تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الفن الذي لا يموت .. إحياء التراث الثقافي في العالم الحديث

الفن الذي لا يموت .. إحياء التراث الثقافي في العالم الحديث

الفن الذي لا يموت .. إحياء التراث الثقافي في العالم الحديث

 

خالد السلامي

في زمن يتسارع فيه إيقاع الحياة ويتسم بالتغيرات المتلاحقة، يبرز التراث الثقافي كشاهد على عراقة الحضارات الإنسانية وتنوعها. إنه يجسد الفنون والعادات والتقاليد التي تشكل هوية الشعوب وذاكرتها الجماعية على مر العصور. لكن في خضم العولمة الجارفة والتحولات التكنولوجية المتسارعة، يواجه هذا الإرث الثمين تحديات جسيمة تهدد بطمس معالمه وتذويب خصوصيته. فهل ستصمد روائع الفن التقليدي وتستمر في الإلهام، أم ستختفي في زحمة الحداثة وضجيج العولمة؟

التراث الثقافي في مهب العولمة

لا شك أن العولمة، بكل تجلياتها الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، قد أحدثت تغييرات عميقة في نسيج المجتمعات وأنماط العيش. ولم يكن الموروث الثقافي بمنأى عن هذه التأثيرات الجارفة. فمع انتشار الثقافة الاستهلاكية وهيمنة النمط الغربي، باتت الفنون والحرف التقليدية في كثير من البلدان عرضة للتهميش والنسيان.

في بلاد الصين العريقة، على سبيل المثال، تراجعت فنون الأوبرا التقليدية كالكونغ فو والبكين أوبرا أمام زحف الأشكال الترفيهية الحديثة والمسلسلات التلفزيونية الأجنبية. وفي ربوع أمريكا اللاتينية الغنية بالتنوع الثقافي، تكافح رقصات شعبية كالسامبا البرازيلية والتانغو الأرجنتيني للحفاظ على مكانتها وسط انتشار الرقصات العصرية والإيقاعات الغربية. وفي القارة الأفريقية، يتهدد فن النحت التقليدي على الخشب في دول مثل غانا وساحل العاج بسبب ندرة الأخشاب وتراجع الطلب مع تغير الأذواق وأنماط الديكور.

هذه الأمثلة ليست سوى غيض من فيض يعكس المأزق الذي تواجهه التقاليد الفنية الأصيلة في عصر العولمة. لكن السؤال الملح هو: هل سنقف مكتوفي الأيدي أمام اندثار هذا التراث الإنساني الثري، أم سنعمل على إحيائه وصون ألقه؟

حملات الإنقاذ من الاندثار
بعيدًا عن الاستسلام لمصير الاندثار، برزت على الساحة العالمية والمحلية مبادرات طموحة وحملات دؤوبة لحماية التراث الثقافي وإعادة الاعتبار له. فعلى الصعيد الدولي، حشدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) جهودها لإنقاذ المواقع الأثرية والممارسات الثقافية المهددة بالزوال. ومن الأردن إلى كمبوديا ومن مالي إلى بيرو، أدرجت اليونسكو العشرات من المعالم والتقاليد ضمن قائمة التراث العالمي لتأمين حمايتها والحفاظ عليها للأجيال القادمة.

أما على المستوى الوطني والمحلي، فقد تكاثرت المبادرات التي تهدف إلى إحياء الحرف والفنون التقليدية وتشجيع الأجيال الجديدة على تعلمها وتطويرها. في المغرب، على سبيل المثال، أطلقت مؤسسة “رواق الحرف” مشروعًا طموحًا لإعادة الاعتبار إلى فنون الزرابي والخزف والنحاس التقليدية من خلال تدريب الحرفيين الشباب وتسويق منتجاتهم محليًا وعالميًا. وفي اليابان، عملت جمعية “واشي” بلا كلل لإنقاذ فن صناعة الورق اليدوي الذي يعود تاريخه إلى أكثر من ألف عام، وذلك عبر تنظيم ورش تعليمية وبرامج تبادل ثقافي مع دول العالم.

في مصر أيضًا، شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بالتراث الثقافي وجهودًا حثيثة لإحيائه. فقد أطلقت وزارة الثقافة مشروع “إحياء الفنون التراثية” الذي يسعى إلى تدريب الأجيال الشابة على فنون مثل الخيامية والتلي والعرائس وتشجيعهم على الابتكار فيها. كما نظمت الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة مهرجانات للفنون الشعبية والموسيقى التقليدية في مختلف ربوع مصر لتعريف الجمهور بتراثه وتعزيز الشعور بالانتماء والهوية.

التكنولوجيا في خدمة التراث
ومما لا شك فيه أن التطورات التكنولوجية المتسارعة تلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على التراث الثقافي وإتاحته للجميع. فبفضل الأرشفة الرقمية والمتاحف الافتراضية، أصبح بإمكان ملايين البشر، من المحيط إلى الخليج، الاطلاع على كنوز الفن والثقافة بنقرة زر واحدة.

من الأمثلة المميزة في هذا السياق، المتحف الافتراضي “آرت بروجكت” الذي أطلقته شركة غوغل بالتعاون مع أكثر من 1200 متحف حول العالم. يتيح هذا المتحف للزوار التجول داخل أروقة المتاحف العريقة، كاللوفر وبرادو وأوفيزي، والتأمل في روائع الفن من لوحات وتماثيل لأشهر الفنانين عبر التاريخ. كما يوفر معلومات وافية عن سير الفنانين وتقنياتهم ويتيح إمكانية تكبير اللوحات لتفحص أدق تفاصيلها.

