تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » صوت الحنين والكاذي وهزات الشجون

صوت الحنين والكاذي وهزات الشجون

صوت الحنين والكاذي وهزات الشجون

 

مصطفى راجح
الفن ليس شيئا خارجيا منفصلا عن روح عبدالباسط عبسي. فنّه ممتزج بروحه. لا يُغنّي بصوته فقط؛ تحسه يغنِّي بصوته وعيونه، قلبه وعقله، روحه وجسده. يغنِّي من كل خلية فيه. يُغنِّي من أوردته وشرايينه ونخاع عظامه.
إحساس مُكثف يضغط كل ما فيه، ويختزله في نغمة صوته وأوتاره.
تراه عندما يغنِّي أمام الكاميرا يكاد أن يغمض عينيه، وكأن شمس ما في أعماقه تضيء في وجهه كلما لامس إحساسه الداخلي؛ شمس الروح تضيء فيغمض عينيه كأن أشعتها أجهرته، وفصلت بينه وبين كل ما هو خارجه.
واقمري غرد
ما عليك من هَمْ
خِلك معك
وأنتَّ بِقُرْبُهْ تنعم
مش مثلي اتجرع كؤوس علقم
سقيم بحالي بس ربي أعلم
– شغف البدايات
في أحد أيام حزيران/ يونيو قبل أكثر من نصف قرن، وتحديدا عام 1971، ووسط ظهيرة كابية شديدة الحرارة، كان فنان أعمى يطلق عليه «البصير» يلطف حرارة الجو بعزف العود في حارة السور بين باب مُشرف والبحر في مدينة الحديدة.
يُطرِب المتجمعين حوله، وينال تعاطفهم، وما تيسر من دعمهم.
بين هؤلاء كان طالب في الصف الأول الإعدادي يقف على أعصابه، وفي عينيه دهشة المعجب بالعازف الساحر الذي لا يرى شيئا، ولكنه يمسك بأوتار القلوب المتجمعة من حوله.

شغف الحياة بكلها كان في وجه عبدالباسط عبسي، الطالب الذي لم يتجاوز الثانية عشرة حين أمتلأ وجدانه بشغف العود: آلة خشبية بإمكانها أن تقول ما لا يستطيع قوله البشر المتجمعون حول عازفها، يدغدغ أحاسيسهم، ويمكنهم من اقتطاع لحظات عابرة من توهج الروح على قارعة عود لامع يلقي بالتعب اليومي إلى الهامش، ويقف مكانه ملونا الشارع بنغماته الزاهية، ولو للحظات عابرة.

ذهب الآخرون كلهم يواصلون طريقهم، لكن عيني الطالب العابر كانتا عالقتين في العود وعازفه الغريب.
عادت القلوب المتجمعة إلى طريق انشغالاتها اليومية المعتادة، لكن قلب عبدالباسط عبسي كان قد خُصِب بنغمات العود، ووقع في محبة الفن، الشغف الذي سيرافقه إلى الأبد.

مصادفة فنان الشارع العابر رسخت لدى الطفل الموهوب اختياره الأهم في حياته: طريق الفن والغناء.
كانت موهبة عبدالباسط قد بدأت في سنوات طفولته الأولى في القرية، سمع أغاني داعبت خياله، وحاول تقليدها بالعزف على «التنك»، واللعب بصناعة أوتار طفولية، لكن العود في الحديدة كان لحظة انتقاله الأهم للدخول في مجاهيل الغناء وأسراره، التي لا تعطي قيادها لأي عابر فوق أوتارها.

اقتاد الطالب عبدالباسط عبسي فنان الشارع البصير إلى بيته. وهناك استدعى والدته، وأطلق شرطه الوحيد والأهم للحياة: اشتري لي هذا العود وإلا “شارجُمْ بنفسي البحر”.
طلب الفنان البصير مهلة أسبوع، وبعد انقضائها جاء بالعود، وباعت والدة عبدالباسط الأقراط القُطب لتوفر ثمنهُ.
أتذكرها جيداً، قال لي عبدالباسط إنه أستمات قائلاً لوالدتهُ: “يا امًا العود أو شرجم بنفسي البحر”.
هذا المقطع ورد فيما بعد في أغنية: “يا خاضبان وردك جمالُه ثاني”، من كلمات الشاعر سلطان الصريمي.

