محمد المخلافي
تعتبر الأغنية الصنعانية جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي اليمني، وقد ساهم العديد من الفنانين في إحيائها وتطويرها عبر عقود. من بينهم، يبرز فؤاد الكبسي كرمز فني استثنائي، جمع بين الأصالة والحداثة في أعماله، مشكلاً حلقة وصل بين الماضي والحاضر. في هذا المقال، نستعرض مسيرته الفنية وتأثيره العميق على الأغنية الصنعانية، وكيف نجح في توطيد العلاقة بين الجمهور وتراثهم الغني.
منذ الصغر، بدأ فؤاد الكبسي رحلته في تعلم الغناء والتلحين، مستفيدًا من توجيه والده وإلهام كبار الفنانين اليمنيين، أمثال السنيدار والآنسي والحارثي، الذين قدموا العديد من أشعار والده. أكمل فؤاد دراسته الأساسية والثانوية في مدارس صنعاء، ثم حصل على شهادة من كلية التجارة بجامعة صنعاء. إلى جانب ذلك، اهتم بدراسة علوم القرآن والفقه والنحو والصرف. وقبل بلوغه العشرين من عمره، كان قد أرسى قاعدة معرفية وثقافية راسخة.
الصوت القادم من حارة الأبهر
في قلب صنعاء القديمة، وتحديداً في حارة الأبهر، بدأت قصة فنان استثنائي في منتصف السبعينيات. كان صوت طفل صغير يتردد في أرجاء الحارة، يغني بحماس ويعزف على عود بدائي صنعه بنفسه من جالون زيت. هذا الطفل، الذي سيصبح فيما بعد الفنان المبدع فؤاد الكبسي، كان يستمد إلهامه من الفنانين الذين كانوا يزورون مجلس والده، وخاصة أحمد السنيدار وعلي الأنسي.
في ذلك المجلس، وبتشجيع من والده، بدأ فؤاد الصغير يكتشف موهبته الغنائية. ومع مرور السنين، تطور هذا الصوت الصغير ليصبح فؤاد الكبسي رائداً في مجال الأغنية الصنعانية، مجدداً ومبدعاً لا يُضاهى.
شهدت الأغنية الصنعانية نهضة كبيرة بعد ثورة سبتمبر 1962. فبعد أن كانت تُغنى سراً في عهد الإمام أحمد، انطلقت بقوة لتبلغ ذروتها في السبعينيات. في تلك الفترة، برز فنانون عظماء، أمثال علي الأنسي وأحمد السنيدار وحمود الحارثي وعلي عبدالله السمة وأبو نصار، الذين حملوا لواء هذا الفن وعملوا على توثيقه وتطويره.
لكن مع بداية الثمانينيات، بدأت هذه الحقبة الذهبية بالأفول. ففي عام 1982، فقد اليمن اثنين من أبرز فنانيه: علي الأنسي الذي توفي، وعلي عبدالله السمة الذي قُتل بالقرب من منزله في صنعاء. تبع ذلك رحيل أبو نصار، وانسحاب أحمد السنيدار التدريجي من الساحة الفنية.
مراحل الأغنية الصنعانية
قبل ثورة 1962 وبعدها حتى 1982 كانت هناك ثلاث مراحل رئيسية. بعد ذلك، امتدت المرحلة الثالثة حتى عام 2005، والتي كان فؤاد الكبسي البطل الأبرز فيها دون منافس حقيقي.
بدأت المرحلة الرابعة في الفترة التي نعيشها اليوم، والتي تشهد تنافساً بين عدد من النجوم المتأثرين بشكل واضح بفؤاد الكبسي وألحانه المتميزة. غناء الأغنية الصنعانية ليس بالأمر السهل، فلها خصوصيتها المتفردة في الكلمات والألحان والإيقاعات.
كما أشار الشاعر اليمني الكبير حسين أبو بكر المحضار، فإن الأغنية الصنعانية ما زالت تحافظ على تقاليدها وأسلوبها القديم. وقد نجح فؤاد الكبسي في تقديم هذه الأغنية بروح جديدة وألحان كسرت الرتابة السابقة في هذا اللون الغنائي العريق.
لقد أشعل فؤاد الكبسي شرارة تجدد في عالم الأغنية الصنعانية، في وقت شهد فيه هذا النوع الفني ركودًا كبيرًا. كان تحديه للجمهور الذي اعتاد على أسماء أخرى كبيرًا، لكنه نجح في كسب قلوبهم بأدائه المتميز وإبداعه الفني.
