حمود الضبياني*
منذ قيام الثورة والاستقلال حتى الوحدة اليمنية في (22 مايو عام 1990م) نلاحظ أن هناك فجوة وقطيعة أسلوبية زمنية حكمت مسار التجربة التشكيلية في اليمن عبر قلة التجارب الأولى الضرورية كتمهيد تأسيسي ممتد في الزمن, إذ لم تحظى التجارب التشكيلية اليمنية قبل الثورة والتحرير وبعدها بالمقومات الأساسية من قاعات للعرض ومؤسسات تهتم بالتشكيل عدا معهد جميل غانم بعدن بعد الاستقلال، مما انعكس بذلك على الريادة في التجربة التشكيلية اليمنية المعاصرة، إذ كان فنانو الجيل الأول (1985- 1970م) هم عبارة عن أفراد يرسمون في منازلهم مثل الفنان (هاشم علي) الذي يعتبر المؤسس الأول)(•), ناهيك عن بعض الفنانين الذين ساهموا في إنجازهم الفني على مستوى الساحة، والذي يمكننا أن نطلق عليهم (جيل التأسيس). وبالتالي فإن الريادة تعني أن يكون هناك جيل غيروا وأثروا في مسار الحركة التشكيلية اليمنية وفق أساليب الحداثة المتأخرة في زمن المعاصرة.
وعندما تحققت الوحدة اليمنية عام(1990م), وبعد عودة بعض الفنانين الذين درسوا في الخارج وخاصة في منتصف التسعينيات, والتقاء فناني الجيلين في إطار دولة موحدة تم تأسيس نقابة الفنون التشكيلية بصنعاء في عام (1996م)، “كانت حصيلة تجمع الفنانين التشكيليين من الجنوب والشمال، وقامت باستكمال تأسيس الفروع في المحافظات (عدن- حضرموت- تعز), وأصبحت النقابة عضوا في الجمعية الدولية للفنون التشكيلية في اليونسكو، وفي خلال تلك الفترة بدأت تقام فعاليات ثقافية ومعارض تشكيلية جماعية وفردية للكثير من فناني الجيل الأول والثاني، لكن النقابة لم تدعم من قبل الدولة أسوة ببقية نقابات الاتحادات فتوقف نشاطها عام (2000م). كما كان هناك نشاطاً وحيداً هو تأسيس (الحلقة الدولية عام (1996م) التي تعثرت منذ أعوامها الأولى وتوقفت عام (1998م)(1).
زامن ذلك إنشاء وتأسيس مؤسسة العفيف الثقافية في العام (1998م), وهي مؤسسة خاصة تعنى بشئون الآداب والعلوم والفنون وسائر المعارف والمهارات اليمنية، وخصصت قاعة لإقامة معارض فنية تشكيلية. كما عملت الدولة على بناء بيت الثقافة بصنعاء التي افتُتِحت عام (2000) م خصصت لاحتضان كافة النشاطات الثقافية والأدبية منها والبصرية.
أولاً: الجيل الأول (جيل التأسيس والهوية)
لم يتبلور مسار الفن التشكيلي المعاصر في اليمن بشكل واضح وصريح إلا في بداية ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، لأن فناني الجيل الأول سعوا لتأسيس الوجود الفعلي للفن والتقاليد. إذ كان لجيل التأسيس (الجيل الأول) وهم الفنان ( هاشم علي- عبد الجبار نعمان- فؤاد الفتيح- عبد الله الأمين- علي غداف- عبد الجليل السروري- عبده الحذيفي, وغيرهم), دوراً بارزاً في تحديد هوية الفن التشكيلي اليمني المعاصر ولكن في إطار الحداثة والمدارس الفنية التي لازمت التصوير اليمني المعاصر, فظهرت اللوحة المسندية في بعد الثورة والتحرير على يد مجموعة من الفنانين بعضهم عصامين, وبعضهم تتلمذ في الأكاديميات الغربية والعربية, ظهرت أعمالهم في البداية بصيغتها الشعبية تجسد الحكايات الشعبية, وترصد الواقع المحيط والحياة اليومية.
