تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » لماذا يخاصم الجمهور الفن التشكيلي؟

لماذا يخاصم الجمهور الفن التشكيلي؟

لماذا يخاصم الجمهور الفن التشكيلي؟

 

رغم رسمه آلاف اللوحات الفنية، لم يستطع الفنان الشهير فان جوخ أن يبيع في حياته إلا لوحة واحدة من أعماله، فقد استغرقت الإنسانية العديد من السنوات لتقدير قيمة فنّه، لتصبح لوحاته حينها من أغلى ما يتم بيعه في العالم، وذلك ما يدل على أن الفن الغربي لم يصل إلى مستواه الراهن وانتشاره بين الجمهور إلا بعد الكثير من العمل والصبر والاستمرارية، وهو ما يجعلنا نطرح سؤال غياب الجمهور عن معارض الفن التشكيلي في الوطن العربي، وكيفية جذبه.

لم يكن جوخ بِدْعاً في حالته، بل كان ذلك ما حدث للعديد من عظماء الفن التشكيلي في العالم، وتُعرض لوحات بعضهم الآن في المتاحف، ولا يُسمح ببيعها؛ لأنها لا تقدرّ بثمن، وتعتبر لوحة «الموناليزا» للفنان الإيطالي الشهير ليورناردو دافنشي (‏1452 – 1519م)، الموجودة في متحف اللوفر ولا يسمح ببيعها، أغلى لوحة في العالم، حيث تقدر موسوعة غينيس للأرقام القياسية قيمة تأمينها كأعلى قيمة للوحة فنية على الإطلاق، والتي بلغت في 14 ديسمبر 1962م، 100 مليون دولار أمريكي، وقدرت سنة 2006م بنحو 670 مليون دولار، وبيعت لوحة مخلص العالم: «سالفاتور مندي» لذات الفنان سنة 2017، بوصفها أغلى لوحة مشتراة، وذلك بمبلغ 450.3 مليون دولار، فيما بيعت لوحة «بورتريه أوف آن أرتيست» للرسام الإنجليزي الشهير ديفيد هوكني، ب90 مليون دولار، كأغلى لوحة لفنان على قيد الحياة، وهي عبارة عن رسم لحمّام سباحة وشخصين، أما في العالم العربي فتعتبر لوحة الدراويش المولوية للفنان المصري محمود سعيد (1897 – 1964م) هي الأغلى، بعد أن بيعت بنحو 3 ملايين دولار أمريكي في مزاد كريستيز، الذي أقيم في دبي يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2010.

وقد استطاعت بعض مدن العالم أن تجذب الجمهور إلى فعالياتها الفنية، لما تشتهر به من معارض لفنانين مبدعين، من مختلف الحقب الزمنية، كمدينة باريس المعروفة بمتحف «اللوفر»، والذي يشتهر بوصفه المعرض الفني الأكثر زيارةً في العالم، إذ يقبل عليه الزوار من كل بقاع الدنيا، كمكان لروائع الفن العالمي، وكموطن لعدد من الفنانين الدوليين المقيمين، والذين يعرضون إبداعاتهم المعاصرة على مدار العام، إضافة إلى بعض الفعاليات الموسمية المحددة التواريخ، ومدينة نيويورك التي يعتبر متحف الفن الحديث فيها، واحداً من أهم الأمكنة المخصصة لمعارض الفن التشكيلي في العالم، حيث يمزج بين عرض اللوحات الرائعة والشهيرة لعدد من أكبر الفنانين عبر التاريخ، وغيرها من لوحات مشاهير الفن المعاصرين، ما جعله وجهة فنية عالمية أيضاً، والعاصمة البريطانية لندن التي لا يوجد بها العديد من المعارض الفنية الشهيرة، بما فيها معارض طلاب وخريجي مدارس الفنون الرائدة في البلاد، إضافة إلى مدن أخرى مثل: فلورنسا، وبرلين، بينما بدأت تبرز بعض المدن العربية كوجهة فنية في المنطقة، وحاضنة للأعمال الإبداعية والمبدعين العرب، مثل أبوظبي ودبي والشارقة والرياض والدوحة.

فكيف يمكن جذب الجمهور إلى المعارض والفعاليات التي يقدم فيها الفنانون التشكيليون في العالم العربي أعمالهم؟ وكيف يمكن ترسيخ الثقافة الفنية لدى هذا الجمهور؟ ذلك ما استطلعنا حوله آراء بعض الفنانين التشكيليين الإماراتيين.

أدوار

يرى الفنان د. محمد يوسف أن حضور الجمهور يعتمد أحياناً على اسم الفنان أكثر من أي شيء آخر، وأن مواقع العرض قد لا تكون ملائمة لسهولة وصول الجمهور، ما يجعلهم يعدلون عنه في الغالب، رغم أن محبي الفن الحقيقيين يأتون للمعارض مهما كانت الظروف، حتى إن بعضهم يسافر من دولة إلى أخرى من أجل ذلك.

