تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الحركة التشكيلية المعاصرة في اليمن

الحركة التشكيلية المعاصرة في اليمن

حمود الضبياني*

من المعروف أن اليمن منذ بداية القرن العشرين كان مقسم إلى قسمين، الشطر الشمالي والذي كان يسمى بالمملكة المتوكيلية، والتي بداء حكمها الفعلي بعد الحرب العالية الاولى، واستمر حكمها إلى عام 1962م. أما الشطر الجنوبي فكان قابع تحت سيطرة الاحتلال البريطاني منذ عام 1833م، حتى عام 1963م.مما أثر بشكل فعلي على مسار الفن التشكيلي في اليمن بشكل عام، وعدم مواكبة لفنون الحداثة التي ظهرت في أوربا ثم انتشر في البلدان العربية كدول المغرب العربي، وجمهورية مصر، والعراق وبلاد الشام.
ففي فترة الحكم الامامي والاستعماري لم يحظ الفن التشكيلي في اليمن بإقبـال واسـع خـلال تلك الفترتين, وحتى بعد الثورة والتحرير. وبطبيعة الحال فالأمر يعود بدرجة أولى إلى الوازع الديني الذي كان يحرم أشكال الفنون بل ويمقتها، انطلاقا من الثقافة السائدة في حينة, بالإضافة إلى الظـرف الاسـتعماري والحكم الإمامي الذي كانت تعاني منه البلاد سياسيا واقتصاديا وثقافيا, فتلك الظروف فرضت على اليمن جدار من العزلة مما خلق صعوبة في الاطلاع سير الحراك الفني التشكيلي العالمي بشكل عام, بينما كان التصوير الشعبي المعاصر الأوفر حظاً في الظهور والنماء والتطور (من ستينات القرن العشرين), فظهرت تجارب متنوعة لتصبح مرجعاً ملموسٱ لنشوء الفن التشكيلي كبداية مهمة في المسار العام، ولتحديد هويته التي بنيت عليها الحركة التشكيلية المعاصرة في اليمن.

لم ينشأ الفن التشكيلي في اليمن في إطار حركة تشكيلية تزامناً مع حركات الفنون التشكيلية العربية السالفة الذكر، وإنما جاء كممارسات فردية من قبل القليل من الفنانين الشعبيين، التي تنوعت أعمالهم بتنوع الأحداث السياسية والتاريخية، وما تبعها من تغير في البنى الاجتماعية ومدى تفاعلها معها سواء بالسلب أو الإيجاب, كما أنه يمكننا القول أن تطور الحركة التشكيلية اليمنية كحركة لم تواكب فنون الحداثة وإنما جاءت في بداية الفنون العالمية المعاصرة ولكن في إطار فنون الحداثة.
وبالرغم من ذلك فإن الفترة التي مرت بها الحركة التشكيلية اليمنية المعاصرة منذ 1962م إلى العام 2015م يعتبر مدى زمني قصير في تاريخ وعمر الحركة، التي لم يتكون مسارها بمعزل عما يدور في حركة الفن التشكيلي العالمي، حيث أصبحت الاستفادة من تلك الاتجاهات السائدة في أوربا وبعض دول الوطن العربي بما تحمله من أسلوبية وإبهار تقني أثار شكلانية مع محاولة إلباسها ثياباً تحمل عبق الميراث الحضاري لليمن، وتأصيل الفن اليمني وربطه بجذوره الممتدة عبر تاريخ اليمن العريق. فظهرت العديد من الاتجاهات والأساليب الفنية لكنها في إطار الهوية والشخصية الذاتية.

