محمد عبدالوكيل جازم
كان الملك “جلجامش” في الأسطورة الشهيرة يعيش حالة من الرعب، فكلما تقدم به السن تذكر بأن الموت سيدركه، لجأ من أجل تبديد مخاوفه إلى الحكماء؛ الذين بدورهم أشاروا عليه بـ”زهرة الخلود”، أخبروه بأن هذه الزهرة لا أحد يستطيع الوصول إليها سوى رجل الغابة “أنكيدو”، الذي عاش مع الوحوش آخذاً من طباعها، رحل أنكيدو بعد أن أنسنته فتاة فائقة الجمال ليرتحل معها أسطورياً في مهمة غريبة ونادرة جداً..
الفن الفوتوغرافي وحده جعل هذه الزهرة متاحة للجميع، والفنانون الفوتوغرافيون وحدهم استطاعوا إدخال البهجة إلى قلوب الملايين؛ فحين يُشاهد الواحد منا صورته مطبوعة على سطح كرت مصقول تأخذه الدهشة، ويعربد بين عينيه الرضا.. ذلك الرضا اللذيذ، الذي يشبع الغرور، ويحقنه بنرجسية لا أحد يدرك ماهيتها..!!
لا أحد يستطيع تفسير ذلك الشعور البهيج، الذي يشع في ملامح هذه الحكاية الغامضة!!
كيف يمكننا أن نفسّر شجن الإنسان إلى رؤية وجهه وقد أصبح إطاراً في الجدار، أو كرتاً في ألبوم، أو ورقة متصلبة على مكتب رئيس تحرير صحيفة خبرية.. أو فيلماً سينمائياً؟
هل يميل الإنسان بطبعه إلى الخلود، أم أنه يريد أن يشغل حيزا من الفراغ، أو مكاناً فارهاً في الذاكرة الجمعية؟
كل ما قلته سابقاً يتفق مع شعور الإنسان الشخصي، فما البال إذا كان الفنان المصوّر يعبّر عن الذات الجمعية.. ما البال إذا كانت الصورة توثق لثورة أُمّة، وترصد تطلعات شعب غاضب في مظاهرة عارمة، وتقتفي أثر المواجهات في ذرواتها كما هي في كاميرات الروّاد: أحمد عمر العبسي، وعبد الرحمن محمد عمر، وعبد الودود محمد عمر وغيرهم ممن جاءوا بعد ذلك.. إن أنكيدو في الأسطورة هو المعادل الموضوعي للفنان الفوتوغرافي، أو ما تعارف الناس على تسميته بالمصوّر..
أما المعادل الموضوعي للفتاة فإنه الوطن، والكاميرا ليست سوى العشبة التي بسببها يتدفق الخلود -كما تقول أسطورة جلجامش.
وأود الإشارة هنا إلى أننا كثيرا ما نُقرأ بأن الفنون التي رافقت الثورة إما شعرا كما قال الشاعر عبدالله البردوني: أفقنا على فجر يوم صبي”، وإما أن تكون قصة كما هي في قصة “الأطفال يشيبون عند الفجر” لمحمد عبدالولي، وإما أن تكون أغنية كما هي عند محمد مرشد ناجي حين قال “أنا الشعب زلزلة عاتية”.
هذه الفنون، التي ذكرتها، تنال كل عام قدراً من الذِكر والدراسة والقراءة، أما الصور التي مهّدت للثورة ورافقتها؛ فلا أحد يحمي حقوقها المادية أو المعنوية، أو -على الأقل- ذِكر صاحبها مصحوباً للصورة..
وبالتالي، تقديم قراءات لها؛ فالكثير من الصور تستحق الإشارة لقدرتها على التعبير، ولما تخزن من أهمية جمالية وتوثيقية. ولعلي أستطيع أن أضرب مثلاً هنا بتلك الصورة، التي التقطتها كاميرا أحمد عمر العبسي، للشهيد الثلايا قبل الإعدام بدقائق، وفيها شموخ الثائر، وثبات الواثق، وشجاعة البطل. يعترضني هنا التكثيف الإبداعي لما أريد توضحه، وقد جاء في أغنية عبدالحليم حافظ: “صورة.. صورة.. صورة / صورة للشعب المنصور تحت الراية المنصورة”.
تُستثنى الصور في أحايين كثيرة، ويهمل دورها ودور جنودها المجهولين الذين عملوا على تثبيت الثورة والجمهورية في كل من صنعاء وعدن أولئك الذين وقفوا خلف متراس الكاميرا جنباً إلى جنب مع المقاتلين والثوار والمتظاهرين..
عبد الودود محمد عمر الفنان، الذي وُلد في 1933م، رحل عن عالمنا في 6 – 9 – 2020 بصمت مطبق، وتم دفنه في مسقط رأسه الحدودي، في ليلة ليلاء توارى فيها حتى قمر السماء؛ خوفاً من رصاصات القناصة.. بسبب وقوع ذلك المسقط النبيل على خط النار.
درس ودود في كُتّاب القرية، وفي صباه، ومطلع شبابه عمل في البناء، ورغم ظروف ولادته في أسرة ريفية بسيطة إلا أنه استطاع أن يشق طريقاً حطّمت المعانة الشديدة، وتجلّى ذلك في اختياره مهنة التصوير كهدف.
