تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أبو بكر سالم بالفقيه صاحب الحنجرة الذهبية”: إرث لا يُنسى

أبو بكر سالم بالفقيه صاحب الحنجرة الذهبية”: إرث لا يُنسى

أبو بكر سالم بالفقيه صاحب الحنجرة الذهبية”: إرث لا يُنسى

 

محمد المخلافي
إن الحديث عن عملاق الفن اليمني والعربي، الفنان الكبير أبو بكر سالم بلفقيه، يحمل في طياته الكثير من المعاني والدلالات. فقد ترك هذا الرجل العظيم بصمة لا تُنسى على الساحة الفنية العربية بصوته الساحر وأدائه المتميز.
أبو بكر سالم، صاحب الحنجرة الذهبية والصوت الشجي، أسر قلوب ملايين المستمعين في الخليج العربي والوطن العربي أجمع. لقد حاز هذا الفنان المبدع على جائزة ثاني أفضل صوت من منظمة اليونسكو، ولقب بملك الدان الحضرمي وعملاق الأغنية الصنعانية من قِبل نقاد الفن.
إن مسيرة أبو بكر سالم الفنية كانت حافلة بالإنجازات والإبداعات، حيث ترك لنا إرثًا غنائيًا ضخمًا بلغ زهاء 300 ألبوم غنائي، أبهر من خلالها جماهير عريضة من محبي الفن العربي في الخليج والوطن العربي أجمع. فهو فنان متكامل، ليس مجرد مطرب فقط، بل أيضًا ملحن وشاعر و أديب، مما ساهم في إثراء المشهد الفني العربي بأعمال فنية رائعة.

خلفية الإلهام لأبو بكر سالم

وُلد أبو بكر سالم بلفقيه في عام 1939 في تريم، تلك المدينة الخضراء التي تتربع في قلب وادي حضرموت. جاء لأسرة علمية تعشق الأدب وتفتخر بالثقافة، تمتد جذورها إلى العترة المحمدية. لكن على الرغم من غنى هذه البيئة بالمعرفة، حُرم أبو بكر من حنان الأب، إذ توفي والده وكان لا يزال في أشهره الأولى.
كأول صبي في الأسرة، كان من المقدر له أن يحمل الأعباء وينفرد بنصيبه من المسؤولية في وقت لاحق. نشأ الفتى تحت رعاية والدته الحنون، التي بذلت ما في وسعها لتربيته، بالإضافة إلى جده العالم والأديب زين بلفقيه وسبعة من أعمامه. كان جده يستدعيه ليؤدي الموشحات الدينية أمام الزوار، حيث عُرف الطفل بصوته العذب. لكن هذا الصعود كان متجذرًا في التمسك بالدين والشريعة وقصد الله.
تعتبر تريم مركزًا أكاديميًا بارزًا في الجزيرة العربية، تتميز بكثرة مآذنها ومساجدها التي تمتد عبر أرجائها. هنا، كانت الحياة غنية بالمساجد والمعاهد والزوايا والمكتبات، إلى جانب مجالس العلم والذكر، مما يعكس سمات أهلها الودودة والنفوس الطيبة. في هذا المحيط العلمي، التحق أبو بكر سالم بمدرسة الأخوة للتعليم الأساسي، حيث بدأ رحلته التعليمية وحفظ جزءًا كبيرًا من القرآن الكريم. كان الفتى يتعلم في المدينة التي تحتوي على ثلاثمئة وستين مسجدًا، وغالبًا ما كان يرفع الأذان ويصدح بتكبيرات العيد، مؤديًا دورًا هامًا في الحياة الروحية والثقافية لمجتمعه.
عندما نتأمل في هذه التجربة المبكرة، نجد أنها ليست مجرد سرد لتاريخ شخصي، بل تمثل تجسيدًا لأهمية البيئة المحيطة في تشكيل الهوية. تبرز العلاقة بين التراث والحداثة، وكيف أن بإمكان الفرد، حتى في ظل التحديات، أن يجد طريقه ويحقق مكانته من خلال التعلم والالتزام بالقيم الجوهرية. إن قدرة أبو بكر على مواجهة ظروف اليتم والتأقلم مع محيطه الغني بالمعرفة تعتبر مثالاً يحتذى به، تعكس روح الإبداع والتفاني في سبيل العلم.
منذ طفولته، كان متيماً بالشعر، حيث تعلقت أفكاره بألفاظه ومعانيه. كان يحفظ الأبيات ويستمتع بتذوقها، وينظم القصائد وينشدها بشغف. بل كان يتعمق في تحليل أبعادها وفهم مراميها، مغوصاً في بحارها اللامتناهية. ومع ذلك، كان لا يزال ذلك الفتى الذي يكتشف الحياة، يرتحل بين أزقة تريم، ويشارك في مجالس الذكر والأناشيد الدينية.