لم تكن بداياته تقليدية، فبدلاً من الانطلاق من التراث الشعبي كما كان متوقعًا، قدم أعمالًا من كلمات وألحان والده، وهو ما لم يكن معتادًا عليه الجمهور. ومع ذلك، فقد نجح في التعريف بهذا التراث الجديد، مقدمًا إياه بلحنٍ معاصر لا يزال الناس يتذكرونه حتى اليوم.
إن سماع فؤاد الكبسي وهو يعزف العود يمنح المستمع نوعًا من النشوة العقلية. وأبرز أعماله في هذا السياق كان تقديمه لأغنية “الحبيب الذي مال عنا واحتجب”، والتي كان لها دور كبير في شهرته في مطلع التسعينيات.
هناك سبب وجيه لماذا أصبح فؤاد الكبسي أحد أبرز الفنانين المرتبطين بمدينة صنعاء. من خلال الأغاني التي قدمها، استطاع أن يوثق عشقه وتعلقه بهذه المدينة وتراثها الغني. من أبرز هذه الأغاني كانت “من قال صنعاء” التي صدرت في 1999، والتي عبّرت بأسلوب فريد عن جمال هذه المدينة وما تمثّله في قلوب أبنائها.
لم يقتصر إبداع الكبسي على مدح صنعاء وجمالها، بل امتد ليشمل مختلف المواضيع والمشاعر الإنسانية. غنى للحب والفراق والصداقة، وكان من الرواد في إدخال الموسيقى الحديثة على الألحان التقليدية الصنعانية. ألبوم “أشكو بمن ولعوني” الصادر في منتصف الثمانينيات كان علامة فارقة في هذا المجال، ومنه أغنية “يا مكحل عيوني بالسهر” التي اشتهرت بأدائها الموسيقي المتميز.
بهذا المزيج المتوازن بين الإبداع الفني والارتباط الوثيق بالتراث والهوية المحلية، نجح فؤاد الكبسي في أن يتبوأ مكانة مرموقة في تاريخ الأغنية اليمنية ويصبح أحد أبرز رموزها.
التواشيح الدينية في اليمن: نافذة على تراث ثقافي عريق
تمثل التواشيح الدينية في اليمن قصة مميزة وفريدة من نوعها. هذا التراث الثقافي الغني كان لسنوات طويلة مقتصراً على الأداء التقليدي دون ألحان أو عزف آلي. ومن خلال عمل الفنان الكبسي، تم إحياء هذا التراث وتقديمه بصورة جديدة للجمهور.
في عام 2002، أصدر الكبسي ألبوم “يا رب يا رحمن”، الذي تضمن تلحينات للتواشيح باستخدام آلات موسيقية مثل العود والناي. هذه الطريقة الجديدة في تقديم التواشيح كانت ثورية، إذ لم يكن الجمهور متعوداً على سماعها مصحوبة بموسيقى آلية.
أغاني الكبسي… أمثال شعبية خالدة.
نجح الكبسي في الوصول إلى جمهور واسع، بما في ذلك السكان في القرى والأرياف والمدن. هذا الانتشار في عصر الألبومات والراديو كان إنجازاً كبيراً في تلك الفترة. واليوم، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية، أصبح من السهل الحفاظ على استمرارية هذا التراث الثقافي وجذب المستمعين له.
تحولت عدد من أغانيه إلى شعارات وأمثال شائعة على ألسنة الناس، حتى بين من لم يسبق لهم سماعها مباشرة من صوته وعزفه. على سبيل المثال، أصبحت عبارة “اصبر وهي باتنجلي” مقولة مستمدة من إحدى أغنياته، وكذلك “تم الجميل يا جميل” و”لا حرج لا حرج” و”دعوني أرتاح”، وهي جميعها عبارات راسخة في الذهنية الشعبية اليمنية كأقوال وإرشادات حياتية يتداولها الناس.
هذا التأثير الكبير لأعمال فؤاد الكبسي يشهد على قدرته على التواصل مع جمهوره وإيصال رسائله بطريقة مؤثرة وعميقة، مما جعل من أغانيه تراثًا ثقافيًا وفكريًا لدى اليمنيين. وهذا ما يعكس مكانته المرموقة كفنان شعبي حقق تواصلًا حميميًا مع جماهيره.
فؤاد الكبسي لم يكن مجرد فنان عابر، بل هو رمز حقيقي للثقافة والفن اليمني. بفضل إبداعه الفريد وقدرته على دمج التراث مع الحداثة، استطاع أن يترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الأغنية الصنعانية. لقد ساهم في إحياء التراث الثقافي، وجعل من أغانيه جسراً يربط بين الأجيال المختلفة. إن تأثيره المستمر على الساحة الفنية يعكس مكانته الرفيعة في قلوب الجماهير، مما يجعله أحد أبرز رموز الفن اليمني المعاصر.
كاتب يمني