امتازت أعمال جيل التأسيس في البداية بالبساطة والعفوية والإخلاص للموضوع والاستغراق فيه, كما كان القاسم المشترك في تجارب فناني جيل التأسيس هو إيجاد القواسم المشتركة وصولاً إلى هاجس التأسيس الذي ميز تلك المرحلة أكثر من هاجس الهوية والتجديد. أيضاَ برزت الرغبة من قبل فناني هذا الجيل في محاكاة الفن الغربي وانعكست من خلال تقليد المدارس والأساليب والتقنيات الفنية الأوروبية، لكنها سعت على تجديد الثقافة والفن على أسس جديدة، إذ مهدت هذه البداية إلى والدة فن تشكيلي يمني معاصر يعكس القليل من مظاهر التأثر بالوافد من التيارات الفنية، ويسعى لإعادة النظر في أشكال التعبير الفني كلها في ضوء توجههم الفكري والفلسفي.
لم يقف فناني هذا الجيل عند حدود تجارب الواقعية فحسب, بل نجدهم مارسوها للتعبير عن موقفهم على أساس خلفيتهم الاجتماعية والثقافية, كما أن العوامل التي ساعدت على تبلور الأساليب الفنية لديهم هو وقوفهم إزاء الفن الغربي والانبهار لكنه في إطار مسالة الوعي الفني الذي ارتبط بشكل عام بالفنانين ومحيطهم الاجتماعي, كما لعبت التجربة الفردانية لدى فناني هذا الجيل دورا هاما في بلورة العمل الفني وبوعي مقصود أو عفوي لمجاراة تلك التحولات, ولتسجيل رؤية جديدة لديهم.
لقد أخذت القيم والأساليب الفنية لدى فناني هذا الجيل تتبلور لتفرض نفسها بعد أن كانت قيم شكلية تطغى عليها الفردانية والأفكار المجردة للقيمة الشكلية أي انه حصل نضوجا واضحا بين فردانية الفنان وبين منجزاته. لذا كان من الطبيعي أن تتطور الأساليب الفنية بخطى موازية للغاية المنشودة عبر تطوير الوسائل والأدوات والأساليب للحاق بركب الفنون الحداثية على مستوى العالم, وهذا ما حدا ببعض فناني هذا الجيل إلى التأثير بأساليب غربية أكثر وضوحاً, ونجد ذلك في بعض أعمال الفنان فؤاد الفتيح, والفنان علي غداف, وعبد الله الأمين, وبعض من أعمال الفنان عبد الجبار نعمان, والتي نجحت تلك التجارب وأن كانت يسيرة في ترسيخ صورة وهوية يمنية.
ومن الملاحظ أن التطور الأسلوبي الذي نشده فناني هذا الجيل تمخضت عن توليد صيغ شكلية جديدة من خلال الخوض في غمار ممارسة أساليب فنية كالانطباعية والوحشية والتكعيبية والتعبيرية, كما عمدوا إلى استلهام الماضي بكل أشكاله المادية والغير مادية, والتمثيل والتعبير عن البيئة والحياة اليومية والممارسات, وتمثيلها في صيغ معاصرة يصعب معها وضع حدود موضوعية لتجربتهم الجمالية أو صياغتها الشكلية التكوينية البنائية. أيضاً عمدوا إلى التحوير في رؤيتهم ومحاولتهم التركيز على التراث اليمني والقيم المحلية الشعبية. فمثلاً نجد أن الفنان هاشم علي يحرص على انتزاع صورة من الطبيعة، والحياة اليومية بطريقة شخصية تغلب عليها مسحة انطباعية أحياناً وتعبيرية أحياناً أخرى, على عكس ممارسة فناني الجيل الثاني الذين امتازوا بإهمال الممارسات لدى الجيل السابق وكانوا أكثر تعمقاً وتوجهاً في بناء صيغهم الشكلية لتكوينات موضوعاتهم الفنية.