ويقول يوسف: «إن ظاهرة ضعف الإقبال على المعارض وتدني مستوى اقتناء الأعمال، هي التي دفعت الهيئات والمبادرات الناشطة في المجال إلى أن تحمل على عاتقها دور إبراز الفنانين وأعمالهم؛ لأن هذا المجال الثقافي لا يلاقي في الوطن العربي حتى الآن ما يستحقه من اهتمام، حيث يقتصر التركيز على بعض الأسماء القليلة المشهورة، وبشكل مبالغ فيه، عكس ما نشهده في الغرب، الذي يكون الاهتمام فيه بالفن وجمالياته بغض النظر عن صاحب العمل، ما جعلهم يخرّجون باستمرار فنانين جدداً وأعمالاً ذات إضافات إبداعية مقدّرة، وهذا يرجع إلى رسوخ الثقافة الفنية لديهم، بمختلف مستوياتهم الثقافية».

واعتبر يوسف أن إدخال الفن إلى المناهج الأكاديمية، مثل كلية الفنون الجميلة والتصميم بالشارقة، خطوة في الاتجاه الصحيح لنشر ثقافته، وقد بدأت تظهر نتائج ذلك من خلال ظهور فنانين صاعدين مبدعين، رغم أن الدراسة الأكاديمية، ما زال يغلب عليها الاتجاه نحو المجالات المطلوبة في سوق العمل أكثر من سواها، إلا أن إقبال بعضهم على دراسة الفن لذاته ولدوره الجمالي والفني قد يسهم في نشر ثقافته بين الجمهور، ما يسهم في زيادة الإقبال على الأعمال والمعارض الفنية.

تذوُّق بالتدرج

تقول الفنانة د. نجاة مكي: «حسب حضوري للكثير من المعارض في الإمارات والوطن العربي، لا أرى أن هناك انحساراً لحضور الجمهور، ولكنه قد يقل أحياناً بسبب تزامن الفعاليات وتباعد أماكن العرض، فجمهور الفن التشكيلي، كما هو معلوم، جمهور خاص، وفي الغالب لا يفوّت التظاهرات الفنية، وخاصة في الإمارات التي نلاحظ في معارضها على الدوام حضوراً مكثفاً لهذا الجمهور، رغم أن أغلبه يحضر في اليوم الأول فقط، خاصة إذا كان المعرض لشخصية معروفة بتميزها الإبداعي، ولكن مع مرور أيام المعارض يقل الحضور»، وتؤكد نجاة أن الفنانين والمثقفين يتفاعلون مع الأعمال الفنية والمعارض أكثر من غيرهم، وهو ما يتطلب من الفاعلين في المجال المضي الحثيث لاجتذاب بقية الجمهور، من خلال نشر ثقافة الفن التشكيلي بشكل أوسع، لتعويد الجمهور بمختلف مستوياته على زيارة المعارض، ومشاهدة الأعمال الفنية وقراءتها، حتى يصل إلى تذوق الفنون بالتدرّج، وذلك ما يمكّن، في نظرها، من خلال العمل على عدة محاور من بينها: استغلال الفضاء الإعلامي بشقيه التقليدي وشبكات التواصل الاجتماعي، وتعزيز حضور الفن في مناهج التدريس، وحث الأسر على تشجيع النشء على دراسة الفنون وتذوقها.

خلفيات

ويرى الفنان محمد الأستاد، أن علينا البحث أولاً في خلفيات غياب الجمهور؛ حيث سنرى أن في طليعتها انعدام ثقافة الفنون التشكيلية الحقيقية والعميقة لدى معظم فئات الجمهور، والتي إن وجدت فإنها تكون في الغالب سطحية ومحدودة، ويرجع ذلك إلى غياب الوعي بأهمية الفنون في حياتنا، ومحدودية تأثير المناهج الدراسية للفنون البصرية، وطرق تدريسها في الكثير من المؤسسات التعليمية، وقلة الكفاءات بين مدرسيها، كما يرى أن من تلك الخلفيات وجود بعض مدعي الفن، الذين انخرطوا مع تيارات الفن المعاصر والحديث والمفاهيمي والأدائي وغيرها دون علم أو دراية، وإنما بدافع الشهرة السريعة، ومجاراة لبعض الأفكار والمحفزات الغربية الغريبة التي لا تمت إلى فننا الحقيقي بصلة، ولا إلى رسائله وأهدافه الجمالية النبيلة، ويعتبر الأستاد أن ذلك هو ما أغرق المجال ببعض الأعمال السطحية العادية، التي لا تؤدي إلا إلى قلب موازين الجمال والذوق، وليس فيها أي احترام لذائقة الجمهور وفكره، ولا تعدو كونها نقلاً وتقليداً لما يحدث في فكر الإنسان والفنان الغربي المختلف عن رؤيتنا الحضارية، ويكمل الأستاد نبشه في تلك الخلفيات قائلاً: «هناك قصور مخيف في الجانب التسويقي بسبب ضعف الترويج الإعلامي والثقافي للحدث الفني والفنان الحقيقي، وندرة النقاد الحقيقيين، إضافة إلى انتشار ظاهرة تأجير الريشة، واكتفاء المدّعي بالتوقيع على المنتج الفني، والإلمام ببعض العبارات والمصطلحات الفنية والمدارس، إضافة إلى المبالغة في أسعار الأعمال الفنية من قبل بعض المبتدئين».