في زمن مبكر ظهرت شخصية الحاج ودود.. نعم في زمن الاستعمار البريطاني لعدن، وهو زمن يحمل في أعماقه الكثير بالنسبة لشاب متطلّع إلى منظومة حياة مستقلة لا تعرف الانكسار.
نمت ثقافة ودود في زمن الثورات والتمرّدات، وحركات التحرر من الاستعمار، وكان من أولئك الرجال الذين يمتلكون قدرة عالية على المقاومة، والحقيقة أن مقاومته للاستعمار والإمامة تشكلت ومضت وفق مسارين: مسار الوعي الثقافي الوطني ومسار الفعل الميداني عبر النضال بالبندقية والكاميرا.
عُرف الفوتوغرافي عبدالودود في الزمن الجميل.. زمن الثورات العربية “الرومانسية ” -على حدّ تعبير حازم صاغية، وهو زمن لم يصلنا منه سوى اللونين الأبيض والأسود.
ودود، الذي اتخذ من الشيخ عثمان في عدن مقراً له منذ الخمسينات، كان أحد أعلام اليمن وهذا الفن، ولم يكن تميّزه غريباً؛ لأنه ينحدر من “أسرة رادت هذا الفن في اليمن”، ودافعت عنه حتى الرمق الأخير كأحد الأشكال الإبداعية، التي ناضلت به ضد الإمامة في الشمال والاستعمار في الجنوب، ولا بُد أن يضيف الكُتاب والصحفيون والنّقاد هذا الفن إلى قائمة الفنون، التي اصطفّت مع الثورة والتطوّر والتحديث بمعية الشعر والقص والأغنية.
لنقل إنها ساهمت بفاعلية في دحض البنى السلطوية التقليدية. ولا مناص من القول إنه لا بُد من الالتفات إلى مثل هذه القامات الوطنية الإبداعية التي خلّدت الأرض اليمنية والإنسان اليمنى.
ويجدر بنا أن نشير إلى أن الحاج ودود قامت بينه وبين مدينة عدن روابط ذهنية وعاطفية، وبدافع من هذا التعاطف العقلاني طفق يعبِّر عن حبه لمدينته، التي رزحت تحت الاحتلال البريطاني ١٢٨ عاماً، وحين ناضل الثوار بأرواحهم استل هو بندقيته إلى جوار الكاميرا ليندفع بأكثر من روح إلى المعركة.
إن تسلّحه بثقافة عميقة جعله أكثر شجاعة في فضح ذلك الاستعمار؛ ودكّ حصونه التي كان يتخيّل أنه سيمتلكها إلى الأبد.
من منّا لا يعرف عبدالودود محمد عمر، الذي افتتح بعد عقد من النضال الأستوديو -الذي ما يزال مفتوحاً حتى اليوم- (أستوديو الشعب) عام ١٩٦٠ في الشيخ عثمان؛ ليعبِّر حقا عن الشعب اليمني شمالاً وجنوباً؟ إنه من أُسرة عُرفت -فيما بعد- كظاهرة فنية ووطنية بامتياز..
هذه الأسرة، التي تحولت إلى أيقونة الفداء والشموخ في ذاكرة اليمنيين الجمعية، فإذا تناولت تاريخ عبدالودود مثلاً قفز إلى الذاكرة أحمد عمر العبسي وعبدالرحمن محمد عمر وسلطان أحمد عمر.
من منّا لا يعرف عبدالودود وقد كان ثالث ثلاثة.. هذه حقيقة لا يستطيع أحدٌ أن ينكرها.. وإذا كان هناك من شهادة أقفل بها هذه العجالة، فإنني سوف استشهد بما قاله معروف حداد -رئيس تحرير صحيفة “أكتوبر” السابق- عبدالرحمن محمد عمر وشقيقه الحاج ودود عمر: “كان المناضلون مع رفعهم لبندقية النضال يوثقون تاريخهم بالتصوير الفوتغرافي، وكانوا يلتقطون الصور ليس بالآلات، ولكن بإحساس وعُمق أعينهم ودفئها.. لمعت بينهم أسماء كثيرة؛ سواء حسين بامدهف، أو الحاج ودود، أو ناشر سيف، لكن في مقدمة تلك الكتيبة الإعلامية المقاتلة يبرز اسم المصور الفنان المناضل الشجاع عبدالرحمن محمد عمر.. عمر المناضل والقيادي في جبهة عدن ضمن تنظيم الجبهة القومية”، (14 أكتوبر 2/12/ 1998م ص7).
ويحسب للفنان المثقف ودود الدور البارز في تحويل الأستديو إلى مدرسة لتعليم مهارات التصوير ومكان للعمل الخيري التعاوني والوطني في عدن وخارجها، بالإضافة إلى امتلاكه ثقافة عميقة قادرة على التأثير والتحليل.
أخيراً: لقد كان أستوديو الشعب؛ مثل أستديو أحمد عمر في تعز وأستديو عبدالرحمن في الشيخ عثمان – قبل إغلاقهما- أرشيفا وطنيا للثورات اليمنية، ولو أن هناك دولة تاريخية لعملت على تحويل هذا المكان الضارب في الثقافة اليمنية إلى متحف، فهو آخر قلاع التصوير التي ارتبطت بالنضال الوطني ضد الطغيان الاستعماري والإمامي.
نقلا عن موقع قناة بلقيس