تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » استعادة الرسام فرنان ليجي رائد الواقعية الجديدة

استعادة الرسام فرنان ليجي رائد الواقعية الجديدة

استعادة الرسام فرنان ليجي رائد الواقعية الجديدة

 

معظمنا يعرف أن الواقعية الجديدة مجموعة فنية تأسست في باريس عام 1960 حول الناقد بيار ريستاني، وتضمنت وجوهاً كبرى مثل نيكي دو سان فال، أرمان، إيف كلين، ريمون هانس، مارسيل رايس وسيزار. وبعضنا يعرف أيضاً أن ثمة فنانين ظهروا في الوقت نفسه تقريباً في أميركا وتبنّوا الجمالية ذاتها، والمشاغل ذاتها، مثل روي ليشتنشتاين وكيث هارينغ، مما يشهد على حيوية التبادلات الفنية التي كانت موجودة آنذاك بين ضفتي الأطلسي. لكن ما هي الروابط التي تجمع هؤلاء الواقعيين الجدد بالفنان الفرنسي فرنان ليجي (1881 ــ 1955) الذي لا مبالغة في اعتباره أحد رواد الطلائع الفنية في القسم الأول من القرن العشرين؟

الجواب على هذا السؤال ينتظرنا في المعرض الذي ينظّمه حالياً “متحف فرنان ليجي الوطني” في مدين بيو الفرنسية، بالتعاون مع “جمعية المتاحف والوطنية”، “متاحف الألب ماريتيم” و”متحف مدينة نيس للفن الحديث والمعاصر”. معرض ضخم تتجاور فيه مختارات واسعة من أعمال الواقعيين الجدد مع ابتكارات ليجي التشكيلية، ضمن حوار حرّ ومثير يبيّن الحداثة الرؤيوية لهذا الأخير، وتشكيله مصدر إلهام رئيس لأولئك الفنانين الذين ثوّروا الفن خلال الستينيات.

أما مسار المعرض، فيقارب بطريقة لعبية مبتكرة محاور موضوعية مختلفة: فن اختطاف الأشياء وتحويل وظيفتها، الطُرُق الجديدة في تمثيل الجسد والنشاطات الترفيهية، وأيضاً مكانة الفن داخل الفضاء العام؛ كاشفاً كيف ارتقى هؤلاء الفنانون بمواد ورموز وأدوات عادية مبتذلة إلى مرتبة التحف الفنية، وطبّقوا دعوة رامبو والسورياليين بعده إلى دمج الفن والحياة، لكن بهدف إبراز شعرية الواقع اليومي.

الواقعية الجديدة

وتجدر الإشارة بداية أن ريستاني ألقى على مجموعة الفنانين التي تكتّلت حوله تسمية “الواقعية الجديدة” تكريماً لفرنان ليجي الذي استخدم هذه العبارة منذ العشرينيات لتحديد منهجه الفني. إضافة إلى ذلك، يتشارك ليجي مع هؤلاء الفنانين تجديدهم الإبداع الفني عبر إعادة تملّكهم العالم الواقعي وإلقائهم غالباً نظرة نقدية وسياسية على مجتمع زمنهم.

هكذا نرى في القسم الأول من المعرض كيف فتح الواقعيون الجدد الطريق أمام فن في حالة تفاعل مع الطبيعة والعالم، فاستولوا على الأشياء الأكثر رمزية للمجتمع بغية إظهار الجمال المديني بكل ابتذاله. وفي الوقت نفسه، تملّكوا العناصر الأربعة التي يتكون منها الكون وأضافوا عليها اللون، متسائلين في أبحاثهم التشكيلية والرمزية عن مكانة الإنسان والطبيعة داخل عصر اجتاحته الرأسمالية. وضمن هذا النقد الفاعل للمجتمع، قارب الفنان أرمان باكراً سؤال النفايات والاستهلاك المفرط والإهلاك المبرمج، لكن ليس قبل ليجي الذي كان سبّاقاً في تسجيل التحولات الكبرى للعالم الحديث، تارةً بطريقة نقدية، وطوراً ضمن نظرة افتتان بالثورات التكنولوجية والميكانيكية، قبل أن تصبح الطبيعة كلية الحضور في عمله، كدعوة لإبطاء حمّى التقدّم. من جهته، وضمن مسعى ميتافيزيقي، قاد إيف كلين محاولات عديدة لمعاودة الاتصال بالعالم عن طريق اللون النقي (الأزرق) والطاقات البدائية. برنامج يتصادى مع يوتوبيا ليجي الذي شكّل اللون النقي بالنسبة إليه عنصراً أساسياً، حيوياً، وحتى علاجياً، يملك القدرة على تعزيز الرفاهية الاجتماعية.