ويؤكد الأستاذ ضرورة بعث ثقة الجمهور بالفن التشكيلي، والمحتوى الجميل للمعارض الفنية، عن طريق مخاطبة عقولهم بالمنتج الفني الحقيقي المفهوم والمنطقي، ونشر ثقافته وإبراز أهميته، عبر الندوات والمحاضرات والمناهج الدراسية المدروسة بعناية.

انتشار أكثر
أما الفنانة هدى سعيد سيف، فلا ترى ضعفاً في إقبال الجمهور على المعارض الفنية في العالم العربي، وخاصة في الإمارات، وتقول: «لقد كثرت لدينا المعارض المتنوعة في مختلف إمارات الدولة، وخاصة مع وجود الغاليريهات الافتراضية، فانتشرت الفنون التشكيلية بشكل أكثر، وأصبح لها عدة أماكن، وبدأ الجمهور يتوزع عليها حسب أذواقهم، وهذا ما جعل الازدحام يقل في المعارض، ففي الماضي لم يكن لدينا سوى جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، والآن لدينا عدة غاليريهات مختلفة، بما فيها الافتراضية».

وترى هدى سيف، أن سبب نجاح الغرب في مجال الفنون التشكيلية، والإقبال الجماهيري الكبير، هو أن لديه أماكن محددة استطاعت النجاح في جذب هذا الجمهور إليها، وخاصة من الفئات الغنية القادرة على عملية الشراء، وتشير إلى أن تلك الثقافة لا تزال غائبة لدينا، فالفنانون في الإمارات وفي العالم العربي يحتاجون إلى الاحتواء من طرف الطبقة القادرة على شراء الأعمال الفنية الثمينة، فالاهتمام بتجارة الأعمال الفنية لم يصل عندنا بعد إلى ما وصل إليه في العالم الغربي، وتؤكد هدى سيف أن أكبر دعم وتشجيع يمكن أن يحصل عليه الفن التشكيلي هو اهتمام تلك الطبقة الغنية به.

وتشيد هدى سيف بالوجود الفعلي للفن التشكيلي في بعض المناهج التدريسية، ولكنها تعتقد أن المؤسسات التعليمية تحتاج إلى عملية تكامل مع المجتمع الخارجي الناشط في المجال، مثل الجمعيات والمؤسسات والغاليريهات؛ حيث يجب أن يكون هناك تواصل دائم بين تلك المؤسسات وذلك المجتمع.

ضعف تسويق
وتوافق الفنانة د. مريم الشناصي ما قالته هدى سيف؛ حيث ترى أن الجمهور موجود ولكن مستوى الإقبال يختلف من معرض إلى آخر، وتضيف: «نرى في بعضها تهافتاً كبيراً بسبب اسم الفنان، أو نوعية التسويق وإجراءاته، لأن ما يوضع من خطط تسويقية هو ما يمكّن الجمهور من الاطلاع على هذه المعارض، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ويدفعه إلى الإقبال عليها، فلا يكفي أن ننشر إعلان دعوة فقط، بل الأجدى هو العمل على تسويق المعرض أو الفنان أو العمل الفني، بوضع خريطة وخطة لترويج برامج الفعاليات الفنية، واستشراف التوقعات، فقد نلاحظ أن هناك جمهوراً يحرص على الحضور لمعرض فنان بذل معظم عمره في الأعمال التشكيلية، بحكم أن الاسم يلعب دوراً وله ثقله، ولكن ذلك قد يختلف بالنسبة للفنانين المبتدئين، ولذلك لا بد من اعتماد الاستراتيجيات التسويقية من أجل استقطاب الجمهور».

وتشير مريم الشناصي إلى أن تركيز الجمهور على الحضور في اليوم الأول فقط ليس خطأه، بل هو خطأ الخطط التسويقية للبرامج؛ حيث نرى أن طريقة التسويق الشائعة لا تلعب الدور المناسب في استقطاب الجمهور وتحديد الفئة المستهدفة، فأهم مؤثر في الجمهور هو العملية التسويقية، التي يجب أن يُحدّد فيها العدد التقريبي المستهدف من أجل الحضور.