ينظّم متحف مدينة لوديف الفرنسية، معرضاً استعادياً ضخماً للحركة التعبيرية الألمانية، كما تجلت في العلاقة بين الفنون التشكيلية الألمانية والفن السينمائي في ألمانيا خلال العشرينيات من القرن المنصرم، من خلال مقاربة تاريخية ــ جمالية تلقي على الحركة التعبيرية نظرة جديدة تبيّن مدى أهميتها وراهنية أطروحاتها.
من منا لم يرتعد أثناء مشاهدته فيلم “نوسفيراتو مصّاص الدماء”، “متروبوليس”، “عيادة الدكتور كاليغاري” أو أي من أفلام السينما التعبيرية الالمانية لفترة العشرينيات؟ روائع لم تفقد شيئاً من سطوتها، كما يتجلى ذلك في المعرض الذي ينظّمه حالياً متحف مدينة لوديف الفرنسية، ويتوق إلى إظهار التأثيرات المتبادلة بين الفن التشكيلي والفن السينمائي في ألمانيا خلال العقد المذكور، وفقاً لمقاربة تاريخية ــ جمالية تلقي على الحركة التعبيرية نظرة جديدة تبيّن مدى أهميتها وراهنية أطروحاتها.
ولدت الحركة التعبيرية الفنية التي وسمت مرحلة بكاملها في أوروبا، في مطلع القرن العشرين، كردّ فعل على محنة التحضّر الزاحف، وتمددت في كل ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، إثر صدمة هذه الحرب والاضطرابات الاجتماعية التي تبعتها، وثورة المقاربة الفرويدية للأمراض العصابية والصدمات النفسية، التي شكّلت أرضية خصبة لانبثاق تلك الجمالية الرهيبة التي تتّسم بحدة وتشويه وغرابة لم يعرفها تاريخ الفن من قبل. ومنذ انطلاقتها، سعت هذه الحركة الطلائعية، قبل غيرها، إلى توحيد الفن والحياة، وإلى إلغاء الفصل بين الفنون، جاعلةً من المواهب المتعددة المثل الأعلى للفنان، ومن العمل الفني الكلي الهدف المنشود.
جميع الفنون
ولا عجب إذاً في تغلغل التعبيرية داخل جميع الفنون: المسرح، الموسيقى، الهندسة، وخصوصاً السينما، كما تشهد على ذلك المقابلة المثيرة التي يقترحها المعرض الحالي بين، لوحات ورسوم ومحفورات لفنانين تعبيريين كبار، مثل أليكسي جاولينسكي وأوغست ماكي وإيريك هيكيل وأوتو ديكس وإميل نولدي، ومن جهة أخرى، مقتطفات من 12 فيلماً شهيراً، مثل “متروبوليس” لفريتز لانغ، “الرجل الأخير” و”نوسفيراتو” لفريدريش مورنو أو “عيادة الدكتور كاليغاري” لروبرت فيني. مقابلة تتيح لنا فرصة استنتاج أن الفن التشكيلي التعبيري، بخطوطه العنيفة وحفافي عناصره الظاهرة ولمسته الديناميكية، سعى إلى تصوير الجانب الخفي من الواقع، والسينما التعبيرية سارت على خطاه بتصويرها مكامن الظل من الحياة الداخلية، والكوابيس والمخاوف وصدمات مجتمع ما بعد الحرب.
مدخل المعرض يذكّرنا بأنه، في عام 1920، حين كانت جدران برلين بأكملها مزيّنة بملصقات أفلام تعبيرية تسيّر دعوة باطنية للتماثل بشخصية كاليغاري، كان يُنظر إلى الفن والحياة على أنهما متحدان في الواقع، وهو ما قاد تحديداً إلى ولادة فيلم “عيادة الدكتور غاليري” كعمل فني كلّي تعبيري. وبذلك، تمكّنت السينما آنذاك من إنجاز ما بدأه الرسامون التعبيريون قبل خمسة عشر عاماً. بل سمحت السينما للتعبيرية بتجاوز إطار الرسم، عبر منحه إمكانات جديدة للتعبير، على شاشة أكبر بكثير من أي لوحة.
ولأنّ من الممكن استخلاص أوجه تشابه مدهشة بين الفن التشكيلي والفن السينمائي آنذاك، على مستوى خيار الموضوعات المعالجة، تستكشف الأقسام الثلاثة للمعرض هذه الموضوعات المستوحاة بشكل رئيس من الاضطرابات الاجتماعية الكبرى والثورات التي خضع الفرد لها في ألمانيا. هكذا نعرف في القسم الأول أن العقد الأول من القرن العشرين طبعه شعور عام بضرورة الحراك والسعي خلف الجديد. حراك اتّخذ لدى كثيرين من الألمان شكل زحفٍ إلى المدن، لمغادرة حياة شاقة في الأرياف، وأيضاً لأنّ المدن، وخصوصاً برلين، كانت تعد بحياة عصرية ومترفة، بإغراءاتها المختلفة. لكن عدداً كبيراً منهم سيفترسه “وحش” المدينة، فيستيقظ يوماً ليجد نفسه على هامش مجتمعه.
وبخلاف سكان الأرياف الذين شكّلت المدينة المكان المثالي لتلبية رغباتهم، نظر سكان المدن إلى الطبيعة كفردوس مفقود، الأمر الذي دفعهم إلى ضفاف الشواطئ والبحيرات، وإلى المناطق الريفية النائية، بحثاً عن بساطة فقدوها في صخب المدينة وشِراكها. ولا يلبث الوهم نفسه أن يدفعهم إلى الانخراط في الحرب على أمل نظام اجتماعي أفضل. وبذلك، كانوا يختبرون في الواقع أول تمزّق عميق من بين التمزّقات التي ستأتي بها الألفية الجديدة.
