كتب /محمد المخلافي
تُعَدُّ تجربة الفنان اليمني الشاب حسين محب إنجازًا فنيًّا رائعًا ومتميزًا. فقد نجح هذا الفنان في تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، وأحيا وعزز التراث الغنائي اليمني الأصيل ليس داخل وطنه فحسب، بل أيضًا في عدة دول حول العالم. وهذا الإنجاز ينم عن قدرة الفنان على الانفتاح على الثقافات الأخرى، وتوظيف إرث بلاده الفني والثقافي لإبراز هويته الوطنية على الساحة العالمية.
دعونا نحلق على مسيرة حسين محب منذ بدايتها في قرية العرشي، التابعة لمديرية همدان في محافظة صنعاء شمال اليمن حيث ولد هناك في عام 1985 في أسرة فنية متميزة بتنوع أصواتها ومواهبها. منذ الصغر، بدأ مشواره الفني برفقة العود، حيث كان يقضي ساعات طويلة في غرفته، يتأمل ويغني على إيقاعات وألحان الفنان الراحل محمد حمود الحارثي، كان يحفظ كلماته وألحانه بشكل كامل ويغنيها وكأنه هو ذاته، بحيث لا يمكن التفرقة بينهما.
يُمَثِّل مسار الفنان حسين محب نموذجًا متميزًا للفنان المبدع القادر على تحقيق تداخل عميق بين الأصالة والمعاصرة. فرغم ارتباط اسمه بإحياء التراث الغنائي للفنان الحارثي، لم يقتصر دوره على مجرد المحاكاة والتقليد.
هكذا استمر على نفس الوتيرة حتى حالفه الحظ عندما زار الأستاذ عبد الله العابد، مدير مكتب الثقافة بمحافظة صنعاء، والد حسين، رحمه الله، في منزلهم، ليستفسر منه عن الرقصات الشعبية والملابس التراثية بهدف المشاركة في فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية لعام 2004 نيابة عن محافظة صنعاء. بالصدفة، كان حسين محب حينها يغني في عرس أحد جيرانه بأغاني الحارثي. استغرب الأستاذ عبد الله وقال: “كيف هذا العرس؟ يشغلون أشرطة للحارثي، لماذا لم يحضروا فنان؟” أجابه الفنان محب: “هذا ابني حسين”. فاستغرب الأستاذ عبد الله وقال: “لا يوجد فرق بين صوته وصوت الحارثي، كأنهما صوت واحد. كيف يوجد هذا الفنان الموهوب ونحن نستأجر فنانين من خارج المحافظة لتمثيلنا في الفعاليات؟ إذن، نريد حسين يشارك معنا.” لكن الفنان محب رفض وقال: “ما زال الولد حسين في بداية مشواره الفني، لا أعتقد أنه جاهز لمثل هذه الفعاليات.” حاول الأستاذ عبد الله إقناعه، وفي النهاية وافق بشرط أن يذهبوا إلى منزل الأستاذ محمد حمود الحارثي، وأن يغني حسين أمامه. إذا وافق الحارثي على مشاركته، سيشارك؛ وإذا رفض، فسوف اعتذر.
بعد ذلك، اتجهوا إلى منزل الحارثي، وهناك غنى حسين محب ثلاث أغان. انبهر الحارثي من صوت حسين محب، ورد عليهم بأغنية قال فيها: “أه وشل ما شليت وحط ما حطيت، قد أنت وسط البيت، يا فائق الغزلان.”
بعد ذلك، انطلقوا مباشرة إلى مبنى المركز الثقافي اليمني للمشاركة في فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية. لم يصدق حسين أنه سيشارك ويظهر على شاشة التلفزيون لأول مرة، حينها كان يبلغ من العمر 16 عامًا. هناك، على خشبة المسرح الثقافي اليمني، قدم حسين محب أجمل الأغاني التراثية اليمنية، التي نالت إعجاب الجميع.
في اليوم التالي، اتصل به الأستاذ خالد الرويشان، وزير الثقافة السابق، وهنأه وأثنى على أدائه المبهر بكلمات محفزة وملهمة، التي كان لها أثر كبير في انطلاقته نحو الشهرة. من هنا بدأت قصة حسين محب تأخذ منحى جديدًا، حيث اجتمعت فيها الموهبة والصدفة والدعم، وأصبح اسمه حديث الناس في أحياء الأعراس بفضل صوته الجميل وأدائه المميز.
لقد اكتسب دور الفنان حسين محب بُعدًا فلسفيًا عميقًا في هذا السياق. فهو لم يقتصر على مجرد إعادة إنتاج التراث الغنائي اليمني، بل أسهم في إعادة صياغته وتطويره بما يتناسب مع متطلبات العصر ووجهة نظر الجيل الحالي. وبذلك برهن على أن الفنون الأصيلة ليست مجرد ركام من الماضي، بل كائنات حية قابلة للتطور والتجديد طالما توافرت الرؤية والقدرة الإبداعية.
وهذا البُعد الفلسفي في تجربة حسين محب لا يقتصر على إحياء التراث الفني فحسب، بل يتعداه إلى قضايا الهوية الثقافية والانتماء الوطني. فقد نجح هذا الفنان الشاب في توظيف موهبته الفنية لتعزيز روابط أبناء وطنه مع جذورهم الثقافية، وكسر حواجز الانغلاق والتقوقع التي قد تهدد استمرارية هذا التراث. ويمثل محب ذالك جسرا يربط بين الماضي والحاضر، وقدوة للفنان المواطن الذي يضع نفسه في خدمة هويته الوطنية.
تقديرًا وتكريمًا لجهوده في نشر وإحياء الفن الغنائي اليمني خارج اليمن، تم تعيين حسين محب مديرًا للمركز الثقافي اليمني في القاهرة بقرار جمهوري عام 2021.
تشكّل تجربة حسين محب إضافة نوعية إلى المشهد الفني العربي والدولي. فقد تمكّن هذا الفنان الشاب من إيصال صوت الفن اليمني إلى عدّة دول حول العالم، مؤكّدًا على تنوّع وغنى المشهد الفني الإبداعي في اليمن. وبذلك أصبح سفيرًا للفن اليمني في المحافل الدولية، مما يسهم في تعزيز التواصل الثقافي والتبادل الحضاري بين اليمن والعالم.