسه في مجتمع مختلف كليا من حيث الطبيعة والحياة، وانعدام الخصوصية حيث الكل هنا يخص الكل، بالإضافة إلى التناقضات التي أشار إليها الدكتور د. قائد غيلان في منشوره بخصوص مجتمع البدو.

لكن الجانب النفسي الذي كان يفترض أن يخوض فيه المسلسل كونه القضية المحورية للمسلسل بقى غائبا، والذي كان يفترض أن يقدم عبر شخصيات ثلاث شاهين الولد المدلل أو المايع حد تعبير الدكتور قائد والذي يجسده صلاح الوافي والذي كان يجب أن تفقده الأحداث كوميديته قبل كل شيء، ورشة الواقعة بين السيء والأسوء شاهين وحابس، أما الشخصية الثالثة فهي خضراء الواقعة بين طرفي الصراع زوجة مهاوش وقريبة حابس.

لذا كان من الأحرى أن يتوغل المسلسل في الصراع الداخلي لهذه الشخصيات، لكن في ظل كاتب لا يكترث لتطور الشخصية، سيتعرض شاهين الفتى المدلل لكافة الأزمات دفعة واحدة ويخرج منها بنفس سليمة، لا خدوش نفسية ولا أزمات، فالحوارات الداخلية قليلة أو شبه معدومة بالنسبة لشخصية مجبرة على خوض تجربة معقدة كهذه، وكان يجب أن تعطى حقها من الدراما، فالغربة والحب والتناقض الهووي بين البدو والمدن وصراعات الأطراف داخل القبيلة لم تترك فيه أثرا حقيقيا، سوى محاولة هروب فهلوية وغير مكتملة.

وبالمناسبة، لا يوجد فنان قادر على تأدية هذا الدور المعقد بما فيه من تحولات نفسية واجتماعية رهيبة كصلاح الوافي الذي يستطيع الانتقال من الكوميديا والفهلوة إلى الدراما بسلاسة، لكن المشكلة في غياب الكاتب الواعي والذي يستطيع سبر هذه المناطق بطريقة لا تفقد الشخصية تلقائيتها، فلا يجب أن تتوقف شخصية شاهين عند هذا الحد، وكأنه كمبارس وليس شخصية رئيسية، فتجربة الحب تبدو حقيقية وناضجة من جهة رشة وفهلوية من جهة شاهين.

المسلسل تجربة كبيرة ولا يمكن اختزاله في مقال أو مقالين، وكان أهم ما فيه تسكين الأدوار وهو ما يبرز شخصية المخرج وقدراته الفنية، لذا قد تجد قصورا في بناء إحدى الشخصيات لكنك لن تجد نشازا في تسكين الأدوار. كشخصية خضراء مثلا، فهي شخصية ناقصة ولم تعط حقها، فهي شخصية ثانوية، بينما يفترض أن تكون رئيسية لكونها أكثر الشخصيات تأثرا بالصراع الخارجي، وكان يجب أن يتاح لها مساحة أكبر في السيناريو والحوار خصوصا الحوارات الداخلية التي تعكس الصراع النفسي، لكن اختيار هديل مانع بأدائها العفوي لشخصية المرأة الخفيفة يغطي النقص ويحجب الرؤية، وتنقلك إلى أبعاد مختلفة فتنسى معها ما كان يجب أن يكون، فهديل موهبة كبيرة حين تكون في المكان المناسب، وقد نجح المخرج في معالجة ثغرات السيناريو التي كان يمكن أن تظهر لو كانت غير هديل.

المسلسل بحد ذاته مغامرة حقيقية من حيث اللهجة والبيئة الاجتماعية الغريبة على الطاقم ما يشكل تحديا حقيقيا أمامهم، واحتمالية الفشل كبير، لكنه في الوقت نفسه فرصة لصقل قدرات الفنانين لتقديم أدوار تليق بهم، وإثبات قدراتهم على تقمص الشخصيات، فاختلاط الذات بالشخصية سيبدو واضحا حين تتغير البيئة واللهجة والتي تفرض شخصياتها عليهم، فالخلاف هنا ليس مجرد خلاف لغوي يمكن تجاوزه، البيئة واللهجة خلاقة دائما.

في النهاية، المسلسل تجربة درامية مختلفة، ودرسا يجب أن يحفظه صناع الدراما جيدا، فهو نموذج حي لكيفية الفصل بين الذاتي والدرامي، حل مبتكر لمشكلة تداخل الشخصيات في المسلسلات.

*كاتب وناقد يمني