وإلى جانب الاستفادة من ممارسات الأساليب الفنية العالمية أسهمت الكثير من الروافد التراثية في تحديد وتكوين طبيعة الحركة التشكيلية اليمنية المعاصر، ويأتي في مقدمتها عامل الميراث الحضاري بمعطيات قيمية ثقافية حضارية من منظور طبيعة الفنون المادية وغير المادية الغني بالعناصر التراثية كالرموز البصرية والمنطلقات الفكرية الثقافية والفلسفية والدلالات التشكيلية لمعطيات بيئية متعلقة بطبيعة المحيط الذي يعيش فيه الفنان, وهذه الروافد تباينت بين روافد معرفية وثقافية وبيئية وتاريخية شكلتها الخبرة الجمالية بالمدركات الثقافية المعرفية, ثم تحولت إلى موضوعات فنية تجذب الفنان لتمثيلها ومحاكاتها بلغة حوار فلسفي بما تحويه من أنماط.

كما حملت بنية منجز الحركة التشكيلية اليمنية المعاصرة القيمة الفكرية في فهم الفنان مرجعيات العلاقات المكونة التي تشكل الكثير من الأبعاد منها: (البعد الشخصي, والبعد الاجتماعي, والبعد التاريخي, والبعد التطوري) الذي ينطبق على بنية منجز (أعمال) الفنان الشعبي والأكاديمي مع اختلاف الرؤى والمناهج الفكرية حسب اختلاف الفنان ومرجعيته الفكرية التي غالباً ما تضفي صفة مميزة على أعماله الفنية وتميزه عن غيره من الفنانين.

وبناءٱ على ذلك سوف نخصص محورين لدراسة مراحل التصوير في اليمن (كحركة تشكيلية معاصرة), تمثلت في:
المحور الأول: الحركة التشكيلية المعاصرة في جنوب وشمال اليمن بعد الثورة والاستقلال حتى العام 1990م.
المحور الثاني: الحركة التشكيلية المعاصرة في الجمهورية اليمنية بعد قيام الوحدة 1990م بما فيها (فناني الجيل الثالث) من العام 2000 – 2015م. والذي سوف نتطرق إليه لاحقٱ.

المحور الأول: الحركة التشكيلية اليمنية المعاصرة في جنوب وشمال اليمن بعد الثورة والاستقلال حتى العام 1990م:-
تعتبر الفترة المتأخرة من تاريخ اليمن (منتصف القرن العشرين) (ما قبل الثورة والتحرير) من العوامل المؤثرة التي أعطت التصوير الشعبي المعاصر في اليمن كبداية ممهدة لحركة تشكيلية يمنية ومن أهم أهدافها أنها جاءت رسالة تخدم المصلحة الحقيقية للجماهير، فالمصلحة الاستعمارية والإمامية في تلك الفترة استهدفت النيل من كل ما من شأنه إضعاف موقفها المتمثل في إشباع أطماعها الاستعمارية والإمامية، فوجه الفنان اليمني إلى الابتعاد عن أداء رسالته الصحيحة التي أضحت واحدة من المصائب التي خلفها الاستعمار والإمامية, ولا يخفى أيضاً أن الفنان اليمني قد مارس نشاطه الفني في حدود معينة، إلا أنه بالمقابل فقد رسالته كفنان.

عانى الفن التشكيلي في اليمن فترات ركود ما قبل الثورة والتحرير, على غرار القليل من المهن والحرف المختلفة التي نهجت على توظيف الجوانب الفولكلورية وتقديمها بأشكال مبسطة, وبذلك فإن تَتبُع ورصد بدايات الحركة التشكيلية الشعبية في اليمن في مجال التصوير تعد من أبرز الصعوبات نظراً لقلة الكتابات والدراسات التي توثق تاريخ التجربة التشكيلية اليمنية، ” كما نفتقد إلى الوثائق التي يمكن أن تساعد على بلورة صورة واضحة حول زمن ظهور البدايات، فكل ما يتوفر لا يتعدى حكايات وذكريات لمن تبقى من الفنانين الأوائل، الذين مارسوا هذا الفن لزمن محدود، ثم تراجعوا عنه تحت وطأة ظروف ثقافية اجتماعية اقتصادية لم تكن لتَستوعب آنذاك الممارسة التشكيلية”(1).

