حوّل المخرج المصري حسام التوني فيلم “الطاحونة الحمراء” إلى عرض مسرحي، مستعيناً بفرقة شبابية، غير مبال بالمقارنة بين الفيلم والمسرحية، على رغم الإمكانات المادية البسيطة التي توافرت له، ليؤكد أن القوة في الإمكانات البشرية لا المادية فحسب.
جرت العادة أن تتحول المسرحيات إلى أفلام سينمائية، فهناك، على سبيل المثال، حوالى 10 أعمال شهيرة لويليام شكسبير، التقطتها السينما وقدمتها في أعمال حققت شهرة واسعة، ونالت جوائز مرموقة، منها “الملك لير” و”ترويض النمرة” و”تاجر البندقية” و”يوليوس قيصر” و”روميو وجولييت” و”هاملت”، وهناك كذلك مسرحيات تينيسي وليامز التي تحولت إلى أفلام سينمائية مثل “عربة اسمها الرغبة” و”قطة على صفيح ساخن” و”وشم الوردة” وغيرها. هذه مجرد أمثلة، فقائمة المسرحيات التي تحولت إلى أفلام سينمائية تطول وتتنوع ما بين أعمال لكتاب غربيين وكتاب عرب أيضاً.
في المقابل لم يكُن عدد الأفلام التي تحولت إلى مسرحيات كبيراً، مقارنة بعدد المسرحيات التي تحولت إلى أفلام، ومنها على سبيل المثل فيلم الأنيمي الشهير “المخطوفة” للمخرج الياباني هاياوميازاكي الذي تحول إلى عرض مسرحي.
يتخوف صناع المسرح ربما، ولديهم حق، من فكرة تحويل الفيلم السينمائي إلى عمل مسرحي، نظراً إلى إمكانات السينما الكبيرة التي لا تتوافر للمسرح، مما يجعل المقارنة، حال تحويل الفيلم إلى مسرحية، صعبة بالنسبة إلى الأخيرة. وفي القاهرة أقدم المخرج حسام التوني على تحويل فيلم “الطاحونة الحمراء” Moulin Rouge) إلى عرض مسرحي، وهو فيلم رومانسي موسيقي أسترالي- أميركي من إنتاج وكتابة وإخراج باز لورمان، قامت بدور البطولة فيه الممثلة السويدية نيكول كيدمان وناتالي ميندوزا وإيوان مكريغور وريتشارد روكسبيرغ.
كثير من الأخطار
لقد أقدم مخرج مسرحية “الطاحونة الحمراء” على تجربة محفوفة بكثير من الأخطار، فنحن بصدد عمل مسرحي مأخوذ من فيلم عالمي شهير، توافرت له إمكانات ضخمة، مادية وبشرية، أما هو فيقدم عمله لفرقة القاهرة (تابعة لهيئة قصور الثقافة – وزارة الثقافة) وهي فرقة تتكون في غالبيتها من هواة ولا تتجاوز موازنتها 80 ألف جنيه (نحو 1500 دولار) ويريد لعرضه أن يكون استعراضياً غنائياً. فهل استطاع تقديم عرض مسرحي يمكنه الصمود، ولو قليلاً، عند مقارنته بالفيلم، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل وسيط جمالياته التي تخصه، بعيداً من فكرة الإمكانات؟.
تعود قصة “الطاحونة الحمراء” لعام 1899، عندما انتقل الشاعر الإنجليزي الشاب كريستيان إلى باريس من أجل معايشة الثورة البوهيمية، فقابل بالصدفة تولوز لوترك الذي أقنعه بكتابة مسرحية موسيقية لكباريه “مولان روج”، أو الطاحونة الحمراء، لكن كريستيان يقع في حب نجمة الكباريه الأولى، ساتين، تلك الفتاة التي يريدها شخص آخر لنفسه، ألا وهو الدوق مونروث، الثري الغيور الذي يعتبرها إحدى ممتلكاته الخاصة التي لا يجب على أحد الاقتراب منها أبداً، مما يشكل العقبة الرئيسة في طريق كريستيان وساتين للبقاء معاً.
تغييرات في النص
أجرى معد النص أحمد حسن البنا تغييرات عدة على النص الأصلي للفيلم، سواء بالحذف أو بالإضافة، ليناسب طبيعة الوسيط المسرحي، وخضع النص المعد كذلك لتدخل الدراماتورج وكاتب الأشعار أحمد زيدان الذي بث فيه قدراً كبيراً من الحيوية، وجعل قوامه الأساسي غنائياً، ولكن بعيداً من التطريب، وهو ما صاغه لحنياً وبوعي شديد زياد هجرس الذي استعان بفرقة موسيقية، كانت جزءاً من دراما العرض، فقدم الغناء حياً، فضلاً عن تداخل بعض الممثلين معه، أي أن وجود الفرقة على خشبة المسرح لم يكُن مجانياً، فالعرض يدور بمعظمه داخل ملهى ليلي، ومن الطبيعي أن تشكل الفرقة الموسيقية جزءاً من هذا الملهى، ومن الطبيعي كذلك أن تحدث حوارات أو طلبات بعينها من الرواد تلبيها الفرقة.