ربما هي مصادفة، وربما وجدان الفنان عبدالباسط أرسل موجته إلى وجدان الصريمي، ليكون ذلك تعبيراً مزدوجاً عن الفنان في بدايته، وعن المُحب الذي يُخاطب حبيبته في قصيدة الصريمي.
– “شعراء متعددون وفنان واحد”
أول أغنية للفنان عبدالباسط عبسي “واقمري غرد ما عليك من هَمْ” كانت من كلمات الشاعر محمد عبدالباري الفُتيح؛ كانت هذه واحدة من أربع قصائد غناها عبدالباسط في بداياته للشاعر محمد الفتبح [واقمري غرد، الليل واليلبوه، ليلة من ألف ليلة، يا طير يا اللي”.

هناك ما هو أهم من علاقة فنان وشاعر بين عبدالباسط عبسي ومحمد الفتيح. محمد الفتيح كان بمقام “مُعلِم” للفنان عبدالباسط عبسي.
كان الفنان حينها في صف أول إعدادي العام 1971 في الحديدة، وحين حاول أداء أول أغنية في حياته “واقمري غرد” لاحظ الفتيح أنه لا يُجيد قراءتها.
استيقظ إحساس المعلم عند محمد عبدالباري الفتيح، وعاد في اللقاء التالي ومعه مجموعة كتب أعطاها للفنان الشاب عبدالباسط عبسي، بينها كتاب ابن المقفع، وكتاب الموسيقى للفارابي؛ وبدأ الشاعر يُعلِم الفنان قراءة النصوص، وإجادة اللغة، حتى إن ذلك استغرق منه شهرين أو ثلاثة.
لعب الشاعر محمد الفتيح دورا كبيرا في حياة الفنان عبدالباسط عبسي الفنية والثقافية.
وقد أخبرني بنفسه أن النصوص التي كانت تأتيه من شعراء آخرين كان الشاعر الفتيح يشرف عليها، ويعدّل فيها، فيما عدا ما يأتيه من نصوص سلطان الصريمي والفضول.
بعد الشاعر الفتيح، بدأت ثنائية الفنان عبدالباسط عبسي مع الشاعر سلطان الصريمي، الذي غنى له ما يزيد عن 22 أغنية، بينها أجمل أغانيه: بدايتها كانت أغنية “يا ورود نيسان 72-73″؛ كان اللحن جاهزاً، وسمعه الشاعر محمد الفتيح من الفنان عبدالباسط، وذهب وأتى بالنص من الصريمي.
هذه ليست استثناء، هناك أغانٍ أخرى كان يلحنها عبدالباسط بانتظار كلمات تناسبها؛ وأشهرها أغنية “حُسنك لعب بالعقول”، التي غناها أولاً بكلمات رآها ضعيفة، وعندما التقى بالفضول وبدأ تعاونه معه؛ نظم الفضول كلمات الأغنية بشكلها الحالي، وكانت فاتحة شراكته مع عبدالله عبدالوهاب نعمان؛ الشاعر الغنائي الأهم والأشهر في اليمن.
ربما يكون عبدالباسط عبسي أكثر فنان تعرض للتمييز والحرمان من المشاركات الداخلية والخارجية، التي تنظمها المؤسسات الرسمية؛ مثل وزارتي الإعلام والثقافة، إذ لم تتجاوز مشاركاته الخارجية عدد أصابع اليد الواحدة.
صُنف عبدالباسط فناناً يسارياً، يُغني للمظلومين والمحرومين والمهمشين والمقصيين من الفضاء العام في مجتمع تقليدي وسلطة ترتكس في بعض وجوهها لتشبهه.
غنى عبدالباسط للمرأة، ورفع صوته باسمها “يا أمه أبي باعني، يا امه لدنيا العذاب… إلى الجحيم البيس، البيس التي تبيع النفوس”.
لم يلمس فنان يمني الزوايا المقصية مثلما فعل عبدالباسط عبسي.

واحدة من بدايات تعاونه مع الشاعر سلطان الصريمي كانت أغنية “مسعود هجر”، في منتصف السبعينات تقريباً. وضعت دائرة حمراء حول هذه الأغنية في الإذاعات الرسمية المملوكة للشعب لما يقارب العقدين بمبرر أنها تحرّض على عودة المغتربين!
ولم يبدأ بثها في الإذاعات الرسمية إلا في وقت متأخر بعد الوحدة، ونادراً، مع أنها أول أغنية يمنية وظفت فن “المُلالاة” في بداية لحنها المتميز الذي أبدع فيها عبدالباسط العبسي، ووصل عبره إلى الناس في أرياف اليمن ومدنها، وفي مواطن اغتراب اليمني خارج اليمن.