أولٱ: الحركة التشكيلية اليمنية المعاصرة في جنوب اليمن سابقٱ:
مارس الاحتلال البريطاني في جنوب الوطن عملية التجهيل الثقافي للشعب بشكل عام، وقطاع الفنون بشكل خاص, “وحينما نسلط الضوء على ممارسات الفنان طيلة فترة الاحتلال بصفة عامة يتأكد لنا بأنه تيسر له التعبير الفني الساذج، وغابت الأصالة الفنية التي لم تميز شخصية الفنان اليمني في الفترة التي سبقت وعاصرت الاحتلال البريطاني في الجنوب، والافتقار إلى مبدأ التربية الفنية”(2).
إذ ارتبط مسار الفن التشكيلي في الجنوب بنمط الفن الشعبي لكنه في إطار الحالة السياسية قبل التحرير، فكانت هناك قلة من الفنانين تأثروا واحتكوا ببعض الفنانين الأجانب المتواجدين في عدن، “حيث اتسم فنهم بالتقليد ورسم المواضيع الساذجة للمناظر الطبيعية وتسطيحها، إلا أن نشاط الفن كان قوياً ونشيطاً في الرسم والنحت عند أفراد الجاليات الأجنبية المختلفة، فقامت هذه الجاليات بتأسيس ما كان يطلق عليه جمعية للفنون العدنية التي تأسست بصورة رسمية عام (1960م), واستمر نشاطها حتى عام(1965م)، وكان نشاط هذه الجمعية مقصوراً على الأعضاء الأجانب، ولم يكن هناك أي تأثير للجمعية على المجتمع اليمني لأن أهداف الجمعية كانت تجارية بحكم موقع عدن كمدينة(ترانزيت). وبعد الاستقلال تغيرت المفاهيم والقيم والنظرة تجاه الفنون، وكل نواحي الحياة في جنوب اليمن”(3).

ولقد عملت حكومة الثورة على تشجيع الحركة الفنية التشكيلية من خلال إقامة المعارض الفنية للفنانين الشباب في المناسبات الوطنية، كما قامت بفتح قاعات العرض وتشجيع الفنانين التشكيليين على نطاق كبير, وبدأ الفن يتكون بشكل مؤسسي بعد استقلال الجنوب فأنشئ المعهد المتوسط للفنون(•)عام (١٩٦٧م) الذي يعد أهم منجزات الدولة بعد الاستقلال للثقافة عموماً والفنون خصوصاً, “فالتحق الكثير من الفنانين للدراسة به، والذي أخرج عددا كبيراً من الفنانين. “فمع قدوم الفنان المصري (عبد العزيز درويتي) تتلمذ على يديه مجموعة كبيرة من الفنانين التشكيليين وتعلموا منه أسرار التصوير وتقنيات الفن، وواصلت مجموعة كبيرة من الفنانين الدراسة عبر المنح التي وفرتها الدولة، ومعظمها كانت إلى الاتحاد السوفيتي سابقاً فبرز العديد من الفنانين رافعين شعار (الفن الملتزم)”(4).
ويقول الناقد والفنان اليمني حكيم العاقل أنه “في (25 أكتوبر- 1972م) تم تأسيس اتحاد فني كبير أطلق عليه اسم اتحاد الفنانين التشكيليين، وأصبح عضواً في الاتحاد العام للفنانين العرب, وأقيم أول معرض رسمي لفناني الاتحاد في العام نفسه لفنانين تعلموا وأجادوا مثل الفنانين (عبد الله العقيلي- محمد باوزير- أمين جميل- أنور مريدي), فهم النواة الأولى في التشكيل المعاصر في الجنوب والذين سعوا وراء أساليب واقعية وتعبيرية ذات تحويري رمزي”(5).

