تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » «الشتاء على القناة».. الفن شاهد على العصر

«الشتاء على القناة».. الفن شاهد على العصر

 

 

اشتهر الرسام الهولندي هندريك أفركامب «1585 ـ 1634»، بلقب «موثق العصر الجليدي الصغير»، نسبة لكونه من جيل الفنانين الذين عاصروا تلك الحقبة التي بدأت في القرن الخامس عشر، حيث انخفضت درجات الحرارة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية وتحديداً في أوروبا، فكان فصل الشتاء فيها بارداً جداً تتجمد فيه الأنهار والبحيرات والخلجان البحرية، ما ألهم الكثير من الفنانين، إلا أن أفركامب نال الشهرة الأكبر، وتخصص في رسم هولندا في الشتاء، فكانت لوحاته ملونة وحيوية، مع صور مصممة بعناية للأشخاص في المناظر الطبيعية.

تقدم أعمال أفركامب تصويراً حياً للرياضة والترفيه في هولندا في بداية القرن السابع عشر، وتظهر العديد من لوحاته أشخاصاً يتزلجون على الجليد في البحيرات المتجمدة، وكان من أوائل رسامي المناظر الطبيعية في المدرسة الهولندية، وحظيت أعماله بشعبية كبيرة وقام ببيع رسوماته، التي كان الكثير منها ملوناً بالألوان المائية، كصور نهائية ليتم لصقها في ألبومات للهواة وعشاق الفنون والرسومات.

لوحة
تعد لوحة «مشهد الشتاء على القناة»، من أشهر أعمال أفركامب، قام برسمها عام 1630 وحظيت باهتمام خاص، فقد اعتبرت من قبل النقاد والمؤرخين من القطع الفنية النادرة، واختيرت حديثاً ضمن أفضل مئة لوحة عالمية، نسبة للبراعة الشديدة في تناول موضوع الشتاء والحياة خلال ذلك العصر المتجمد الذي كانت له تأثيراته الكبيرة في الحياة الاجتماعية في أوروبا، واللوحة تؤكد شغف الفنان بتصوير المشاهد الطبيعة والجليد على وجه الخصوص، ولعل الميزة الأكبر في هذه اللوحة وربما بقية أعمال أفركامب هو ذلك الاهتمام بأدق التفاصيل والتركيز على التقاط ورصد جوانب غير مرئية، وربما يعود ذلك إلى أن أفركامب كان يعيش في صمت مطبق، إذ كان أصم وأبكم، وعرف في ذلك الوقت بلقب «أبكم كامبن»، نسبة للمدينة التي عاش فيها في هولندا.

«الشتاء على القناة».. الفن شاهد على العصر

اللوحة تصور يوماً شتائياً بارداً، ربما في وقت الظهيرة، الأجواء تبدو غائمة بعض الشيء من شدة البرودة، وبرع الفنان في توظيف الألوان التي تمنح مشهداً ضبابياً، وتظهر الشمس بالكاد وهي متوارية خلف السحب، فالأفق يكاد يكون محتجباً، فيما تحلق بعض الطيور، وقد أفلح الفنان في مزج الألوان بدرجات متفاوتة من الأصفر والأزرق والرمادي ليظهر قتامة السماء، بينما اكتست الأرض بلون الجليد الأبيض المختلط بصفرة الضباب، بحيث تبدو بعض الأجزاء غير مرئية، ويظهر في مشهد اللوحة أعداد من البشر يستمتعون بالأجواء الشتوية.

تناقض
على الرغم من البرودة القارسة، إلا أن مشهد البشر في اللوحة يشير إلى أنهم في غاية البهجة والمرح والسعادة، يستمتعون بيومهم، ويبدو أنهم قد اعتادوا على الحضور اليومي إلى تلك الساحة من البلدة من أجل اللهو والمرح وتزجية الوقت رفقة العوائل والأصدقاء، ولعل مُشاهد اللوحة يلاحظ ذلك التناقض الكبير بين الأجواء القاسية والجامدة حيث الأشجار العارية اليابسة، والجليد والسماء الغائمة، وحيوية البشر وإقبالهم على اللعب والمرح، وتلك نقطة مهمة في العمل تؤكد قدرة الفنان على قوة التقاط التفاصيل، وتضم اللوحة أخلاطاً من البشر، وليسوا من خلفية اجتماعية واحدة، فهنالك طبقة الأثرياء، وهناك الفقراء، ومن ينتمون للطبقة الوسطى، يظهر ذلك من خلال النشاط والملابس وممارسة الألعاب، البعض بملابس أنيقة مميزة، وآخرون بملابس بسيطة.

والملاحظ كذلك في اللوحة وجود بيوت على طرفي الساحة، وكذلك مراكب للصيد متوقفة عن العمل بسبب الجليد، ما يؤكد أن المكان في الأصل كان بحيرة تجمدت بفعل الشتاء القوي، وتبدو اللوحة وكأنها تمتد في العمق إلى ما لانهاية، بحيث تضم عدداً كبيراً من الأشخاص والعناصر، وتعكس اهتماماً شديداً بسرد أدق التفاصيل، ففي كل جزء منها ثمة حكاية مختلفة وجانب من حياة الناس وسلوكهم وأنشطتهم، بحيث أنها تصلح لتقديم مشهد توثيقي غني بالتفاصيل لحياة الناس إبان تلك الفترة.