ومن الجدير بالذكر أيضًا المشاريع التعليمية المبتكرة التي تسخر تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز لنقل التجربة الثقافية عبر الحدود. من بينها مشروع “ذاكرة الأندلس” الذي طورته شركة إماراتية بالشراكة مع خبراء من إسبانيا والمغرب. يأخذ هذا المشروع المستخدم في رحلة افتراضية ثلاثية الأبعاد عبر تاريخ الحضارة الأندلسية، ويتيح له زيارة رموز معماريـة كقصر الحمراء وجامع قرطبة، والتفاعل مع شخصيات تاريخية كعالم الرياضيات ابن البناء المراكشي وفيلسوف الأندلس ابن رشد. وهكذا، تمنح التكنولوجيا الحديثة للتراث الثقافي أبعادًا جديدة وتعزز انتشاره وتداوله خارج حدوده الجغرافية والزمنية.

تحديات الحاضر ورهانات المستقبل
رغم هذه الجهود والمبادرات المبشرة، تظل الطريق شاقة ومحفوفة بالمنعطفات أمام صون التراث الثقافي. فالتحديات التي تواجه هذا المسعى النبيل متعددة الوجوه ومتشابكة. لعل من أبرزها غياب الدعم المادي والمؤسسي الكافي لإنجاح المشاريع الثقافية وضمان استدامتها. ذلك أن كثيرًا من الدول، لا سيما النامية، تفتقر إلى الإمكانات والبنية التحتية اللازمة لحماية مواردها التراثية وصيانتها. كما أن الأولويات السياسية والاقتصادية الملحة غالبًا ما تنحي الثقافة إلى هامش اهتمامات صناع القرار.

من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال التحديات المرتبطة بتغير أذواق الجماهير في ظل ثقافة العولمة وهيمنة المنتجات الترفيهية الجاهزة. فكيف يمكن للفنون التراثية أن تنافس أفلام هوليوود والمسلسلات التركية وألعاب الفيديو في جذب انتباه الشباب؟ وكيف يمكن للحرف اليدوية أن تصمد أمام سطوة المنتجات الصناعية زهيدة الثمن؟

لمواجهة هذه التحديات المصيرية، لابد من تضافر الجهود على كافة الأصعدة وتكثيف التعاون بين الحكومات والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص. وهنا، يتعين على الدول أن تدرج حماية التراث الثقافي ضمن أولوياتها وأن تخصص الموارد المالية والبشرية اللازمة لرعاية الفنون والحرف التقليدية. كما ينبغي تشجيع البحث العلمي والابتكار في مجال المحافظة على التراث وإحيائه عبر تطوير مناهج وأدوات جديدة وتوظيف التكنولوجيا الرقمية.

لكن لا يمكن للسياسات الحكومية وحدها أن تحقق النجاح المنشود دون انخراط المجتمعات المحلية ووعي الأفراد. لذا، من الضروري العمل على نشر الوعي بأهمية التراث الثقافي وقيمته لدى الأجيال الجديدة من خلال مبادرات تربوية وبرامج توعوية تبسط الفكرة وترسخ الشعور بالانتماء. كما يتعين تشجيع الشباب على اكتشاف الفنون التقليدية والمساهمة في تطويرها وإدماجها في الممارسات الثقافية والاقتصادية المعاصرة. فبإشراك العنصر البشري وتحفيز الرغبة الجماعية، يمكن تجاوز كل العوائق وضمان مستقبل مشرق للموروث الثقافي الإنساني.

خاتمة
في نهاية المطاف، يجسد التراث الثقافي بتجلياته المتنوعة عبر الأزمنة والأمكنة عبقرية الإنسان وإبداعه في أسمى صوره. إنه شاهد على قدرة البشر على الخلق والتجدد، وتعبير عن هويتهم وذاكرتهم المشتركة. ومن ثم، فإن الحفاظ على هذا الإرث الفريد ليس ترفًا أو كماليات، بل ضرورة وجودية لصون إنسانيتنا في مواجهة قوى العولمة والاغتراب.

لذا، يقع على عاتقنا جميعًا مسؤولية حماية هذا التراث وإحيائه وإعادة إنتاجه في سياقات العصر. فلنعمل يدًا بيد لصياغة سياسات ثقافية متكاملة، ولنوظف التكنولوجيا الرقمية في خدمة الفنون التقليدية، ولنشجع الأجيال الناشئة على التشبث بهويتها الثقافية والانفتاح على الآخر في آن معًا. فالتنوع الثقافي هو الثروة الحقيقية للبشرية، وصونه مسؤولية الجميع.

في الختام، دعونا نتذكر أن التراث الثقافي ليس مجرد ذكريات جامدة من الماضي، بل كنز حي ينبض بالحياة والإلهام. فهو يرسم ملامح هويتنا، ويغذي إبداعنا، ويربطنا بجذورنا العميقة. وكما قال الشاعر محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات. على هذه الأرض ما يستحق الحياة: نهاية الليل، بداية النهار”.

فلنجعل من تراثنا الثقافي نبراسًا ينير دروب المستقبل، ولنستلهم منه القيم والحكمة لبناء عالم أكثر جمالًا وإنسانية. فالفن الذي لا يموت هو الفن الذي يتجدد مع كل جيل، ويظل شاهدًا على عظمة الإنسان وأصالته. هكذا، سيبقى تراثنا الثقافي منارة تضيء العتمة، وجسرًا يصل الماضي بالحاضر والمستقبل، ونبعًا لا ينضب من الإلهام والجمال والحكمة.