ومنذ استقلال جنوب الوطن حتى العام 1990 م نجد أنه برزت تجارب تشكيلية حققت حضوراً على المستوى الداخلي والخارجي، “بيد أنه وإن غاب كل أولئك عن المحترف المعاصر، نتيجة عوامل خاصة وعامة إلا أنهم مهدوا لظهور جيل جديد من المحترفين الذين درسوا الفن في معاهد وأكاديميات عربية وغربية، ليعودوا لتكريس ممارسة ذات أُطُر واقعية، فرضتها الحالة السياسية في جنوب اليمن حتى قيام الوحدة عام (1990م)”(6).

تمثلت الحركة التشكيلية بعد الاستقلال في جنوب اليمن وقبل الوحدة اليمنية عام (1990م) بجيلين, الجيل الأول تمثل في كل من :(عبد الله العقيلي- محمد باوزير- أمين جميل- أنور مريدي- فؤاد الفتيح- علي غداف- عبد الله الأمين- فتحي أمان- خالد حسين- عباس عيدروس الجنيدي) وغيرهم، ولم يستمر منهم في الممارسة والاستمرار كفنانين إلا القليل.
بينما الجيل الثاني الذي كانت بدايته من منتصف الثمانينيات حتى نهاية القرن العشرين فيتمثل في كل من: (فؤاد مقبل- إلهام العرشي- سميرة عبده علي- صالح الشبيب- سالم باذيب- عبدالوهاب محمد- خالد صوري- عبدالقادر سعيد حداد- سعد مبارك- جمال عبد القادر- كوثر حسين- أحمد بازبيدي- علي الذرحاني- محمد الهبوب- أحمد بامدهف- رشاد إسماعيل- داوود راجح- كمال المقرمي- سالم أبوبكر- عبدالرحمن غالب- نصر ابكر- جمال الشامي- سعيد علوي- عمر عبد العزيز- ناصر عبد القوي- عبد الله عبيد)، وغيرهم ولا يزال إلى الآن البعض منهم متواجدين في المشهد التشكيلي اليمني الذي طرأت عليه تغيرات نوعية منذ بداية (1990م).
تتمثل أبرز سمات وخصائص الحركة التشكيلية المعاصر في جنوب اليمن في الاتي:
∆ _ عدم تأثر الفنان التشكيلي المعاصر طيلة الفترة الاستعمارية لجنوب الوطن بمنهجية الاستغراب الذي عمد فيه الاستعمار إلى التجهيل ونجح في ذلك, والدليل أنها لم تعرف أي أسماء فنية أو أعمال لفنانين إبان تلك الفترة.
∆_ سعى الفنان التشكيلي في فترة ما بعد الاستقلال إلى ترسيخ الشخصية الوطنية وإبراز الروح القومية والانتماء الحضاري والديني من خلال انتقائه لموضوعات تحفظ هويته وتغنيها. فلم يتخلى عن مسؤوليته التاريخية متحججاً بشعار(الرسم لأجل الرسم)، بل اتخذ من فنه وسيلة للتعبير عن الأفكار البناءة والقيم والمبادئ الراسخة، جاعلاً من أدلجة الفن بالفن الملتزم للتعبير عن الأيديولوجيات السياسية بشكل واضح وببساطة من خلال التعبير عن مجموعة من العقائد السياسية دون أن يكون الغرض من ذلك إحداث تغييرات فعلية, بل هو تعبير عن معتقد إيديولوجي مناهض لأفكار وأعمال المستعمر, وملتزماً بالقضايا التي يؤمن بها أو فكرة أو مبدأ أخلاقي تتعاطى مع قضايا وطنه وشعبه, وأن كانت جهود فردية على مستوى البحث عن أسلوب وتجارب الأبداع في تحرير معنى العمل الفني.
∆_ ظهر الكثير من الفنانين بعد الاستقلال حتى بداية تسعينيات القرن الماضي نتيجة إنشاء معهد جميل غانم للفنون, وابتعاث الكثير من الفنانين للدراسة في الدول الاشتراكية وبعض الدول العربية, فانسجمت بعض (الأعمال الفنية) لدى بعض الفنانين(••) بمواضيع تراثية مع التقنية المتقدمة التي اكتسبت بالدراسة أو المتابعة أو المشاهدة أو المعايشة مع الصياغات والاتجاهات والأساليب الأوربية كالتأثيرية والتكعيبية والتعبيرية الرمزية والتجريدة, فكانوا أكثر حداثة من فناني شمال الوطن إلا أنهم في المقابل كانوا أقل نتاج.
∆_ غلب على أعمال الكثير من الفنانين في نهاية سبعينيات القرن الماضي طابع التلقائية والفطرية فترجمت أعمالهم الواقع المحيط وانصهرت في الموروث اليمني والإسلامي صاحبها التقليد والتأثير بالغير من حيث الأساليب الفنية والتقنية, لتكتسب صفة التجديد والتحديث مبقيين على استنطاق تراثهم المحلي, مستلهمين ماضي حضارة بلدهم المتنوع ثقافياً.