حياة الأشياء

القسم الثاني من المعرض يحمل عنوان “حياة الأشياء” ويبيّن كيف أن الواقعيين الجدد ركّزوا على رمز المجتمع الحديث، الشيء (l’objet)، تماماً مثل ليجي قبل ثلاثين عاماً، الذي ابتعد على التمثيل المحاكي للشيء بغية منح الأشكال والألوان استقلاليتها. وفي هذا السياق، لم يسلّط الضوء على مصنوعات المجتمع الاستهلاكي من منطلق شحنتها الرمزية، بل قيمتها التشكيلية، فكبّرها وجمعها داخل فضاء واحد، وجزّأها إلى مسطّحات من الألوان النيّرة والعشوائية. منهج تبنّاه فنانو الـ “بوب آرت” الأميركيون، بينما انحرف الواقعيون الجدد الباريسيون بالشيء من ميدان التمثيل إلى ميدان العرض من خلال أفعال ملموسة. ومن هذا المنطلق، تملّكوا الأشياء وجمعوها ونضّدوها لكشف إمكاناتها التشكيلية.

في القسم الثالث من المعرض، الذي يحمل عنوان “الفن هو الحياة”، نستنتج أن فن الرسم، بالنسبة إلى فنان متفائل بعمق مثل ليجي، هو سيلة لتكريم الحياة، بموازاة شهادته على التحولات الاجتماعية العميقة لحقبته. ومن هذا المنطلق، تنخرط الموضوعات التي عالجها في زمنه وتعكس التحول السائر في أنماط الحياة. نستنتج أيضاً أن الواقعيين الجدد، الذين نشطوا كعلماء آثار الزمن الراهن، أمسكوا بجوهر عصرٍ كان الفن يخضع فيه إلى منافسة على يد “الأشياء الجميلة” التي تعجّ بها واجهات المتاجر ورفوفها، كما عبّر عن ذلك ليجي منذ عام 1923، فعظّموا جمالها المبتذل والشعبي في سياق تعبيرهم عن أنماط الحياة الجديدة.

من جهة أخرى، شكّلت الأنشطة الترفيهية والروح الاحتفالية للعروض الفنية (رقص، موسيقى، سيرك..)، والموضوعات الرياضية، مناسبة كي يحتفي ليجي بحيوية العالم الحديث، ومرونة أجساد الرياضيين والبهلوانيين، وميل الطبقات الشعبية إلى المرح واللهو، غالباً في أحضان الطبيعة أو على مسافة قريبة منها. وبغية مخاطبة الجميع، عالج هذه الموضوعات الجديدة، المشحونة ببهجة الحياة، في لوحات بقياسات ضخمة. وفي الستينيات، أشاد بعض فناني الواقعية الجديدة أيضاً بمجتمع الترفيه وتحرّر الأجساد، كما هو الحال في سلسلة “نساء” لنيكي دو سان فال. وبإمساكهم بشعرية الواقع اليومي داخل منتجات الحضارة الصناعية، أو تشجيعهم مشاركة الجمهور في أداءاتهم، ألغوا الحدود بين الفن الحياة، مدمّرين بذلك رموز العالم القديم لتشييد عالم جديد وضعوه تحت شعار الحرية.

في القسم الرابع من المعرض، نشاهد مختارات من اللوحات التجريدية الضخمة التي أنجزها ليجي انطلاقاً من الثلاثينيات كي تأخذ مكانها في الفضاء المديني العام، من منطلق قناعته بسلطة الألوان العلاجية. أعمال تتجاوب مع الشخصيات النسائية الضخمة والمستديرة التي حققتها نيكي دو سان فال بألوان نيّرة انطلاقاً من عام 1967 ضمن رغبة في تبديد بعض من كآبة التخطيط المديني الحديث، وإضفاء لمسة نسائية عليه. وسواء في لوحات ليجي أو في منحوتات دو سان فال، ثمة يوتوبيا فنية وسياسية تقوم على مثال الفن للجميع، ولا يلبث رسامو فن الشارع في الثمانينيات أن يتبنونها، فيحوّلوا جدران نيويورك إلى لوحات تعبيرية حيّة. وفي هذا السياق، وجّه كيث هارينغ تحية مبطّنة لفرنان ليجي بتأكيده أن “الفن ليس نشاطاً نخبوياً مخصصاً لإمتاع عدد محدود من الهواة، بل إنه يتوجّه إلى الجميع”.

وتختم المعرض مقابلة معبّرة بين اللوحات التجريدية التي رسمها ليجي بين عامي 1924 و1926 كجداريات زخرفية تمنح وهم الحركة، والتوليفات التي أنجزها ألبير شوباك في الستينيات من خشب ومعدن وكرتون وحبال، وراهن فيها على سطوة ذلك المزيج الديناميكي من الأشكال البسيطة والألوان الباهية. مقابلة تعكس شغفاً مشتركاً لديهما بالأشكال الهندسية والمسطحات اللونية الصافية، وتفضي إلى حوار مثير بين التلاعبات البصرية في لوحات ليجي والنتوءات الخشبية القابلة لتعديلات لا نهاية لها في توليفات شوباك.