كمال القاضي
ثقافة المكان التي عبر عنها الكثير من مُبدعي الأدب والسينما والدراما التلفزيونية ليست هي فقط المفهوم المُرتبط بالحارة المصرية، التي صورها الكاتب نجيب محفوظ، في عدد كبير من رواياته، وتحولت إلى مجموعة من الأفلام.
ثمة فارق كبير بين مفهوم المكان بمعناه الواسع، وشكل الحارة المصرية وطبيعتها، فالمكان كمساحة وموقع وزاوية رؤية وثقافة جرى استخدامه كمكون أساسي من مكونات الصورة السينمائية في عشرات الأفلام المصرية، أو ربما المئات، إذ لم يقتصر المكان فقط على الشارع أو الحارة أو البيت، لكنه شمل العديد من النماذج التي يمكن للكاميرا التحرك في داخلها لإعطاء بُعد مُعين يترجم الفكرة الدرامية، كما قصدها الكاتب ونفذها المخرج. على سبيل المثال نجد فيلماً مهماً للمخرج صلاح أبو سيف بعنوان «بين السماء والأرض كتب له السيناريو نجيب محفوظ ودارت مُعظم أحداثه داخل المصعد وتم تتبع الشخصيات وحكاياتهم وما أحدثته أزمة البقاء لفترة طويلة داخل المربع الضيق. وبشكل معين تم توظيف اللغة التعبيرية على مستويات كثيرة لزيادة التفاعل بين الحدث والمُتلقي، ولم يتولد أدنى إحساس بالملل، رغم محدودية المكان والتركيز على اللحظات الحرجة للأبطال في مُعظم الأحيان. إنها عبقرية الإخراج التي انفرد بها صلاح أبو سيف في هذا الفيلم، ودلل بها على قُدراته الفائقة في اختزال أهم الصور الإبداعية المؤثرة بأدق التفاصيل، في مواقف تبدو عابرة للوهلة الأولى، بينما يُعطيها التضمين الذكي أبعاداً أعمق من مجرد الخوف من سقوط المصعد «الأسانسير» وهلاك من فيه.
في فيلم «البداية» أيضاً رمز صلاح أبو سيف بالواحة التي سقطت فيها الطائرة إلى المجتمع البدائي، الذي نشأ بفعل الورطة وتأسس على مبادئ الخوف والاستسلام لديكتاتورية البطل جميل راتب، الذي نصب نفسه زعيماً على ركاب الطائرة المنكوبة، وتحكم في مُقدراتهم ولم يجد من يُعارضه إلا البطل الآخر المُثقف أحمد زكي، الذي رفض الانصياع لأوامره وأصر على مواجهته حتى نهاية الأحداث. المكان هنا وهو الواحة لعب دوراً رئيسياً في التكوين الإبداعي والإسقاط الرمزي السياسي على الواقع الذي أشار إليه في حينه المخرج، بوصفة يُمثل في ذاته قضية كُبرى تمس حرية الفرد والجماعة وتؤثر على قوام الدولة والمُجتمع.
نأتي إلى إبداع المخرج توفيق صالح، الذي قدم رؤية سينمائية عالية المستوى في فيلم «درب المهابيل»، الذي اعتمد على البطولة الجماعية بين شكري سرحان وتوفيق الدقن وعبد الغني قمر وحسن البارودي، حيث ناقش مفهوم الثروة وتأثيراتها السلبية على الطامعين فيها، واستخلص جُل المعاني المهمة من أصغر التفاصيل، فضلاً عن أن المخرج استغل المكان بطبيعته المتواضعة كبيئة فقيرة في تأكيد فكرة الجشع والطمع والاستغلال، المسيطرة على المحرومين من نعمة الكفاية والكفالة الاجتماعية المنوط بالدولة توفيرها لزوم الاستقرار والإحساس بالأمان، وهما العنصران المُفتقدان، حسب المقصد الدرامي والهدف وسياق الأحداث.
كذلك عبّر المخرج داود عبد السيد في فيلم «الكيت كات» بطريقة تسجيلية روائية فريدة عن إبداع المكان في الصورة السينمائية ودلالات اللون والإضاءة، كإضافات ضرورية لإبراز المعنى الخاص الذي أراده وكان واضحاً في رؤيته كمخرج وسيناريست. كما أنه نجح في توثيق الحالة الأدبية الروائية التي استهدفها الكاتب إبراهيم أصلان في روايته «مالك الحزين» المأخوذ عنها الفيلم ببعض التصرف الواجب لزوم الحبكة الدرامية. ولم يخرج إبداع المخرج خيري بشارة في فيلمه «يوم مر ويوم حلو» مع الفنانة فاتن حمامة عن التأثير القوي للمكان كخلفية للأحداث، فالحارة الضيقة التي جرت وقائع الحدوتة التراجيدية فيها كانت هي البطل الحقيقي، حيث علامات الفقر والعوز والاحتياج والحرمان العاطفي والإنساني، كونت في مُجملها اللوحة المأساوية المؤلمة والموجعة وهذا ما تميزت به أجواء الفيلم وساعد الأبطال على تقمص أدوارهم بُمنتهى المهارة والمُعايشة الصادقة.
هناك فيلمان آخران للمخرج يسري نصر الله برز فيهما تأثير المكان بتميز واضح هما «باب الشمس» الذي ناقش هموم الشعب الفلسطيني عبر مسيرته الحياتية المُضنية في جزئي الرحيل والعودة، إذ تم التركيز على القرى الفلسطينية والطُرق والممرات والبيوت وأماكن عديدة كان لها دور في ترجمة صور الشتات بأفضل ما تكون الترجمة الإبداعية والواقعية لكفاح الشعب الباسل بفئاته المُختلفة.
أما الفيلم الثاني فهو «بعد الموقعة» الذي تم إنتاجه إبان اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني واستهدف الإشارة إلى ما جرى من أحداث واشتباكات خلال موقعة الجمل مع تمديد الأحداث وتفريعها إلى مسارات ذات صله، هذا الفيلم أسندت بطولته لباسم سمرة، وتم الاعتناء فيه على وجه التحديد بميدان التحرير وقت حدوث موقعة الجمل كنقطة ارتكاز أساسية في الأحداث، لذا توجبت الإشارة إلية كأحد الأعمال التي وضح فيها جلياً عنصر المكان بتأثيراته وخلفياته الموضوعية والفنية.
كاتب مصري