“ضوء داخلي” معرض للرسام اللبناني أسامة بعلبكي في بيروت يقدم فيه أعماله الجديدة التي تعبر عن فرادة تشكيلية في رسم المناظر والآفاق الرحيبة.
مناظره مرصعة بالضوء، تضعك في أمكنة تشتهيها العين، ولا تجرؤ أن تغفل عنها كأنك تراها للمرة الأولى. ما يقال عن مناظر الفنان أسامة بعلبكي بآفاقها الرحيبة وغيومها المحتشدة على أبواب المخيلة، إذ قرص الشمس الذي يسطع عند المغيب في سماء متلبدة بسحابات غيوم نورانية على البحر الذي تكتسحه عتمة الظلام، هو أكثر ما يبقى في العين. هل يعقل هذا السحر الذي ينبثق من بين أنامل الفنان الذي يعود بنا إلى العهد الروحي لزمن الرومنطيقية والعزلة في الطبيعة وروحانية التأمل، وإلى الضربة اللونية الانطباعية المائجة. هذا السحر المشفوع بقوة التناغمات والتدرجات في سلم المقامات والنبرات العالية والمخففة والمتعارضة، التي تعمل على إحياء العلاقات بين الأبعاد المنظورية غالباً على قماشات كبيرة من شأنها أن تخطف النظر.
في أعماله تتجلى ملاحظات عين الفنان للطبيعة من خلال الضوء الذي يتخطى مقامه كرديف للنور، فيتحول ضوءاً مسرحياً بمؤداه التعبيري- الدرامي الذي يتفجر من قلب الظلمة. هكذا يتساوى النور في الأهمية مع سطوة الظلال ودرجات العتم الليلي الأزرق والبنفسجي والرمادي القاتم وليس الأسود، الذي لا وجود له في الطبيعة بحسب الانطباعيين. في هذا السياق يلح علينا سؤال ما جدوى استعادة جماليات الفنون الماضية إن لم يكن ثمة إضافة؟
لوحات أسامة بعلبكي في معرضه الجديد الذي يقيمه في غاليري صالح بركات بعنوان “الضوء الداخلي” يذكر من غير سبيل، بعبقرية رسام الغيوم كونستابل، الذي رسم القطاع السماوي بشعور لم يسبق لأحد أن جاوزه في إبراز العلاقات المتباينة للضوء الذي ينسج خيوطه بين الغيوم المسافرة في سماء الريف البريطاني، كما يفتح أمام ناظرينا أنواعاً من الجماليات شبيهة بآفاق أوجين بودان المبشر بالانطباعية الفرنسية، إذ إن بعلبكي على طريقة بودان، موضوعاته المفضلة الطبيعة البحرية والموانئ والمشاهد المفتوحة على الآفاق الواسعة. أما في انحيازه إلى الضوء وإلى الضربات الناتئة والمتلاطمة ومشاهد العزلة في الطبيعة يحيلنا بعلبكي إلى فان غوخ ملهمه الروحي في الفن منذ طفولته وشبابه، بحياته المؤلمة وعاطفته المتأججة التي انعكست في رؤيته للضوء وفي طريقة رسمه للطبيعة.
في المعرض يجاهر بعلبكي بهذا الانتماء الروحي العميق للفنان الذي ما زال يشغل العالم، من خلال لوحة ملغزة محملة بالرسائل وكأنها موجهة إلى زواره حصراً في عصر السيلفي، وضعت على مدخل معرضه في غاليري صالح بركات، جسد فيها مشهداً افتراضياً لزوار متحف أورسي في بارس الذين يتحلقون حول لوحة “أوتوبوتريه” للفنان فان غوخ (تلك المؤرخة في سبتمبر “أيلول” من عام 1889) وهي من بين 43 صورة ذاتية له، وفيها تبدو ملامحه صلبة وهزيلة، ونظرته ذات الإطار الأخضر تبدو متعنتة وقلقة، بين اللمسات الحلزونية الفيروزية الزرقاء للخلفية والسترة، واللون البرتقالي الناري لشعر اللحية. وقد أعطاها بعلبكي تسمية Ecce Homo وهو تعبير لاتيني يعني “هوذا الرجل”. هذا التعبير الذي أعطي لبيلاطس البنطي، حاكم اليهوديةفان غوخ وجمهور بريس الروماني (في الترجمة اللاتينية للإنجيل بحسب يوحنا)، عندما كان في أورشليم، وهو يقدم للجموع يسوع الناصري خارجاً من دار الولاية، بعد الجلد.