اكتفت مصممة الديكور والملابس نهاد السيد بتجسيد الطاحونة على مستوى مرتفع قليلاً في العمق، وعن يسار الطاحونة، في المستوى نفسه الفرقة الموسيقية، وعن يمينها مستوى أكثر ارتفاعاً لجلوس الدوق، دلالة على ارتفاع مكانته، وتركت المساحة الأكبر لوضع بعض المناضد والمقاعد، فضلاً عن إتاحة الفرصة للراقصين والممثلين لتقديم استعراضاتهم.
وجاء العرض في ثلاثة مناظر، الأول هو الملهى، والثاني غرفة الشاعر في الفندق، والأخير غرفة ساتين، وتم تغيير المنظر بسلاسة بإنزال ستار، أو تغيير موتيف، وحولت الطاحونة كذلك في أحد المشاهد إلى كنيسة بواسطة تحريك وضعية “الريش” لتصير صليباً، وهكذا جاء الديكور مقتصداً ومتقشفاً، لكنه أدى وظيفتيه، العملية والجمالية، بصورة جيدة، معبّراً عن وعي المصممة بطبيعة المكان والأحداث داخله. أما الملابس، فتميزت بالثراء وعكست طبيعة الشخصيات ووضعيتها الاجتماعية، وكذلك الفترة التاريخية التي تدور فيها الأحداث لتشكل الملابس مع الديكور والإضاءة (تصميم أحمد أمين) صورة العرض التي أكملتها استعراضات محمد بحيري، لنكون أمام عرض مسرحي غنائي استعراضي، تجسد الصورة متنه الأساسي.
استطاع المخرج، في ظل الإمكانات البسيطة المتوافرة لديه، تقديم عرض منضبط درامياً وثري بصرياً، مستغنياً عن كل ما يمكن الاستغناء عنه، فلا شيء مجانياً هنا، وعلى رغم ذلك تميز العرض بثراء صورته، لتشير هذه الصورة إلى معرفة المخرج الجيدة بطبيعة لغة الخشبة وقدرته على التكثيف وتقديم رؤيته في ضربات سريعة ومتلاحقة، وكذلك في صياغة مسرحية فيها من الإمتاع والتسلية بقدر ما فيها من الأفكار والأسئلة.
إن هذه الطاحونة مستمرة في الدوران لتسحقنا جميعاً، فإذا كانت ساتين، فتاة الطاحونة التي فضلت الحب على الثراء، طحنها مرض السل وماتت متأثرة به، فإن هناك البديل دائماً، تلك الفتاة المنافسة لها. لا تتوقف الطاحونة/ الحياة عن الدوران، غير متأثرة بحضور أو غياب أحد.
واختار المخرج ممثليه بعناية فائقة، فالبطلة ساتين (رحاب حسن) كانت أكثر شخصية يمكن التعاطف معها. فعلى رغم أنها تؤدي دور فتاة ليل، نجحت في إبراز تلك المشاعر الإنسانية المؤلمة التي تنتاب فتاة تبيع جسدها من أجل المال. أحاطت رحاب بأدق تفاصيل الشخصية وبأزمتها الوجودية، وجسدتها ببراعة شديدة من دون مبالغة أو افتعال. وقام محمد أمين بدور شارل، القواد، صاحب الطاحونة، بأداء متنوع ما بين القسوة والرحمة المدعاة، لنكون أمام شخصية مراوغة وانتهازية، تعرف كيف تصل إلى هدفها. أما شخصية الشاعر الإنجليزي شارل فأداها محمد أمين بعمق واضح وقدرة على التنوع ما بين التمثيل والغناء والاستعراض بصورة جيدة. وقام ضياء الصادق بدور الدوق الثري مونروث، باحترافية شديدة، وأجاد تجسيد تلك الشخصية المتعجرفة الكريهة، بصورة تبرز موهبته وخبرته.
وشاركت كذلك مريم جبريل ونهى مندور وروجيه ميخائيل، وهالة محمد ومحمد أبو علي وأحمد أبو الغيط وحازم الزغبي وميرنا موسى، وعبدالرحمن بودا وأمنية النجار ومحمد صفاء وتامر فؤاد وقطب محمد ومطربة الملهى راماج. مجموعة من الممثلين الموهوبين الذين أدوا أدوارهم كما لو كانوا ممثلين محترفين، وأصحاب خبرة في الوقوف على خشبة المسرح. نعم بينهم من يمتلك الخبرة، وقدم أعمالاً من قبل، لكن معظمهم ما زال في طور الهواية، مما يعكس الجهد الذي بذله المخرج في تدريبهم وإعدادهم، وقبل ذلك يعكس مواهبهم الواضحة التي تتيح تشكيلهم على هذا النحو أو ذاك.
عرض “الطاحونة الحمراء” من العروض المبهجة على مستوى الصورة والأداء التمثيلي والرؤية الإخراجية، وهو أيضاَ من العروض المحفزة على المغامرة وعدم الارتكان إلى فكرة ضعف الإمكانات المادية، وما دامت الإمكانات البشرية متوافرة، فلا خوف من رفع سقف الطموحات.