برز التجريد في بعض تجارب فناني هذا الجيل, كما في تجارب كلا من الفنانين الراحلين: فؤاد الفتيح, الذي جعل من التجريدية التعبيرية احد أساليبه, وعبد الجبار نعمان الذي امتازت أعماله بالمعالجات الفنية والتقنية التي تأثر بها من تيارات غربية, لكنهم أضفوا طابعا جديدا أكثر تعبيرا وأصالة مستخدمين ذلك التأثير بأسلوبهم وتقنيتهم, وبروحية صوفية تجريدية تعبيرية, وسعوا إلي إيجاد منجز إبداعي حداثي بهوية يمنية, والتي استمرت طيلة تجاربهم, حتى رحيلهم نهاية العقد الثاني من القرن الحالي.
إذ نجد عبد الجبار نعمان قد وظف شكل موضوعه بتنظيم واعي لعناصر الشكل, فالخطوط المكونة للأشكال تبدوا منسجمة, وأسلوبه التبسيطي في المساحات الملونة نجدها متوافقة للشكل المختزل دون إحداث إحساسا بالتطابق أو المحاكاة للموضوع. فالأشكال الهندسية والموتيفات الشكلية الفلكلورية كالأشكال الزخرفية المجردة للعمارة والأزياء في أعماله التجريدية تعبر عن قرائن حسية, ويأتي توظيفها كرموز في بنية الشكل المختزل, ويصبح اللون بهرجته تعبيراً عن النزعة الروحية الجمالية التأملية التجريدية.
بينما نجد الفنان علي غداف في هذا الاتجاه أعمالاً قدم بشكل حداثي مستفيدا من التراث موظفا الرموز التاريخية, حيث ربط بين تقنيات (الكولاج) والمسطحات اللونية، مختزلاً كثيرا من الرموز التاريخية التي حولها إلى صيغ حديثة مستعملاً قطع العملات اليمينية عن طريق لصقها على سطح اللوحة الفنية. ناهيك عن توظيفه للرموز الثقافية اليمنية القديمة والشخصيات الأسطورية وفق صياغة بنائية تركيبية وإنشائية.
وبذلك نستطيع القول أن ممارسة فناني جيل التأسيس للأساليب الفنية كانت محدودة, كما أنها اعتمدت على القليل من التقنيات والمعالجة, في المقابل نجدها حملت صفة الخصوصية والهوية المتفردة فكل فنان اتسم بأسلوبه وتقنيته وموضوعه, وهكذا أصبحنا أمام تلك التجارب الفنية المختلفة، والرؤى المتنوعة التي تتناقض أحيان ولكنها تتعايش، ولا تخضع هذه التجارب إلى تيار فني محدد أو لمدرسة معينة، ولهذا نرى تلك التجارب ذات التنوع في الأسلوب الذي أوصل كل فنان إلى أن أصبح ذو شخصية متميزة وفريد عن غيره.
ثانيا: الجيل الثاني (جيل التحديث والتأصيل)
في الفترة الزمنية (1985- 2000م) برز ظهور فناني الجيل الثاني, والذي يمكننا أن نطلق عليهم ب (جيل التحديث والتأصيل) فمنهم من ظهروا نهاية الثمانينات وتلقوا تعليمهم في بداية مشوارهم على يد الفنان هاشم علي, ومنهم من أكملوا تعليمهم في الخارج, فبرز القليل منهم كأسماء قبل الوحدة، لكن الأكثرية كتجارب لم يبرزوا إلا بعد الوحدة اليمنية. ومع ذلك سطع نجم أسماء بارزة من هذا الجيل منذ منتصف التسعينيات إلى يومنا هذا, أثروا بشكل ملحوظ بفناني جيلهم أو بفناني الجيل الثالث, وبالتالي فهم لا يقلون أهمية عن المؤسسين من الجيل الأول كونهم جيلين متقاربين في الفترة الزمنية, ناهيك عن بروزهم وتميزهم على مستوى الساحة العربية والعالمية إن صح التعبير.