أولى خطواته
في سن لم يتجاوز السابعة عشرة، ألّف أبو بكر أول أغنية له بعنوان “يا ورد محلا جمالك بين الورود”، والتي كتب كلماتها وألحانها بنفسه. هذه الخطوة المبكرة أطلقت شرارة نجمه الفني، حيث بدأ بالظهور والتألق على الساحة الفنية في عدن.
في عام 1956، وهو في الثامنة عشر من عمره، قدّم أول أغنية له عبر إذاعة عدن. كانت هذه الأغنية بعنوان “يا ورد محلا جمالك بين الورود”، والتي مثلت بداية انطلاقته الفنية والتعريف به للجمهور العربي. لاحقًا في عام 1985، أعاد الفنان السعودي الراحل طلال مداح غناء هذه الأغنية، مما منحها زخمًا إضافيًا وعرضها على نطاق أوسع.
من حضرمرت إلى نجران: قصة طموح لا تنتهي
بعد تخرجه من معهد المعلمين، التحق أبو بكر بمدرسة الأخوة، حيث بدأ مسيرته التعليمية. لكن الأقدار دعته إلى آفاق أوسع. فابن حضرموت يعتبر تراب وطنه جزءاً من كيانه، ولذلك لم يتردد في البحث عن رزقه في أماكن بعيدة. كانت خطوة مغادرته إلى السعودية، تحديداً نجران، جسراً نحو تحقيق طموحاته. ورغم مرارة الفراق ووداع الأحبة، كان يمتلك الشجاعة للمضي قدماً، متسلحاً بإيمانه ورغبته في التقدم.
بعد فترة في نجران، انتقل للعمل في جدة، قبل أن يعود مرة أخرى إلى وطنه، ليعمل معلماً للغة العربية والدين في مدرسة هندية في عدن. وهناك، التقى بأبرز الوجوه الفنية والغنائية في اليمن، مما أتاح له فرصة الاستفادة من تجاربهم ومعارفهم. وكانت هذه اللقاءات بداية جديدة، حيث تجلى تأثير الفن في حياته، ملهمًا له ليجمع بين التعلم والإبداع.
نرى أن أبو بكر لم يكن مجرد شخصية عابرة؛ بل لقد كان يمثل تجربة فريدة تنطوي على شغف التعلم والسعي وراء الطموحات. تجسدت تلك الروح في قدرته على التكيف مع التغيرات والتحديات التي واجهته، حيث تمثل كل خطوة في رحلته استجابةً عميقة لجذوره الثقافية ولشغفه بالفن. إن رحلته تشكل نموذجاً للكثيرين من الشباب الذين يحملون طموحاتهم بأجنحة ثقافاتهم، ليحققوا التوازن بين الهوية والانفتاح على العالم.

الفنان الذي جمع بين الحن والكلمة
في بداية مسيرته الفنية، ألّف الفنان أبو بكر وأدّى عددًا من الأغاني الشهيرة التي ساهمت في تعزيز مكانته في عالم الغناء. من أبرز تلك الأعمال نجد أغاني مثل “خاف ربك”، و”يا حبيبي يا خفيف الروح”، و”سهرت ليلي طويل”. كما قام بتلحين وغناء مجموعة من القصائد الفصيحة البارزة، مثل “اسكني يا جراح” للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، و”ليلة أشرقت لنا بالنور”، و”أقبلت تمشي رويدًا”.
في هذه المرحلة المبكرة من مسيرته، اتخذ خطوة إضافية بتعلم العزف على آلة العود، مما عزّز قدراته الموسيقية وأتاح له التعاون مع شعراء بارزين كلطفي جعفر أمان وحسين أبي بكر المحضار. معهم ألَّف وأدّى أغان مميزة مثل “صفوا لي الحب”، و”كانت لنا أيام”، و”أعيش لك”، و”ليلة في الطريل”، و”خذ من الهاشمي”، و”تمنيت للحب”. كما امتد نطاق تعاونه ليشمل الدكتور محمد عبده غانم، مؤلف أغان مشهورة كـ”قولوا له”، و”قال لي يا توب”، و”من علمك يا كحيل العين”.
من عدن إلى بيروت: نجاح يتحاوز الأربعة ملايين نسخة
في عام 1967، انتقل أبو بكر إلى بيروت ليبدأ مرحلة جديدة في مسيرته الفنية. هناك، سجّل مجموعة من الأغاني التي ساهمت في توسيع قاعدة مستمعيه في اليمن والخليج وشتى البلدان العربية. كانت أغنية “أربعة وعشرين ساعة” من أبرز أعماله، إذ حققت نجاحاً كبيراً وفازت بجائزة الأسطوانة الذهبية، مع مبيعات تجاوزت الأربعة ملايين نسخة. عكست أغانيه مشاعر الفراق عن الوطن، مثل “إلا فراقك يا عدن”، و”يا طائرة طيري على بندر عدن”، و”تسلى يا قلبي”.
خلال وجوده في بيروت، تعاون أبو بكر مع فنانين بارزين مثل نجاح سلام ونازك وليلى شفيق، مما أضاف لمسة مميزة لتجربته. استمر في العاصمة اللبنانية حتى عام 1975، حيث زادت شهرته، وعاد إلى عدن محملاً بعلاقات وطيدة مع شعراء وفنانين وملحنين. يتحدث الموسيقار أحمد فتحي عن تلك العلاقات قائلاً: “كانت تجمعنا المحبة والفن. رغم أنه كان أكبر مني سناً، إلا أنني كنت أشعر وكأنه أخي الأكبر. كانت تلك فترة مزدهرة حقاً في مسيرتنا، حيث أنجزنا معاً الكثير وشاركنا في حفلات عديدة”.
تبرز هذه المرحلة كيف أن الفن ليس مجرد صوت وكلمات، بل ينسج علاقات إنسانية تُثري الإبداع. كما تعكس قدرة الفراق على إنتاج أعمال مؤثرة تتجاوز الزمن والمكان، مما يجعل تجربة أبو بكر مميزة في تلك الحقبة.
عقب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، غادر أبو بكر سالم بيروت متوجهًا إلى عدن ثم الكويت. في تلك المرحلة الصعبة، التقى بالشاعر حسين بن أبي بكر المحضار، مما أفضى إلى شراكة فنية مثمرة. أنتج الثنائي حوالي مئتي أغنية، مما أضاف عمقًا جديدًا للساحة الفنية.

