الرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا ارتبط بالأدب الروائي والمسرحي بخاصة، ارتباطاً وثيقاً هو الذي كان قارئاً نهماً ينكب على الكتب بتوق ليقرأ كل ما يقع بين يديه منها صباحاً ومساءً مدمدماً بأنه يعيش شغف القراءة بصورة تفوق أي شغف آخر يستبد به
يوم قال الفنان الرومانسي الفرنسي يوجين ديلاكروا في مجمع من أصدقائه وحوارييه إنه لو لم يتجه في شبابه المبكر إلى الرسم محققاً فيه تلك النجاحات التي ربطته به إلى الأبد، لكان سلك طريقاً أخرى هي طريق الكتابة الأدبية رواية ومسرحاً، وربما شعراً أيضاً، لم يرَ أي من مستمعيه أنه يبالغ فيما يقول أو يمزح. وذلك لسببين أولهما أنه صرح بذلك في مرحلة متقدمة جداً من حياته، وبعدما كان كل الملتفين من حوله في تلك اللحظة قد قرأوا له من النصوص، ولا سيما في يومياته ما أقنعهم حقاً بامتلاكه موهبة الكتابة، ناهيك بموهبة الرسم، بل أكثر من ذلك: فهو الذي كان سيداً كبيراً من سادة الرومانطيقية في لوحاته سواء كانت تاريخية أو معاصرة وحتى استشراقية، عرف في كتاباته كيف يعبر عن واقعية لا لبس أو غموض فيها ما يعني أنه كان ينهل مما يعيشه وبأكثر مما فعل في لوحاته، وثانيهما أنهم في معظمهم كانوا من المؤمنين بـ”نظرية في الإبداع” فحواها أنك إن كنت مبدعاً إلى ذلك الحد الكبير في صنف إبداعي معين، لا يمكنك إلا أن تكون مبدعاً وعلى قدم المساراة بالنسبة إلى أي صنف إبداعي آخر. ولقد أثبت ديلاكروا أنه يمتلك تعدد المواهب الإبداعية بالفعل.
قارئ نهم للروائع
غير أن هذا كله لا يكفي. فالواقع أن ديلاكروا ارتبط حقاً بالأدب الروائي والمسرحي بخاصة، ارتباطاً وثيقاً هو الذي كان قارئاً نهماً ينكب على الكتب بتوق ليقرأ كل ما يقع بين يديه منها صباحاً ومساءً مدمدماً بأنه يعيش شغف القراءة بصورة تفوق أي شغف آخر يستبد به. وهو كان يقرأ كل ما يقع بين يديه كما كان يحرص على حضور العروض الأولى للمسرحيات ويغوص في كتب التاريخ ويصادق الشعراء والمؤرخين مفاتحاً إياهم برغبته الدائمة في الاطلاع على أسرار عملهم وعلاقتهم بما يكتبونه. ولعل في إمكاننا أن نتلمس ذلك كله في يومياته وعديد من النصوص التي كتبها خاصة حول رحلاته ومنها تلك التي قام بها إلى بلدان شمال أفريقيا وعاد منها بألوف الصفحات والتخطيطات التي سيحولها لاحقاً إلى تلك اللوحات الرائعة التي جعلت له مكانته الكبيرة كمؤسس الحركة الفنية الرومانسية في فرنسا وربما في أوروبا كلها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الصفحات الكثيرة التي حملت نلك التخطيطات، وغالباً بالألوان، والتي ستتحول لاحقاً إلى لوحات ضخمة ملونة، لم تكن تضم الرسوم وحدها، بل شروحات بقلم الرسام تتعلق بالمشاهد، ويقيناً أن تلك الشروحات يمكنها أن تكون نصوصاً أدبية مدهشة، وليس فقط في أدب الرحلات.
ولكن من المؤكد أن ذلك كله لم يكف ديلاكروا كي يشبع نهمه إلى الكتابة. هنا في هذا المجال قد لا يكون من المغالاة القول إن ثمة جانباً آخر لا يقل أهمية عن ذلك كله، حرك لدى ديلاكروا ومنذ وقت مبكر ذلك المزج لديه بين الرسم والكتابة. ولئن كنا قد أشرنا إلى ذلك عرضاً أول هذا الكلام، ننتقل هنا إلى شيء من التفاصيل في تناوله. وهو شغف الرسام بالقراءة، ولا سيما بقراءة مسرحيات شكسبير التي مده ببعضها فكتور هوغو خلال مرحلة الصداقة – التي لم تطل كثيراً على أية حال – بينهما. ولكن كذلك بقراءته لقسمي مسرحية “فاوست” للألماني الكبير غوته. ومن هنا تساوى لديه اهتمامه بالشخصيتين المسرحيتين الأدبيتين التاريخيتين: هاملت لدى شكسبير وفاوست لدى غوته.