في القسم نفسه، نرى أنه، مع “نوسفيراتو مصاص الدماء”، وضع مديره الفني، الرسام ألبين غرو، ومخرجه مورنو، الأسس الرئيسة لأفلام الرعب. فحتى يومنا هذا، ما زالت السمات المميّزة لشخصيته الرئيسة ــ أنيابها البارزة، أذناها المدببتان مثل أذني خفّاش، أصابعها التي تنتهي بمخالب ــ تحدّد تصوّرنا لشخصيات مصاصي الدماء. كذلك الأمر بالنسبة إلى بناء التشويق عن طريق اللقطات الطويلة، المخصصة لإسقاط ظلال تعبيرية مقلِقة، الذي ما زال معتمَداً اليوم في الإخراج السينمائي. نرى أيضاً في هذا القسم كيف ابتكر فريتز لانغ، في “متروبوليس”، ديستوبيا سينماتوغرافية مدينية لا سابق لها حول المجتمع الطبقي والإنسان ــ الآلة، تماماً كما في الأعمال التشكيلية التعبيرية التي صوّر أصحابها فيها طوابير من العمّال أو حشوداً من الموظفين الذين يتعيّن عليهم الحضور إلى عملهم في تمام الساعة الثامنة صباحاً.
صدمة الحرب
القسم الثاني من المعرض يكشف كيف أن التجربة الصادمة للحرب العالمية الأولى، والاكتشافات الطبية الحديثة، خصوصاً في مجال التحليل النفسي، ومشاعر العجز أمام التغييرات الاجتماعية السريعة، جعلت من الجنون والتمزق الداخلي للفرد موضوع الحركة التعبيرية المركزي. فسواء في البورتريهات أو المشاهد المدينية المرسومة، نستشعر تقهقر الأنا وتحلّلها، تماماً كما في الأفلام التي تستكشف أكثر فأكثر أغوار النفس البشرية. وحتى لو أن الفرد يبقى متمسّكاً بحلم الحياة المتناغمة مع الطبيعة، فإن التنافرات داخل المجتمع تصبح أكثر وضوحاً، ويبدو العالم خارج نطاق السيطرة، مهدداً بالانهيار.
هذا ما يتجلى خصوصاً في فيلم “من الفجر إلى منتصف الليل” (1920)، الذي استوحاه كارلهاينز مارتين من مسرحية جورج كايزر التعبيرية التي تحمل العنوان نفسه، وألهم بدوره ثمانية رسوم طباعية أنجزها برنارد كريتشمار في العام نفسه. وسواء في المسرحية، أو في الفيلم، أو في الرسوم، تبيّن المشاهد بوضوح عجز بطل هذه القصة، وهو موظف بنك، عن العودة إلى حياته القديمة وعن التأقلم في الحياة الجديدة التي لطالما حلم بها. وفي ميدانه، يشكّل فيلم كارلهاينز ثورة بفضل الرسم المنمّق والمشوّه للديكور الذي أنجزه روبرت نيباش، والخطوط المزوّاة (أو المقرّنة) التي تحضر بها وجوه الممثلين، وتعكس نفوسهم العليلة، المضطربة.
نشاهد أيضاً في هذا القسم مقتطفات من فيلم “أعصاب” (1919) الذي يصف المخرج روبرت راينرت فيه الفترة الصعبة التي تلت الحرب العالمية الأولى من خلال أقدار ثلاث شخصيات من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين: صاحب مصنع يمثّل الرأسمالية، وعاملَين يطالب واحد منهما بإصلاحات، ويدعو الآخر إلى ثورة مسلحة. فيلم تُمكن قراءته كصورة لألمانيا التي كانت آنذاك ممزّقة سياسياً واجتماعياً، تعاني من نتائج الحرب، ويعبّر مخرجه فيه عن عدم الاستقرار والحالة الذهنية للمجتمع من خلال هندسة المدينة، بجدرانها المنحدرة وخطوطها العنيفة وتصاميمها المشوَّهة، وهي العناصر الجمالية نفسها التي نجدها في أعمال معاصريه التشكيلية.
وفي القسم الأخير من المعرض، نرى كيف عثر رسامو الحركة التعبيرية، من خلال رفضهم التمثيل الأمين للواقع، على حرية فنية سمحت لهم بإسقاط داخل فضاء لوحاتهم الأحداث القامعة والمعتمة لزمنهم، وأحلامهم وإخفاقاتهم. وفي هذا السياق، طوّروا لغة شكلية تتيح مقاربة ديستوبيات عصرهم سيكولوجياً بمفردات تتراوح بين تناقضات شديدة بين النور والعتمة، وخطوط فارّة، وأبعاد مترنّحة، وأُطُر وحافات قاطعة، وملامح غير متناسقة، وحركات مبالغ بها، واختزال للأشكال بلغ أحياناً حد التجريد. مفردات ما لبثت أن وجدت طريقها إلى السينما على يد بعض الرسامين الذين نشطوا أيضاً كمصمّمي ديكور أفلام، وحظيت بتحسين وتطوير بفضل الابتكارات التقنية السينماتوغرافية، كما يظهر ذلك في فيلم فريتز لانغ “دكتور مابوزي” الذي يخط بورتريه مجتمع يتّسم بهشاشة سياسية واجتماعية، ويمكن لشرير (مثل مابوزي) أن يتلاعب به بسهولة، مما يفسّر عنوانه الفرعي (der spieler) الذي يحمل معنى اللاعب، الممثّل، المقامر، ولكن أيضاً محرّك الدمى.