ثانيٱ : الحركة التشكيلية المعاصرة في شمال اليمن من (1962- 1990م):
ثمة عوامل سلبية أثرت على الفن التشكيلي في شمال اليمن في فترة ما قبل الثورة منها على سبيل المثال العادات والتقاليد اليمنية القديمة المتخلفة, والفهم الخاطئ للعقيدة الدينية التي وضعت العراقيل أمام الفنانين في تعجيل عجلة التطور الثقافي في اليمن وجعلتها تتحرك ببطء. “إذ كانت الفنون في تلك الفترة لا تتعدى الصناعات التقليدية الشعبية كصناعة الحلي والقلائد والخناجر والسيوف الفضية والذهبية وصناعة السلال والأقفاص وجميع منتجات القصب وأوراق النخيل وصناعة الجلود والصباغة والحفر على الخشب، ولم يكن هناك فن تشكيلي يذكر بسبب التخلف والجهل في الثقافة”(7).
وتلك الفنون أنذاك كانت سائدة كونها فنونا نفعية في الأساس, بينما غاب فن التصوير الشعبي من خلال تعاطي النظام الإمامي مع الفن من خلال تشريح كيفية تدخل النظام بمنع أنواع معينة من الفنون كالفن التشكيلي(اللوحة التشكيلية) كونها تحمل رسالة إنسانية وسياسية واجتماعية وتتضمن الدعاية الفنية لتمرير رسائل لإحداث تحولات على مستوى السياسات التي مورست على الشعب، تلقى الجذب لدرجة التجمهر حولها كونها بسيطة ممكنة الوصول لكافة الطبقات والفئات, وذلك حتى تكون قادرة على اكتساب قاعدة جماهيرية غفيرة حولها لتصبح من خلالها قادرة على إحداث تأثير واضح وملحوظ في أفراد الشعب والمجتمع فنما شيء من الوعي والإحساس بين صفوف الجماهير على القضية الوطنية إبان فترة الحكم الإمامي فأحسوا بتدهور الموقف وبالبؤس والشقاء والحرمان المؤلم من كل مقومات الحياة الإنسانية, وبدأت تظهر ثقافة يقظة بأهمية الفنون الثقافية والبصرية بشكل عام.