موقع الفنان الحقيقي
لكن ذلك الاهتمام لم يتوقف عند التعاطي مع الشخصيتين من موقع المتلقي الفائق الإعجاب، بل من موقع الفنان الحقيقي الذي لم يتوان عن النظر إلى ذينك البطلين الإنسانيين الكبيرين كما اعتاد أن ينظر إلى المواضيع أو اللحظات الكبرى، ولا سيما التراجيدية منها، أو حتى ذات البعد الاستعراضي. وهكذا كما صور ديلاكروا في لوحاته مشاهد مثل “موت ساردانيبال” أو “مجزرة شايو” أو “الحرية تقود الشعب” أو حتى “اغتيال مطران لياج” وعشرات غيرها. وأيضاً كما انكب في مراحل متفرقة على تكريس رسوم رائعة تزين نصوصاً للورد بايرون وهوميروس ووالتر سكوت، ودانتي، رأيناه يخص هاملت مثلا، ولا سيما حبيبته وضحيته أوفيليا بلوحات عديدة تحسب من روائعه. أما بالنسبة إلى فاوست فإن الحصة من فن ديلاكروا التي كرست للمسرحية في قسميها كانت أكثر لفتاً للنظر. ومن نوع لا بأس من التوقف عنده، فالحال أن ديلاكروا كان معتاداً في معظم الأعمال الفنية التي حققها في هذا المجال على أن يفرد لكل عمل أو شخصية لوحة أو عدة لوحات متفرقة، لكن الذي حدث بالنسبة إلى فاوست كان أمراً آخر. كان شيئاً أشبه بألبومات الشرائط المصورة التي لئن كانت معروفة في ذلك الحين فإن انتشارها لم يكن ليتعلق بهذا النوع، لكنه بالنسبة إلى مسرحية غوته الكبرى، خاض ديلاكروا التجربة لمرة نادرة. أي إنه هنا حقق رسوماً تتعلق بصورة متسلسلة بنص بأكمله. فكانت النتيجة 17 لوحة “ليتوغرافية” للنسخ اختصر فيها لحظات أساساً من المسرحية رافقت ترجمتها إلى الفرنسية. أو لنقل بالأحرى اللحظات الأكثر درامية فيها.
مفيستوفليس الغرائبي
والحال أن ديلاكروا نفسه سيقول لاحقاً تعليقاً على تلك الرسوم التي شرع في إنجازها في عام 1828 وتبقى أشهرها تلك الرسمة التي تصور الشيطان مفيستوفليس طائراً بجناحين فوق المدينة، والتي تعمد الرسام ألا يجعل ذلك الشرير فيها متطابقاً مع تصوير غوته القلمي له، بل أعطاه جانحين وجعله قبيح الملامح متين البنية إنسانيها على رغم غرائبية الشخصية نفسها، يطير فوق المدينة حاملاً في ملامحه أقصى درجات الشر والمكر والنذالة. – سيقول ديلاكروا إذاً إنه في الحقيقة حين بدأ يحقق تلك الرسمة، لم يجد بداً من أن يبحث عن إلهامه الفني، ليضفيه على إلهامه الأدبي المستمد مباشرة من غوته بالطبع “ولكن كذلك من الحكايات الفاوستية السابقة على استحواذ هذا الأخير على الشخصية وحكايتها”، بحث عن إلهامه إذا ووجده لدى رمبراندت في رسومه بالأسود والأبيض، حيث “شددت على القيمة المطلقة للون الأسود كي أركز على التفاوت الشديد بين النور والظلام، أي بين فاوست عاشق غريتشن والخجول عادة، وبين مفيستو أمير الظلمات” وهذا التفاوت سرعان ما يصوره لنا ديلاكروا في واحدة من أولى لوحات المجموعة، حيث يظهر التحول الذي طرأ على الدكتور الخجول المسالم لنراه وقد تحول إلى شرير مشاكس لا يتورع عن التحرش بأول شخص يراه في طريقه قرب بيت غرتشن (مرغريت) التي بدلاً من أن يغازلها يحاول اغتصابها تحت تأليب مفيستو الذي بات الآن يرافقه في موبقاته كتنفيذ للشرط الذي عقد بينهما.
فائدة متبادلة
تلك المشاهد وغيرها هي التي تؤلف متن تلك المجموعة من المشاهد التي شكل فيها دنو ديلاكروا من الأدب – سواء المسرحي كما الحال هنا، أو الروائي كما في رسوم غير هذه – قمة انخراطه في ذلك الإبداع الذي حلا له فيه أن يمزج بين رسمه المتفرد في زمنه، وبين تلك الإبداعات الأدبية التي سيقول دائماً إنها كونته بقدر ما كونه الفن التشكيلي الذي اختاره على أية حال طريقاً ومهنة لن تبعداه طوال حياته عن تلك الخيارات الأدبية التي جعلته متفرداً في تلك الازدواجية التي ستجعل الرسام الإنجليزي فرانسيس بيكون، وبعد ديلاكروا بقرن ونصف القرن من الزمن، يعد نفسه مجرد واحد من مريدي ديلاكروا في اتباعه الأساليب الرومانسية في فنه التشكيلي هو الآخر، ففي الأقل في ربطه بين الأدب والرسم في بوتقة واحدة. صحيح أننا لسنا أمام الفنانين في نفس العوالم الفنية ولا إزاء نفس الأساليب، لكننا أمام ربط محكم وذي دلالة عميقة بين صنفين فنيين لا شك أنهما استفادا معا من ذلك الربط بما عاد بالفائدة على الاثنين معاً.