تاثير ابو بكر على جيله
استقراره في السعودية لم يعزز مسيرته فحسب، بل وفر له أيضًا الموارد اللازمة لإبداعاته. ذلك خلق بيئة مثالية سمحت له بالتألق، وجعلته وجهة للباحثين عن المتعة الفنية. لم يتردد الفنان الراحل في دعم الفنانين الشباب والهواة، وكان له دور بارز في دفع الأغنية اليمنية إلى آفاق أوسع. كثيرون من أبناء جيله يعتزون بفضل “صاحب الحنجرة الذهبية” عليهم، حيث يروي الفنان القدير عبد الرحمن الحداد تجربته قائلاً: “كنت تلميذه، وبدأت مسيرتي الغنائية متأثراً بصوته الرائع. كان لقائي الأول به في المكلا بحضرموت عام 1965، حيث أحيى سهرة مميزة، وكنت أحد أعضاء الكورال المرافق له. لم يكن أبو بكر مجرد فنان، بل تحول لاحقاً إلى معلم وأخ وصديق، وشاركته ذكريات لا تُنسى داخل اليمن وخارجها”.

الجوائز والاوسمة
خلال مسيرته الفنية اللامعة، حقق العديد من الجوائز والأوسمة، مما يجسد إنجازاته الكبيرة وتأثيره العميق في العالم العربي. من بين هذه الجوائز، يعتبر فوزه بالأسطوانة الذهبية من شركة الإنتاج الألمانية وجائزة أوسكار الأغنية العربية من أبرز المحطات في مسيرته. كما منحته جامعة الدول العربية لقب “فنان القرن”، في تأكيد على تأثيره الذي تجاوز الحدود. إحدى القمم الفنية كان أداؤه في قاعة البرت هول بلندن عام 1983، حيث تعتبر هذه القاعة إحدى أكبر المنصات العالمية. وعبر هذا الأداء، استحق بجدارة لقب “فنان عالمي”، مما عزز مكانته في الساحة الفنية الدولية.
تلقى أيضًا العديد من الأوسمة من دول عدة مثل المملكة العربية السعودية، الكويت، عمان، البحرين، ولبنان، بالإضافة إلى تكريمه من مجلس التعاون الخليجي. ومن الملفت أنه حصل على دكتوراه فخرية من جامعة حضرموت، مما يعكس تقدير المجتمع الأكاديمي لمساهمته في الفنون. كذلك، كرمه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح من خلال منحهم وسام درجة أولى في الفنون والآداب. وفي لفتة تقديرية مميزة، منحته دولة الإمارات العربية المتحدة وسامًا من الدرجة الأولى في الفنون والآداب، حيث أهداه الشيخ زايد بن سلطان سيفًا من الذهب، مما يعكس الاحترام العميق الذي يحظى به في قلوب العرب. هذه الجوائز والتكريمات ليست مجرد علامات على النجاح، بل هي شهادة على التأثير الدائم الذي تركه في عالم الموسيقى والفنون.
تعتبر مسيرة أبو بكر سالم مثالًا ملهمًا يجسد الشغف والإبداع، حيث استطاع بفضل موهبته الفذة واجتهاده المستمر أن يترك بصمة واضحة في عالم الفن العربي. لقد ارتبطت أغانيه بمشاعر الفراق والحنين، مما جعلها تعكس تجارب إنسانية عميقة، وأصبح صوته مرجعًا للكثير من الفنانين الشباب الذين تأثروا بفنه.
إن إرث أبو بكر سالم لا يقتصر فقط على أعماله الفنية، بل يمتد إلى تأثيره الكبير في تعزيز الهوية الثقافية اليمنية والعربية. من خلال دعمه للفنانين الناشئين، ومساهماته العديدة في الساحة الفنية، سيظل اسمه محفورًا في الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة، شاهداً على رحلة فنان عالمي حقق أحلامه رغم التحديات.

كاتب يمني