الجمال اللامعقول
معرض “ضوء داخلي” هو نتاج قرابة أربع سنوات من العمل، يعود إلى مرحلة انفجار مرفأ بيروت وتداعياته على المشهد المديني للعاصمة، اختيرت منه 50 لوحة من الأحجام المتوسطة إلى الكبيرة والجدارية، مشغولة بمادة الأكريليك على القماش، ترصد جمالية المنظر اللبناني الطوبوغرافي الممتلئ بلآلئ الضوء وحبيبات اللون من منظور أفقي أو من منظور علوي مأخوذ لسطوح بيروت، ببيوتها وأبنيتها القديمة المتهالكة، وفي نموها المديني العشوائي وفضائها الأزرق الممتد إلى عنان السماء. إنها بيروت الساهرة على ضوء القمر في ليل أطفأ قناديله، حاضنة الشوق التي تلوح من شاطئ البحر في نهار أشرفت شمسه على المغيب بنارها البركانية الحارقة.
تروي لوحات أسامة بعلبكي بلغة اللون والضوء حكاية تناقضات عزلة الإنسان وحيرته بين الإقامة والارتحال على أنها خطاب بصري لعزلة المكان من الداخل، التي تتمثل في رحلة رجلين على قارب يبحر نحو المجهول. بين النوازع الإنسانية التي تتبدى بين الحين والآخر تبدو قضية الضوء المتنوعة مصادره هي المبحث الأساس، الضوء الطبيعي، والضوء الكهربائي، وضوء المصابيح الساطعة التي تخطف البصر وهي تتفجر من فم نفق مظلم، ناهيك بأضواء المفرقعات النارية التي تفقع شموسها ابتهاجاً، في ليل بيروت المظلم، بفقرها وسطوح أبنيتها الحزينة المغطاة بألواح الطاقة الشمسية. كل هذه الدواخل التي تتمظهر في الخارج وتعلن نفسها، هي ليست حيادية بل نابعة من روح معذبة لفنان ينظر إلى الواقع على أنه الجمال الكامن في التناقض المستحيل الذي لا يصدق. كأن لا مسافة تفصل بين حياة الفنان التي يعيشها من الداخل بين لوحاته وكتبه وأشياء محترفه وذاكرة صور عائلته، والحياة التي يعيشها في مدينته بيروت بشوارعها وسياراتها وأشجارها وأفيائها وجدرانها. بيروت التي يمشي فيها على أنها امتداد لفضاء ذاكرته التي تفيض بالحزن حتى الاختناق.
اللافت في نتاجه هو ليس لوحة المنظر ببهائها اللوني فحسب، ولكن أعماله التعبيرية التي يرسمها بدرجات الأسود والأبيض، وهي بمثابة رسوم قوية بمحتواها، موهوبة لذائقته الأدبية التي ترى وجوه الشعراء والأدباء على أنها أيقونات من عالم دواخله الخاصة. يغيب اللون ولكن يحضر النور بقوة، من مقتربات “غريبة” في طريقة التقاط المنظر الداخلي وزوايا الرؤية (طريقة قطع الكادر) بواقعية متفردة في قراءة الواقع المحيط.
أسامة بعلبكي شخصية رومانطيقية معاصرة تحيا بأنفاس الأعماق الروحية للأدب والشعر الوجداني في امتداده الغربي في خطابه الحداثي. إنه الفنان الشاعر، أو الشاعر الفنان الذي تمتزج فيه حركة الداخل المعيشي – المديني البيروتي مع الواقع الذي يتبدى على هيئة صراع وملاحم ومراث وتأملات تذهب إلى البعيد في مخاطبة الحاضر بلغة الغياب. إيحائي أكثر منه وصفياً وهذه قيمة العمل الفني الحقيقية، الذي يشير إلى ما وراء الظاهر من خفايا وعواطف ومشاعر وتوترات نعيشها في حاضرنا واعتدنا عليها حتى بتنا لا ننتبه إليها أو نعيرها أي اهتمام. ولئن كانت التيمة التي طرحها هي الضوء، غير أنه في مشاهده الباطنية يشير إلى عتمتنا الداخلية. أي بؤس وأي انحدار مأسوي الذي يشير إليه بعلبكي وأي ضوء هو هذا الضوء التراجيدي الذي يتراءى سحره الموصوف بأنه داخلي وإنساني وغامض.