د. مياسة سلطان السويدي
منذ بدايات التجربة الفنية للإنسان، اعتبر الفن نتاجاً إبداعياً تطالب به النفس البشرية، فهو وسيلة راقية لتنوير وتعليم الانسان والارتقاء بحسه الجمالي، يمارسه الفنان للتواصل مع ذاته ومع غيره، محاولا التعبير عن أفكاره ومشاعره في أشكال يجسدها في أعماله باستخدام مواد مختلفة، بداية برسومات الكهوف، ثم في القصور والمتاحف، حيث يكون الحفاظ عليها سحرياً أو مقدساً، وفي إحدى الورش الفنية، التي أحرص على حضورها، والمشاركة فيها، للغوص في عالم الفن ومحاولة سبر إغواره، استعرض المحاضر الأجنبي نماذج عدة من الفن الحديث والمختلف لأشكال ومسارات فنية متعددة، متبعاً نهج حلقات وثائقية تلفزيونية، عرضت في السبعينات لمصلحة قناة «بي بي سي»، للكاتب والناقد الإنكليزي جون بيرجر، والتي وثقت لاحقاً في كتاب بعنوان «طرق الرؤية» من اصدار دار المدى، وتقوم تلك الحلقات على المقاربات التحليلية وإثارة أكبر قدر من الأسئلة التي تتعلق بالفن التشكيلي.
إعدام الحياة باسم الفن
يناقش بيرجر الطبيعة التبادلية للرؤية، فالنظر هو فعل اختيار، والطريقة التي نرى بها الأشياء تتأثر بما نعرفه ونؤمن به، فنحن حين نرى، فإننا لا ننظر إلى شيء واحد، بل ننظر إلى العلاقة بين تلك الأشياء وأنفسنا، فرؤيتنا فاعلة على الدوام ودائمة الحركة ومتغيرة حسب الزمان والمكان والقناعات، بالإضافة إلى أن الفن بأنواعه يعتبر تجربة اجتماعية، حيث يؤكد بيرجر أن نظرتنا إلى العمل الفني تتحدد بالفترة الزمنية والسياق السياسي الذي ينظر في إلى العمل، إلى جانب ظروف خلق العمل نفسه، ويعتبر أن المعركة الرئيسية في الفن الآن هي مع السوق، فهناك قيمتان للعمل الفني، قيمة معنوية تحددها مهارة الفنان في تفسير العالم وتقديمه كعمل فني، والقيمة المادية التي يحددها السوق للعمل الفني كسلعة ثمينة، تستخدم كسلطة ثقافية أو روحية متداولة بين الأثرياء، ومنتج يستثمر مستقبلياً، أو يوضع في المخازن والمجموعات الخاصة للدلالة على المكانة الاجتماعية والاقتصادية.
وأثناء استعراض مراحل تطور الفنون البصرية، قدّم المحاضر فيلماً فنياً بطريقة الحلقة اللانهائية، بعنوان Shot Dog Film، قام فيها الفنان بتصوير لحظات إطلاق الرصاص على كلب وإعدامه، لأُفاجأ ببشاعة المنظر، الذي جعلني أغادر قاعة الورشة، وأنا ممتلئة بمشاعر من الغضب والتقزز والتساؤل الملح: ما هو الفن؟ وهل يحق لهم إعدام الحياة باسم الفن؟ ليدخل بعدها جميع الحضور بين مؤيد ورافض لمثل تلك الأفكار الفنية، مما جعلني أقوم بالبحث عن هذا الفنان بدافع الفضول البحت، وليس الإعجاب بأسلوبه الفني، فوجدت أن هذا الفنان الذي يُدعى توم أوتيرنس، هو نحات أمريكي معروف، ويعد أحد أكثر الفنانين العامين إنتاجاً في أمريكا، يوصف أسلوبه بأنه كاريكاتوري ومبهج! تزين أعماله الحدائق ومحطات مترو الأنفاق والمكتبات والمتاحف في جميع أنحاء العالم، شاهدت أحد أعماله المعروضة في مطار حمد الدولي في الدوحة، بعنوان «ساحة اللعب»، وقد انتخب عام 1994 عضواً في متحف الأكاديمية الوطنية، ويجني ملايين الدولارات من بعض العمولات الخاصة، هو نفسه الرجل الذي أطلق النار على كلبه من أجل تصوير فيلم فني قاسٍ ومقزز ومرفوض، وبرر أنه عانى من اليأس والاضطرابات النفسية والعاطفية، وانتهى الأمر بتكبّد الفنان الآلاف من الدعاوى القضائية فحسب من دون أن يؤثر على قبوله اجتماعياً كفنان عالمي، حين أعدم الكلب وأطلق عليه النار حتى الموت، من أجل الاستمتاع بتسجيل انحرافه النفسي والسادي في الفيلم.