ونظراً للفترة الزمنية القريبة المتقاربة في ظهور فناني الجيل الأول والثاني في العموم نجد أن هناك من فناني الجيل الثاني أثروا بشكل مباشر على الساحة التشكيلية إلى يومنا هذا, والذين تميزوا بأساليبهم وتجاربهم الفنية التي تميزت وتفردت من حيث الإنجاز والطرح, واصبحوا رافداً مهماً في مسار الفن التشكيلي اليمني كحركة تشكيلية معاصرة. ومن فناني هذا الجيل (حكيم العاقل- أمنة النصيري- عباس عيدروس – طلال النجار- صبري الحيقي- أحمد بامدهف _ عبد الله المجاهد – ياسين غالب – عبد الفتاح عبد الولي – عبد اللطيف الربيع – محسن الرداعي – عبد اللطيف الحكمي – هاني الأغبري- علي عبد الله بارأس – مظهر نزار- داوود راجح – طلال عبد الله – سميرة عبده علي – سالم باذيب- عبد العزيز إبراهيم – فؤاد مقبل – علي الذرحاني – عمر عبد العزيز – محمد الهبوب – محمد عبده دايل – إبراهيم حسين –نصر جوهر – أمين ناشر – أحمد الشبيبي – صادق غالب- جمال الشامي – سعيد علوي- صالح الشبيبي – ناصر عبد القوي – عبدالوهاب محمد- خالد صوري ريما قاسم – إلهام العرشي – إخلاص منصور – سلطان سلام- كمال المقرمي- عبد الحميد جحاف- عبدالقادر سعيد حداد- سعد مبارك- جمال عبد القادر- كوثر حسين- أحمد بازبيدي- رشاد إسماعيل – سالم أبوبكر- عبدالرحمن غالب- جمال الشامي- سعيد علوي- عبد الله عبيد- صلاح ردمان- عبدالله الجرموزي- نصر أبكر, وغيرهم)
اتجه فنانوا هذا الجيل في بداية تجاربهم الفنية إلى تمثيل وتجسيد ومحاكاة وتشخيص الواقع تبعاً لصيغ رؤيتهم ومعرفتهم العملية والعلمية نتيجة تأثرهم بمن سبقوهم, لكن سرعات ما اختلف الأمر تماماً عند الفنانين في أواخر الثمانينيات نتيجة ابتعاثهم إلى دول أوربية وعربية, وهذا ساعدهم على تبدل مفاهيمهم وتعززت قدراتهم المعرفية, فبرزت التغيرات المهمة واضحة نحو أشكال التعبير الفني الأكثر معاصرة, وكما هو الحال عند الفنانين العصاميين الذين لم يلتحقوا بالدراسة الأكاديمية في مجال الفن نجدهم تميزوا في تجاربهم نتيجة ثقافتهم واحتكاكهم بمن سبقوهم وببعض فناني جيلهم فكانوا متميزين في الطرح والأداء والتنوع في الأساليب.
لقد تبلورت لدى فناني جيل التحديث والتأصيل لغة فنية تمثل رؤيتهم الإبداعية وتكوين أساليبهم واتجاهاتهم وفق الأساليب الغربية, لكنها بشكل مدروس ومنهجي, فجاءت أعمالهم في بداية تسعينات القرن الماضي بنضج عكست خصوصية الفنان اليمني وشخصيته، ولها ملامحها العامة التي تقدم لنا الرؤية الممنهجة، وتمثل الطابع العام للأساليب الأكاديمية، فمنهم من برز بأعمال فنية أصيلة وذلك عبر رؤيته الذاتية متجاوزاً محاكاة الموروث ضمنياً، وتجاوزه لتقليد الأساليب الغربية وأن تأثر بها. ومنهم من استعانوا بالأشكال الحديثة والمفهومات الفنية المعاصرة، ليقدموا موضوعات من واقعهم المحلي، وعكسوا الواقع بما فيه الاجتماعي والسياسي والثقافي, لكنهم إجمالاً ربطوا الحداثة الفنية بواقعهم الثقافي المتنوع، وقدموا موضوعاتهم بأساليبهم الفنية الحديثة والمعاصرة.