ثنائية عبدالباسط مع الصريمي أبدعت كثيرا من الأغاني؛ منها: اذكرك والسحائب، (الزفة) “لفرحتك يا حبيب كل الورود، ولك يغني ويرقص الوجود”، لو لاح بارق، متى واراعيه شامطُر وما مطرة تجي من غير رعود، وحنين الأرض يا سلمى.
عبدالرب مقبل المقطري شاعر يكاد أن يكون مجهولاً، غير أن عبدالباسط غنى له مجموعة من أجمل أغانيه؛ منها: مظلوم معك، والأغنية التي كانت من بداياته الشهيرة “كم فؤادي في هواكم معذب”، والأغنية التي شكلت نمطاً ملحمياً رفيعاً في الفن اليمني: سَخِيتْ.

ولهذا الشاعر غنى عبدالباسط أغنيته الشهيرة “يا امه أبي باعني، يا أمه لدنيا العذاب”، التي تجسد معاناة المرأة اليمنية والقهر الذي تعانيه النساء من الزواج الإجباري الظالم؛ لكن إدارة المصنفات الفنية كان لها رأي آخر إذ تم حجز هذه الأغنية عاما كاملا بمبرر أنها “زِحاف”، أي أن فيها خللا في الوزن!
وهو قول يبدو أنه كان يقصد أنها أخلت بوزن “التقاليد المجحفة”، لا ما ادّعاه من أوزان شعرية، يحدث أن توجد في القصائد المغناة لأسباب يراها الشاعر أو الفنان مهمة لإيصال المعنى المكنون في القصيدة المُغناة. ولم يتم الإفراج عن هذه الأغنية إلا بعد تدخل الفنان صفوت العشم، الذي لم يكتفِ بإجازتها بل اعتبرها من أجمل الأغاني اليمنية.

أول تواصل مع الفضول كان في عام 1975. اتصل به إلى الحديدة، واستقبله لاحقاً في تعز بحضور الشيخ محمد علي عثمان، وسكن في جوار منزل الفضول. وغنى له مجموعة من أجمل نصوص الفضول الغنائية: حسنك لعب بالعقول، يا حب يا أرضي ويا سمائي، وداعة الله”، أداها أيضاً أيوب طارش “يا حب يا ضوء القلوب / غناها أيضاً أيوب والحارثي، مباسم الضو، في مبسم الفجر، طعمُه قُبَلْ، وهاتوا لقلبي ، بردان “.
– متلازمة الحُزن والحُب

الإنسان المجروح بحاجة لمن يحس به، يبحث عن أغنية تمكنه من استقصاء حالته، وتبديد غِلالة الحزن التي عَلِقت بذاته، أغنيةً تعطيه القدرة على تحويل الحُزن الكظيم إلى حالة شجن خلاقة تضيء الروح؛ حالة تتخذ من النائبة الحزينة وقوداً للإشراق.
يحتاج الإنسان إلى المواساة. يرى سيوران أن هذه الحاجة من أكثر حالاته غموضاً واستعصاءً على التفسير؛ وأن من غير الممكن تعريفها نظريًا.
نحن بشر؛ لا نستطيع أن نفكر في أي شيء دون أن نتنهد. عالم الأفكار وهم مقارنة بعالم التنهيدات.
في رأي سيوران، لا يوجد فيلسوف يواسي، فلا أحد من هؤلاء مقدر له أن يفهم رجلاً أو امرأة في حالة معاناة خاصة.
هذه هي وظيفة الفن؛ تقديم العزاء الذي يُمكِن المحزون والمفارق من تطهير انفعالاته، والتحرر من الخسارات والفقدان بالتماهي مع نغم جميل، أغنية حركت أشجانه.
الغناء يفوق بقية أنواع الفن في قدرته على الوصول إلى أعماق الإنسان، ومنحه أجنحة لتجاوز الحزن والألم، أو لإطلاق طاقة الفرح والابتهاج.