عُمق مزيف وتجاوز الدلالة
ومازلت أذكر حين انشغل عالم الفن على نحو لافت بعمل الفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان، حين عُرض عمل كاتيلان في معرض آرت بازل في مدينة ميامي الأمريكية، وحمل عنوان «كوميدي»، إنها ثمرة الموز المثبتة بلاصق بلاستيكي على أحد الحوائط، التي بيع منها ثلاث نسخ، قدّر ثمن الواحدة بأكثر من 120 ألف دولار، ويذكر أنه عند شراء هذا العمل الفنّي يتحمّل المالك مسؤولية تأمين الموزة والشّريط اللّاصق، لكنّه بالمقابل يحصل على دليل التّعليمات لتثبيته وشهادة الأصالة، انه الفن المفاهيمي الذي يتخلى عن المهارة والجمال كمقاييس للفن، وتحدى سلطة المتاحف وكسر التعريفات الفنية والجمالية، مما شكّل انقلاباً على الجماليات التقليدية في الفن، وبهذا أنهي ما يجب أن يكون عليه العمل الفني من فرادة أو جمال أو إتقان، في المقابل يركز على ما يقدمه الفنان من أفكار ومفاهيم وتصورات وأسئلة، وإن كانت شاذة، فلم تعد وظيفة الفن أن يقدم الجماليات، أو يستعرض مهارة الفنان في صناعة تمثال، أو رسم لوحة، ولكن أصبحت الأعمال الفنية تعمل كمحفّز للأفكار، وتعيد تعريف علاقتنا بالعالم وبالأشياء.
لوحة «الموزة والشريط اللاصق» لا تختلف كثيراً عما قدمه الفنان مارسيل دو شامب في وقت مبكر في عمله النافورة، حين اعتبر الأشياء الجاهزة والمصنوعة أعمالاً فنية، وفكرة الإنتاج الميكانيكي داخل الفن وكشف الجانب التجاري في الفنون، ممّا غير في أعراف الاقتناء ومفهوم المتحف، فأصبح للعمل الفني أكثر من نسخة، فلم يعد من الضروري وجود نسخة واحدة وفريدة من العمل الفني، بل انتهت أساطير أكثر حول العمل الفني وجمالياته، وما يجب أن يكون عليه العمل، أزاح التركيز من العمل الفني نفسه كمادة إلى ما يمثله العمل من أفكار ومفاهيم، حيث يمكن للفن المفاهيمي أن يكون أي شيء تماماً، حيث الفنان على عكس الرسام والنحات، يستخدم أية مواد وأشكال لإيصال فكرته بدلاً من الطريقة التقليدية باستخدام وسائل بديلة، مثل التصوير الفوتوغرافي والفيديو القصير والأجساد، وأية وسائط جديدة ومختلفة، مما يغيّر دور الفنان تغييراً جذرياً من صانع الأشياء إلى مفكّر، وهذا يجعلنا نتساءل عمن يكون مؤهلاً ليكون فناناً، وتسمى أعماله فناً يصلح عرضه في المعارض والمتاحف، باختصار أصبح مثار الاهتمام في الفنون، ليس العمل الفني نفسه والحرفية والإبداع في صنعه، ولكن في ما يقدمه من أفكار وتصورات وأسئلة، مما يستفز النقاشات الكثيرة وإعادة طرح السؤال حول طبيعة العمل الفني، ويجعل من الصعوبة الحفاظ على المبادئ، التي نعتمد عليها للتفريق بين ما هو تابع للفن، وما هو تابع للفكر، بالإضافة إلى استحداث مفاهيم جديدة وتسليعها مع تكاثر الأعمال الفنية وسطحية النقاشات حول الفن المفاهيمي، وادعاء العمق وادعاء الفهم، وما يشمله دورنا نحن بصفتنا متلقين ومتفرجين على هذا الفن.