ويرى محمد حسين جودي في كتاب له بعنوان (الحركة التشكيلية العربية المعاصرة في الوطن العربي) “أن وزارة الثقافة في اليمن بعد الثورة والاستقلال قامت بجمع التراث الوطني والشعبي وحفظه في متاحف الآثار وبدأت الحكومة بالاهتمام بالفن والفنانين, وتقديم المساعدات والمكافآت لهم… كما بدأت تظهر يقظة ثقافية شيئا فشيئا عند الشباب التشكيليين في مجال التصوير من خلال الوعي والإحساس بالفن، فكانت هذه البداية الأولى لظهور حركة ثقافية وفنية بشرت بانطلاقة جديدة للفنان اليمني”(😎. فظهرت نشاطات فنية في الستينات عند بعض الفنانين التشكيلين الشعبيين اليمنيين مجسدين بذلك حركة أهداف ثورة سبتمبر وأكتوبر في أعمالهم المختلفة، معبرين بأعمال فنية عن معاناة الفقراء من العمال والفلاحين والصيادين وأبرزت صراعهم مع الطبيعة القاسية، والتخلف الرهيب، وأدوات القهر والتعسف.

كانت هناك محاولات التأسيس لجمعية للفنانين التشكيليين في صنعاء إسوة باتحاد الفنانين التشكيليين في عدن، لكن الظروف السياسية والاقتصادية حالت دون ذلك, ومع بداية السبعينيات ابتعثت الدولة مجموعة من الشباب للدراسة في مختلف أنحاء العالم، وكما كان اهتمام الدولة واضحاً من خلال إقامة المعارض واقتناء الأعمال الفنية من أجل خلق حركة تشكيلية يمنية، ولم تظهر أُولى المحاولات التشكيلية إلا في نهاية الستينات من القرن العشرين، عندما استقر الفنان هاشم علي في مدينة تعز، وبدأ بعرض لوحاته في متحف تعز في العام (1967م) إذ يعد أول معرض شخصي لفنان تشكيلي في اليمن بشكل عام، ثم الفنان عبد الجبار نعمان الذي عاد من مصر بعد الدراسة في المرسم الحر (ليوناردو دافنشي)، وبدأ احترافه للفن(9).

ولقد تمثلت الحركة التشكيلية المعاصرة في شمال اليمن بالجيل الأول من الفترة (1970-1985م) المتمثل بكل من: (هاشم علي)(•••) وعبد الجبار نعمان- عبد الجليل السروري- عبده الحذيفي- محمد العودي)، وغيرهم كفنانين أسهموا في بلورة الفن التشكيلي في الشطر الشمالي من اليمن، كما كان للفنان هاشم علي تأثيره في مسار نشوء الفن التشكيلي في الستينات من القرن الماضي، والذي سد مرسمه واحتضانه لطلابه النقص الملحوظ في القدرات التشكيلية أو مواطن الدراسة المنظمة، فكان مرسمه بمثابة متنفس للهواة الراغبين بمزاولة الرسم، والذي تتلمذ على يده الكثير من فناني جيله والجيل الثاني والثالث.
أما الجيل الثاني فبرز ظهوره في منتصف الثمانينيات حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، ونذكر منهم: (حكيم العاقل – آمنة النصيري- هاني الأغبري- عبدالعزيز إبراهيم- صبري الحيقي- طلال النجار- عبد الحميد جحاف- محمد وائل- إخلاص منصور- عبد الله المجاهد- أمين ناشر- عبد اللطيف الربيع- عبد الفتاح عبد الولي- محسن الرداعي- صادق غالب- سلطان المذحجي- صلاح ردمان- ياسين غالب- عبدالله الجرموزي- مظهر نزار- ريما قاسم)، وغيرهم.

