تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أغنية يمنية في هولندا

أغنية يمنية في هولندا

أغنية يمنية في هولندا

 

صقر الصنيدي
“يجب ألا ندخل من الباب الخطأ” يقول بشر لصديقه وهما يسيران معاً بمحاذاة دراجة هوائية ورصيف تتوزع على ضفتيه أوراق الأشجار التي أوقعتها رياح الخريف عند أطراف مدينة أوتريخت.

“هذا هو الباب” ينتبه بشر أمين وقد عثر على المدخل الصحيح المطابق لما تقوله الدعوة، “يبدو أننا حضرنا مبكرين”. هناك الكثير من الشبان يجلسون متقابلين، وفي الداخل تستعد فرقة فنية للغناء.

يبدأ الفتى بالتدقيق في الوجوه ثم حين رأى ملامح ميزها، هز رفيقه من طرف قميصه “هذا هو”.

إنها المرة الأولى التي يلتقي فيها بشر أمين مع المغني إيال الوهاب. “أتينا للاستماع إليك” يقول الأول، تصافح الاثنان وجرت كلمات قليلة بينهما، لكن عقوداً كثيرة قد سبقت هذا اليوم.

قبل ثمانين سنة، أي في العام 1949، كان الجد الأول لوهاب يغادر اليمن خائفاً عبر مدينة عدن ضمن ما أطلق عليه “بساط الريح” لنقل اليمنيين معتنقي الديانة اليهودية. قال إيال وهو يرتب قطعة قماش يمنية تصل بين كتفيه معرفاً عن نفسه: “أنا مولود في برلين”.

لحظات، وكانت أمتار قليلة تفصل بين بشر والفنان اليمني الذي هربت أسرته من اليمن قبل زمن، ومن بين عشرات الحضور كان بشر، الذي فرّ أيضاً من بلده، يردد معه نفس الأغنية “جو اليمن ثانية”.

آلاف الناس غنوا هذه الأغنية، رددوها وهم هاربون من أجواء بلدهم.

ثمانون سنة وأكثر لم يتغير الحال. هرب جدّ إيال من وطنه، وبعد هذه السنوات كلها فرّ أيضاً الناشط في المجال الإنساني والموظف في منظمة إيطاليا طبية، تاركاً خلفه كل شيء. وها هو في مدينة أوتريخت الهولندية يحصي زملاءه الذين أصبحوا في المعتقل والذين فقد التواصل معهم، لأن مجرد مكالمة من مقيم في المنفى بخائف في الوطن ترقى لتصبح جريمة، ناهيك عن أن يكون عاملاً في المجال الإنساني وله أفكار وقناعات مختلفة عما هو سائد في مجتمعه.

ما يزال الفنان يردد أغنيات عن الوطن الذي لم يسبق له رؤيته إلا من خلال الحكايات التي فرّ بها الآباء الأوائل، ومن بين الحشود يصدح صوت بشر الذي ترافقه نظرات الهولنديين، وهو يردد كلمات يجهلون معناها: “صنعاء اليمن ثانية”. من ذات المدينة، قبل أسابيع فقط، جاء صوت شاحب: “أحد زملائنا مات بالسجن يا بشر”. كان ذلك هو الخبر الأخير في حياة الموظف “هشام الحكيمي”، الذي كان صديقه لزمن قبل أن يفترقا.

قبل أن يصعد إيال إلى المنصة، كان قد أجاب على سؤال عن معنى اسم الفرقة التي أتت لتغني، وبالفعل قال إنه ذات اللفظ “القات”، وهو عشبة يتناولها اليمنيون في جلساتهم اليومية، وتُتهم بأنها تحتوي مواد منشطة ويُمنع دخولها إلى غالبية البلدان.

وحالياً، لا يُمنع القات فقط، بل حددت الدول من استقبال اليمنيين الذين فقدوا موطنهم وتحولوا جميعاً إلى ما كان عليه اليهود اليمنيون الذين ضاقت بهم بلادهم وحثهم جيرانهم على المغادرة.

الفارق أن بشر وجيلاً من المنفيين الجدد لم يحثهم أحد، بل أجبروا على ترك جزء من روحهم والنجاة بما تبقى لهم بعيداً عن السجن الممتلئ بمن لهم وجهة نظر أو نشاط لا يروق لمن يحملون البنادق والأحقاد.

إيال الوهاب، ومعه لوتان ياعش ويفيت حسن، يشكلون فرقة “القات” يعزفون على أدوات قديمة تُستخدم غالباً في طَبخ الوجبات اليمنية، لكنهم جعلوا لها أصواتاً وحرروها من دورها التقليدي، كما تحرروا هم مبكراً مما وقع فيه حالياً جيل واسع من اليمنيين الذين غنوا لوطنهم لكنهم وجدوا أنفسهم موزعين في المنافي في انتظار آمال لم تعد عريضة وتفقد بريقها مع كل يوم يمر بثقل.

حين وجهت منظمة “Welcome to Utrecht”، وهي منظمة مهتمة بدمج القادمين الجدد إلى البلاد، دعوة إلى بشر أمين، لم تكن تعلم أنها تقوم بتوحيد معاناة ممتدة لما يقارب القرن. ومن كان يعرف أن بشر أمين، الهارب من بلاده، سار في طريق مختلف لكنه في الأخير وجد نفسه فجأة يشترك مع من فرّ قبله بعشرات السنين ويرددان معاً ذات الأغنية. لقد جرد الطغاة الشابين من وطنهما لكنهم لم يقدروا على تجريدهما من اللغة المشتركة ومن الأغنية التي رددها الاثنان معاً بفضل بلد وفّر لهما جزءاً من الأمان المفقود.

* مترجم نقلا عن صحيفة Omroep Almere الهولندية