«كل ما نراه، يخفي شيئاً ما لا نراه، ونحن نتوق دائماً إلى فهم المخفي وراء ما نراه» (رينيه ماجريت)؟
وللأسف اننا أمام أعمال فنية تحولت – شئنا أم أبينا – إلى أيقونة في تاريخ الفن، مما يدفعنا إلى إمعان التفكير مرة أخرى في المصطلحات الفنية الجمالية والمعاني الفنية، وبقيت أتساءل لمدة طويلة من دون الوصول إلى إجابة حقيقية: هل هذا فن أم هذا تجربة اجتماعية؟ فصدق من قال إن الفنون جنون، لكن صدقاً: ما هو الفن؟ من يحدد ماهية الفن؟ هنا أتساءل: لو كان صانع هذا العمل فناناً مغموراً، هل كان سيلقى ردّ الفعل نفسه أم سيُرفَض ويُهمَل على أنه عمل سطحي وتافه؟ ان تختار قضية ما تهز المشاعر ليتبناك أحد المعاهد الفنية ويذيع صيتك، وهكذا تتواجد في عالم الفن، وتدخل دائرة الفنانين، وتباع أعمالك في المزاد بآلافات الدولارات، للأسف لقد أصبح هذا العمل، الذي نحن بصدده الآن، واقعاً فنياً، سواء احتفينا به أم شجبناه وسخرنا منه.
نحن إذاً نتعامل مع «واقع»، محطة من محطات تاريخ الفن، ورفضنا أو إنكارنا لهذا الواقع لن يغيّر من كونه واقعاً حدث ويحدث، وترك أثره بالفعل على ما سوف يحدث، «كثيرة هي الأسئلة»، ويومها من شدة الحيرة قرّرت أن أكتب هذا المقال لألقي بالأسئلة عليك عزيزي القارئ.
الفن وحفظ الهويّة
الفن أداة السموّ والإمتاع ووسيلة لحفظ الهويّة، وشخصياً لا أستسيغ هذا النوع من الفنون، فبعض أعمال الفن المفاهيمي تربكني، ولا تجيب على أسئلتي الكثيرة، وأعتقد ان الفنان المفاهيمي يلهث وراء إثارة الجدل والتساؤلات فقط من دون أن يملك اجابات حقيقة وواضحة، وكدت ان اعتزل الفن، بعد ما شاهدت هذا البؤس في استعراض فنون غريبة اعترضتني في المعارض الدولية والعالمية، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد تم سحب أعمال فنية من متحف «سولومون غوغيناهيم» في مدينة نيويورك، بعد مطالبة الغاضبين بحقوق الحيوان، حين اعتبروا تلك الأعمال بمنزلة انتهاك لحقوق الحيوان، أما تلك الأعمال «الوحشية»، فتشمل نصباً فنياً باسم Theater of the World للفنان هوانغ يونغ بينغز، وهو عبارة عن قبة مغلقة بداخلها الكثير من الحشرات والزواحف. وخلال العرض، تتزاوج الحيوانات وتلد وتنفق، وحتى يأكل بعضها بعضاً، وفنانة أخرى عالمية تتحدى الجمهور، فتجلس وبجانبها طاولة عليها أدوات حادة ومسدس، وتطلب أن يكون الفن تفاعلياً، فيجرب عليها الجمهور تلك الأدوات بأن يجرحوا يدها بالموس أو يقصوا شعرها، أو حتى يطلقوا عليها النار من المسدس المحشو بالرصاص على الطاولة.
الفنون تحمل خبرات وتجارب الحياة وبأنواعها المختلفة، وهي نتاج إبداعي إنساني، ووسيلة راقية لتعليم الانسان والارتقاء بذوقه وحسه الجمالي، وقيمتها في حياتنا ليست موضع شك أو خلاف، ففي المجتمعات القديمة الكبرى كانت تُـعرف هوية الإنسان من خلال الأشكال الفنية التعبيرية كإنسان، مثل ملابسه وثقافته وممارساته، وينعكس فيها التحام العقائد والقيم والأساطير، فالفنون بتنوعها تساهم في نشأة الأفراد وبلورة المجتمع، وترسيخ القيم والمثل الأخلاقية والأعراف الاجتماعية، كما تساهم في المقاربة مع المجتمعات الأخرى، لهذا يتحتم علينا تكثيف الاهتمام بالفنون التي تعكس أفكارنا لنخطو نحو مجتمع أفضل وأرقى، وتعزيز قيم الجمال والإبداع، فالمجتمع الذي تنمو فيه الفنون والآداب هو مجتمع متطور.
• أكاديمية وفنانة تشكيلية بحرينية