ولعل أبرز سمات وخصائص الحركة التشكيلية المعاصر في شمال اليمن تبرز فيما يلي:
∆_ جاء ظهور الفن التشكيلي المعاصر في شمال اليمن بعد قيام ثورة (26 سبتمبر 1962م) متلازماً ومعارضاً للأفكار والممارسات التي تبناها الحكم الإمامي أثناء فترة حكمه, متخذاً شكلاً مباشراً ومعبراً عن أهداف الثورة، ممجداً للانتصار التاريخي على الحكم الإمامي، بصيغة الملصق إلى جانب العبارات الثورية، وكان أقرب إلى المنشور الثوري منه إلى الفن، خاصةً وأنه لم توجد ثقافة بصرية أو تجارب تشكيلية قبل الثورة، فكان الطابع الفطري والساذج هو الأسلوب الأقرب إلى عقلية الجماهير في تلك الفترة.
∆_ عدم وجود المؤسسات التي تعنى بالفن التشكيلي من معاهد وكليات وقاعات عروض, وغياب الدراسات المنظمة داخل الوطن والاستعانة عنها بالخارج، وضعف الصلة بالفنانين الأجانب خلافاً لما في العراق والشام ومصر مثلٱ، مما أدى إلى افتقاد العمق الريادي أو الممهد للحركة التشكيلية المعاصرة في شمال اليمن بعد الثورة كما هو الحال في جنوب اليمن. فالفنانين من الجيلين في الشمال لم تجمعهم نقابة أو جمعية فنية فاعلة, وظلت معارضهم الجماعية موسمية ومناسباتية.
∆_ اتسمت بداية تجارب فناني الجيل الأول والثاني بالتقليد والمحاكاة مقتربين إلى النزعة الطبيعية الواقعية في رسم المواضيع الساذجة للمناظر الطبيعية وتسطيحها, مع بروز محاولات في الخوص في غمار ممارسة اتجاهات فنية حديثة كالواقعية والانطباعية والتعبيرية. وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي اتسمت أعمالهم بتنوع مواضيعهم الفنية, فشملت مواضيع من الإرث الفني المحلي والحضاري الزماني والمكاني كمرجعية ارتبطت بالهوية وأثبات الذات، ونقطة شروع للتوصل إلى ممارسة فنية حاملة لخصوصيتها الإبداعية على مستوى الممارسة والتأويل من طرف الفنانين في تجاربهم الفردية التي بدأت بالتنوع في ممارسة العديد من اتجاهات الفن الحديث، والغوص في ممارسة الاتجاهات الفنية المعاصرة.
واخيرٱ يمكننا القول ان الظروف السياسية والاقتصادية والعادات والتقاليد اليمنية القديمة المتخلفة، والفهم الخاطئ للعقيدة الدينية الذي لم تكن تشجع على الفن ومن ثم وضعت العراقيل أمام الفنانين كل ذلك لعب دورٱ سلبيٱ في نشوء الفن التشكيلي اليمني المعاصر, كل ذلك انعكس في تبلور مسار التجارب الفنية كحركتين في شمال وجنوب الوطن التي بدأت ظهورها في منتصف الستينات كتجارب فردية تشكلية شعبية تطغى عليها التجريبية والذاتية, دونما ظهور تجارب اكاديمية جماعية في إطار جماعات فنية حتى بعد الثورة والتحرير وصولا الى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، والتي ظهرت فيها تجارب متميزة وفريدة، وشكلت اللبنة الأساسية لحركة تشكيلية فنية يمنية معاصرة برزت فيها اسماء فنية من الجيل الأول وشكلت بذلك ملامح وبروز أسماء فنية من الجيل الثاني، والتي اسهمت بشكل فعلي في تغيير مسار الحركة التشكيلية اليمنية المعاصرة بشكل افضل.
————
المراجع والهوامش
(1) بتصرف ينظر: ياسر محمد عبده العنسي: التصوير اليمني المعاصر، رسالة ماجستير، جامعة الإسكندرية، 2009م. ص 43