ما يميز فناني جيل التحديث والتأصيل هو تجريبهم وممارساتهم للعديد من الأساليب الفنية الحديثة والمعاصرة وصولاً بذلك لإيجاد وجود لغة فنية خاص بهم لها القدرة على أن تكون متناسقة عبر سيرها وتطورها، وتفاعلها مع الواقع والأحداث والتاريخ والبيئة، فسعوا إلى تقديم تجارب فنية أكثر حداثية تتضمن وتتوافق فيه كلاً من خصوصية الفنان وعمومية الأسلوب وتناسقه مع فن معاصر قادر على البقاء، وتتلاءم مع أشكال أعمالهم الفنية ومضمونها. فأصبحت أعمالهم الفنية تتسم فيها (الشخصي بالعام, والقريب بالبعيد, والماضي بالحاضر, والتراث بالمعاصرة) في نسق وتألف وتنوع في الخامة والتقنية.
أيضاً تميز فناني الجيل الثاني بالتعبير المتنوع الذي سعى إليه معظم فناني هذا الجيل بما له ارتباط بجميع الاتجاهات والأساليب الفنية الحديثة والمعاصرة, فعبروا بذلك عن ذاتيتهم رابطين إياها بتاريخهم وتراثهم ومحيطهم ممثلين ومرمزين بذلك البيئة والتاريخ والحياة اليومية والممارسات والمعتقدات والفنون الأدبية وغيرها، ولو حاولنا تسليط الضوء على الأساليب الفنية للفنانين هذا الجيل في الفترة من 1985 إلى 2015م لوجدنا تجارب غنية مارست الكثير من الاتجاهات الفنية وتنوعت في الأساليب والموضوعات والخامات. إذ مارس الكثير من فناني هذا الجيل عدة أساليب متنوعة، إذ انه لم يكتفي بالوقوف أمام مدرسة أو اتجاه واحد بل سعى إلي إيجاد أكثر من تأثير في العمل الفني وبتجريبية جديدة ذات دلالة لا تنفصل عن الهوية اليمنية والعربية ذات الدلالة التأويلية في البنى والأشكال.
وحينما نتتبع أعمال الفنان حكيم العاقل عبر تجاربه نجد أنه صاحب الأسلوب المتفرد والتجارب الكثيرة والمتنوعة, المتجدد في الطرح والأداء والمعالجات الفنية والتقنية المختلفة, فنان يتأمل محيطه بعين مختلفة، عاشق للناس والبيئة وخصوصيتها اليمنية بما تحمله من تفرد وخصوصية, نجح في تحقيق جملة من إعادة الاعتبار للمكان والحياة الثقافية بكل مقوماتها. تجاربه هي خليط تتداخل فيها التجربة اللونية والشكلية, ففي كل مرحلة يقدم تجربة تقوده إلى تجربة أخرى حسب المواضيع الذي يقدمها، مغمورا ً بحماس البحث عن الهوية الشخصية, وعن الأسلوب الذي يستطيع قولبة الرؤية الفنية فيه ليصبح له طابعه الخاص الذي لا شبيه له تفرداً في اللون والمعالجة وفي نسق واختيار مواضيعه, لا يمثل إي أتجاه معين كونه يؤمن بالتجريب حتى اصبح لديه أسلوب وشخصية متفردة ومتميزة.
وإن المتأمل في أعمال الفنانة أمنة النصيري يجد أنها فنانة يسكنها هاجس التجريب والبحث في المعالجة والموضوع بالتشخيص والتجريد, تستلهم الموروث الشعبي والجانب الرمزي الأسطوري بأسلوبيات متعددة بنزوع صوفي, مضيفة على ذلك سمات العمق الدلالي أو التأمل بوجود موضوعاتها رمزياً على السطح التصويري, مستفيدة في الترميز في انتزاع الدلالات الرمزية وطاقات الإيحاء في ألوانها وأشكالها, ممثلة ذلك بالأساطير والقصص والروايات ومفردات العمارة اليمنية في خطوط شاعرية وحس مرهف وأشكال مبسطة فبي فضاء لوني عفوي وشفاف, جاعلة من اللون هو أداة التعبير ذات المعاني الدلالية.