صوت عبدالباسط عبسي فيه شفاء للأرواح الجريحة، المظلومين، نساء القرى، حيث العمر يمضي في الحنين لطيف مغترب في البعيد.
ثنائية الحُزن والحُب متلازمة عند عبدالباسط، وهي واحدة من أهم ملامح فنه وأغانيه.
يقال إن أعماق قلب الإنسان يتم نحتها من الأوجاع التي ينجو منها.
لا خلاص يأتي المرء بتجاهل الألم والإعراض عنه. الشفاء يقع هناك، في تطهير الأعماق الجريحة بالفن والتماهي بنغماته.
ينطرب جمهور عبدالباسط عبسي بهذا النوع من الأغاني التي تميَّز بها؛ لأنها تداوي آلامهم، وتصل إلى الأعماق التي التقوا بها بأنفسهم.

الحُب ينبع من هناك، من الأعماق التي تعاني الفقدان والحنين. الحُب الحقيقي يأتي من ذلك المركز في أعماق المرء، حيث حقيقته وتجربته بكل ما فيها، وما تضمنته من ألم وفرح. بمقدار الألم والفقدان والحنين، يتدفق الحب والفرح والاحتفاء بالحياة. وهناك تحديداً، تصل نغمات عبدالباسط عبسي. كأن أغانيه تقول لسامعها: أنت لا تحتاج إلى أدوية وعقاقير كيميائية، بل تحتاج للفن ونغماته الشافية.

لم يكن عبدالباسط أسيرا للانفعالات؛ لقد حولها إلى شكل فني؛ حولها إلى أغانٍ. لقد أدرك الطريقة المثلى لتحويل مواجع الناس وحنين المفارقين، وأسى الخسارات في النفوس روضها بصوته العذب، بأوتار العود ونغماته، وحولها إلى أغانٍ تُطهر الحزن وتشفي الموجوع وتهدئ من روع المفارق، الذي يكتشف أن الفراق والحنين للطيف الساكن في الخيال جزء من غبطة الحياة ومعنى الحُب.
يرى آرنست فيشر أن الأشواق التي تحرق الفنان السطحى تخدم الفنان الحقيقي: فهو لا يقع فريسة للوحش بل ينجح في ترويضه.

ومن صفات الفن في رأي فيشر أنه يحمل في أعماقه التوتر والتناقض… فهو لا يصدر فقط عن معاناة قوية للواقع، بل لا بُد له أيضا من عملية تركيب، لا بُد له من اكتساب شکل موضوعي. وما يبدو من حرية الفنان وسهولة أدائه إنما هو نتيجة لتحكمه في مادته.
قال أرسطو، الذي كثيرا ما أسيء استخدام كلماته، إن وظيفة الدراما هي تطهير الانفعالات، والتغلب على الخوف والشفقة، بحيث يتمكن المتفرج في المسرح، أو المستمع للأغنية، من أن يتسامى فوق صروف القدر العمياء، وبذلك يُلقي عن كاهله مؤقتا قيود الحياة وأعباءها.

يفسر أرسطو هذا التعلق بقوله: إن أسر الفن مختلف عن أسر الواقع، وهذا الأسر المؤقت الرقيق هو مصدر “المتعة، هو مصدر الغبطة التي نشعر بها حتى ونحن نشهد عملاً مأساوياً”.
– خاتمة
الفن شغف الحب الذي لا ينطفئ؛ شغف يحفر في الذات لاكتشاف نبع القوة في أعماقها.
والفن عند عبدالباسط عبسي هو لمسة حُب حانية تشفي الروح الجريحة. هو تنهيدة المظلوم، عتب المُحب، ورود نيسان، صوت الروح العزلاء، ونداء الريفيات للطيف البعيد في الغربة.
فن عبدالباسط عبسي هو الريح حينما تهب؛ صفاء الوديان بعد مطر غزير؛ حنين المفارق حين يُذكر حبيبُهْ؛ النهار بعد الليل الطويل؛ قات المثاني على ماء الجبل؛ شوق المُحب لدفء الحُب في برد كانون القارس؛
غصون البان تتمنى خدودك؛
صوت البُن والكاذي وهزات الشجون؛ وضوء الشمس يهب الحياة لكل ما يلامسه.
أغاني عبدالباسط عبسي لمسة محبة تهمس في كل قلب ينصت لها:
في مبسّم ِالفَجر مَبُلولَ النُسّيماتِ
سكبت ضوئي.. وعطري..
وابتسّاماتي
ونبضّ قلبي.. وأشواقي..
وضّمــّاتي..
يعانقنَــكْ.. ويُهَدّنّكْ سَلامَاتي.

نقلا عن موقع قناة “بلقيس”