(2) منير الحميري: القيم الجمالية في التصوير الشعبي اليمني، رسالة ماجستير، جامعة الإسكندرية، 2005م، ص161.
(3)نفس المرجع, ص.168.
(•) كانت نواته في البداية باسم معهد الموسيقى مطلع السبعينات على يد الموسيقار العدني احمد بن احمد قاسم بعد عودته من القاهرة وذلك بعد تخرجه من المعهد العالي للموسيقى, العربية وكان الهدف هو تعليم الفرق الموسيقية القائمة آنذاك. مما دفع بالحكومة بالاهتمام وإصدار قرار بقانون تأسيس معهد الفنون الجميلة عام 1967م لتعليم الموسيقى ولمدة ثلاث سنوات كدراسة تخصصية. وفي عام ١٩73م صدر قرار بتأسيس قسم الفنون التشكيلة وأصبح المؤسسة الوحيدة في مجال الفنون إلى يومنا هذا. لقاء أجراه الباحث مع الناقد والفنان حكيم العاقل, يوم الأربعاء, تاريخ 7/6/2023م. وللمزيد راجع: عدن الغد | استطلاع : معهد جميل غانم. أهم منجزات الدولة الجنوبية ثقافياً بعد الاستقلال كيف بات حاله اليوم.
(4) حكيم العاقل: دراسة (الحركة التشكيلية اليمنية)، مجلة الكتاب الثقافية، ع 2, الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، 2005م، ص.85.
(5) لقاء أجراه الباحث مع الناقد والفنان حكيم العاقل, بتارخ 4/7/2021
(6) أمنه النصيري: مقاله ضمن منتديات المشكاة، بتاريخ 2/2/2022م,
(••) على سبيل المثال برز الفنان علي غداف الذي برز بأسلوبه الحديث (الموتيف) الحضاري والشعبي في الكتابة الحميرية بتنويعات (كولاجية) مستوحاة من البيئة اليمنية محاولاً إيجاد خصوصية، حيث مثل الاتجاه الثوري الديمقراطي إذ ارتكز على التراث في أسلوبه الشعبي, والفنان عبد الله الأمين وخالد صوري والحداد, وكثيرا من الفنانين الشباب الذين درسوا الفن, وأبرز ما يلاحظ في أعمالهم ذلك الإصرار على عكس انطباعاتهم المستوحاة من التقاليد والعادات الشعبية.
(7)منير الحميري، القيم الجمالية في التصوير الشعبي اليمني, مرجع سابق، ص.167
(😎 محمد حسين جودي: الحركة التشكيلية العربية المعاصرة في الوطن العربي، دار المسيرة للنشر, ط1, عمان، 2007م، ص.169.
(9) لقاء أجراه الباحث مع الناقد والفنان حكيم العاقل, يوم الأربعاء, تاريخ 7/6/2023م.
(•••) يشبه الناقد حاتم الصكر الفنان هاشم علي بأنه ” فاتح أبواب وعنصر إشعاع: فهو يؤسس لماهية فنية حديثة تقتحم على الجميع عزلته وزهده بالفن وتستفز مخيلته وتستنفد مخيلته… وهو يشع على أجيال من غواة الفن وهواته. ويضع في أجسادهم هذه اللعنة الروحية والممسوسة والولع المجنون بتجسيد المخيلة صوراً وألواناً وأشكالاً… كما يضيف بأن الكاتبة السويسرية (لورن سديونا) في كتابها (اليمن التي شاهدت) “شاهدت ككثير من الأوربيين المثقفين ممن يحوزون على مكتبة ومتحف يعلمون عن فنهم اقل من هاشم علي … اليمني المعزول في أقصى طرف الجزيرة العربية، لقد شاهد كل شيء وقراء كل شيء: عذارى رفائيل والرسوم الخداعة للباروكية والزخارف. ووريقات كورو، ونساء رينوار… وملصقات براك… وهكذا بالنسبة للكثيرين من غيره فان سيزان هو سيد الرسم الحديث، والفنان هاشم علي هو سيد الفن التشكيلي اليمني المعاصر”. حاتم الصكر: المرئي والمكتوب، دراسات في التشكيل العربي المعاصر، دائرة الثقافة والأعلام, ط1, الشارقة، 2006م, ص.77.

  • * فنان تشكيلي وباحث