وعند البحث في أعمال الفنان الراحل عبد اللطيف الربيع نجد أنه بداء متأثراً بالمدرسة الانطباعية، ثم استطاع أن يتنوع في أسلوبيته ولا يتوقف عند نزعة محددة، فهو يميل للتجسيد والتشخيص في بعض أعماله، إلى جانب الشاعرية والاختزال والرمزية في أخرى, فتظهر مهاراته واضحة في تجارب التلصيق (الكولاج) حين يجعل بعض المخطوطات اليمنية القديمة بدل أوراق الصحف أرضية تستريح فوقها الألوان.
وفي تجارب الفنان مظهر نزار تبرز في جَل أعماله احتدام المؤثرات واشتباك الموتيفات والرموز، ويرافقها تنوع تقنياته التي لا يكف عن تنويعها, فهو يستخدم (المونبرنت) فترة ثم يعززها بالكولاج وبعض المائيات والحبر الصيني والباستيل والزيت، كما يستخدم كل شيء من الورق والخشب والقماش ليحقق تجريداً شاعرا يطابق أفكاره ورؤاه، وكأنه يوازن بين الحداثة والموروث لاسيما في تفجير القيم الدلالية للألوان في الأعمال ذات النهج التعبيري الحالم.
يتسم منحى الفنان الراحل هاني الأغبري في أعماله التعبيرية بمدى تداخل العناصر التراثية والرموز الشعبية ساعياً لتحقيق حالة نفسية تتمتع بالعودة والشجن إلى الماضي الجميل بعناصره الحياتية، كما يعمل الفنان على استنباط أشكال من عناصر ومفردات التراث كعناصر تشكيلية تحمل اهتمامه بالتراث اليمني وبمحاولة تأصيله ذوقا وفكريا ضمن السياق التشكيلي سواء بالتعبير أو بالمزج بين التجريد والتعبير في آناً واحد, متخذاً أسلوب التنقيط لتفاصيل الأشكال ولكن بشكل مغاير تماماً على ما كان علية عند التأثريين, وبطريقة بديعة وحس مرهف وعالي, فهو يلون بتنقيط بالغ الدقة والإمعان من اللون ووضعه في المكان الناس.
بينما توحي تجارب الفنان طلال النجار باستيعاب المؤثرات والتنقل الأسلوبي بشكل مدروس. فلوحاته تكشف عن هم ثقافي يجعله يتجاوز التشخيص في مراحل سابقة بحكم أنه يجيد التشخيص بشكل لافت، كما يحاول استثمار سطح اللوحة لبناء شاعري مدروس وحس لوني مرهف يوجهه السرد ونقل تفاصيل الموضوع مع اهتمام بالأسطورة والرمز ومحاولة إثراء اللوحة بمفرداتها المستوحاة من البيئة اليمنية في إخراج تشكيلي حديث, كما يسعى إلى تأصيل مفرداته ولغته التشكيلية على أسس مرجعية قوامها التراث اليمني والعربي والفنون الإسلامية.
ويسعى الفنان فؤاد مقبل في معالجة أعماله التجريدية التعبيرية من خلال حل مشكلة الفضاء بالأشكال والمفردات الواقعية لكي يعبر عن بيئته الشعبية وما تحتويها, ويعبر عن حالته الداخلية, فالأشكال الواقعية تبرز بنظام آخر وفق منظومة شكلية مغايرة، وفق أسلوبه الذي ينتهج التجريد التعبيري متبعاً بذلك طريقة في نقل وتشخيص الصورة الإنسانية للممارسات الشعبية والعادات والتقاليد الخاصة بالأجواء المحلية وربطها بمكانها البيئي, ونقل أجواء الحياة الشعبية اليومية في رؤية تجمع بين الحديث والمعاصرة.
لقد اتخذ الفنان الجرافيكي علي الذرحاني من التعبير أسلوباً له، فمثل في أعماله الكثير من العادات والممارسات والتقاليد والحياة اليومية وفنون العمارة, إذ اتخذ من العادات والممارسات مواضيع له بما تحمله من مشاهد من الحياة اليومية المعتاد عليها فعالج ذلك من باب التهكم والسخرية محرفاً الأشكال والخطوط من ماهيتها لتحمل بذلك دلالات رمزية ذات البعد الثقافي والاجتماعي بما لها من معاني عدة تجمع بين الرؤية والتعبير المنشود.
وهناك الكثير ممن تميزوا في أساليبهم الفنية برغم قلة إنجازهم في مسيرتهم الفنية, ومن هؤلاء الفنان عبد الله المجاهد والذي يرسم مواضيعه من البيئة وبأسلوب نيف أحيناً وأحياناً بإتقان و بأسلوب انطباعي أو واقعي. والفنانة سميرة عبده علي، والذي اتخذت طابع التلقائية في تعاملها مع العمل الفني محملة بهموم وقضايا المرأة مسقطةٍ على أعمالها المشهد المسرحي من خلال الإضاءة اللونية والإشكال. أما الفنانة الهام العرشي والتي هي متخصصة في فن الملصق الجرافيكي والتي سعت للتعبير بلغة مباشرة في دمجها للبيئة والإنسان حيث جعلت من مادتها الموضوعية هي المرأة اليمنية والتي تظهر جلياً في أعمالها، وبأسلوب تعبيري حيث تظهر المرأة في أعمالها وهي تلبس اللباس التقليدي محاولة لإبراز كينونة المعنى والتعبير الناطق. وكذلك الفنان أمين ناشر الذي يعتبر أكثر حداثة عن جيله من الفنانين حيث يخلق أعماله وعوالمه عبر الصدفة فيجعلها أكثر اتساماً بتطويع بالغ الأهمية من حيث الشكل واللون المختزل.
وأخيراً يمكننا القول بأنه تعددت الاتجاهات الفنية التي سادت تجارب جيل التحديث والتأصيل، واختلفت في مصادرها، ومكوناتها نتيجة رغبة الفنان في الوصول إلى شكل وأسلوب فني خاص يتفرد به عن غيره, ويؤكد عبره انتماءه الشخصي لما ينجزه, فبرزت الكثير من التجارب الفنية المختلفة، منها الأكاديمية والشعبية ذات والرؤى المتنوعة التي تتناقض أحيان ولكنها تتعايش وفق الرؤى الفكرية والمهارات المختلفة, ولا تخضع تلك التجارب المتميزة إلى تيار فني محدد. كما أن هناك تجارب متميزة ومتفردة وصلت إلى مرحلة النضج والاكتمال لها لغتها ومفرداتها وشكلها الفني، وموضوعاتها التي تفاعلت مع غيرها من التجارب ضمن تيارات فنية متعددة اختارها الفنان وطورها لتصبح بذلك إضافات شخصية ونمط مميز ومحدد يتسم به الفنان, وهو ما نجده عند بعض الفنانين المتميزين والمتجددين من هذا الجيل.
____________________
المراجع والهوامش
(•) الفنان هاشم علي تتلمذ على يده بعض من فناني الجيل الثاني الذين صقلوا موهبتهم على يده وتأثروا به في بداية مشوراهم الفني, لكنهم استطاعوا أن يتخذوا لهم أساليبهم الخاصة وشخصيتهم المتفردة, ونجحوا في ذلك. بينما نلاحظ التأثير المباشر في الكثير من أعمال فناني الجيل الثالث من محافظة تعز الذين تأثروا بأستاذهم الفنان هاشم علي من حيث الموضوعات وطريقة المعالجة فنياً وتقنياً, الأمر الذي يصعب على الكثير من فناني هذا الجيل الخروج من عباءة أسلوب أستاذهم وفنان اليمن الأول هاشم علي.
لقاء مع الفنان والناقد حكيم العاقل بتاريخ 5/1/2022م.
* فنان تشكيلي وباحث