ضحى عبدالرؤوف المل
لا تخلو الحياة من المخاطر أو المعاناة، حتى عبر الأساطير التاريخية السوداوية، حيث يتغيّر كل شيء، من القيم الحسّية إلى القيم المادية. إلّا أن الفنان الياباني «كينتا كونو» (Kenta Konno) استطاع أن يبرز التحدّي للزمن القادم عبر غرائب النحت المُستعصي، حتى على عصر تيار الذكاء الاصطناعي في الفن. وباختصار، تعكس أعماله فلسفات شعوب عديدة من خلال الالتفاف على الوجه عبر الجسد، مُظهراً الديستوبيا الأخلاقية في نحت تتناقص فيه رؤية الإنسان في حضارات حديثة، لم تختفِ فيها مخاوف الإنسان القديم حتى الآن. إذ تمثل الديستوبيا في النحت فرصة لإعادة التفكير في معاني الحياة، وتحدّي المفاهيم التقليدية، مما يجعلها جزءاً أساسياً من الحوار الفني المعاصر.
فالإزدواجية بين الحجر والقش في أعماله تمثل حقيقتين متعارضتين بين مفهومين: الحديث والقديم، والتناقض في المادة التعبيرية التي تؤدي إلى تجسيد مراحل الألم والقلق في الحياة. تتجلّى التغيّرات التي ناضل فيها الإنسان كثيراً، وخسر فيها الكثير من المعاني كالفضيلة والخير وجمال البقاء وقوة الاستمرار، بجمال لا سوء فيه، إلّا أن اللامبالين في الحياة هم طبقة تختلف عن اليد العاملة أو الكادحة. وربما تعيدنا أعمال الفنان كينتا كونو إلى معنى القبح والجمال والاستعباد والتحرّر، والاضطرابات النفسية التي يعاني منها كلا الطرفين: الارستقراطي والعامل، كل تبعاً لمسيرة حياته.
فهو لم يجازف في نحته المتناقض من مادتين، إحداهما قاسية والأخرى هشّة، ولكنه منح للمعنى ديستوبيا تهيمن على العصور السابقة وما هو آتٍ، بجمالية النحت المرتبط بمصطلحات الجسد الإنساني المتألم والضعيف، والجميل والقبيح، والبؤس والنعيم، والمثالية والفساد، وما إلى ذلك من معاني تأخذنا إليها منحوتاته ذات الاتجاهين المختلفين دون الابتعاد عن مرحلة الإنسان المتمسّك برؤية وجوده المادي.
فهل يحاول كينتا نفي ما يمكن أن يتوصل إليه الذكاء الاصطناعي من تغيير في الإنسان؟ أم أنه يواجه المخاوف من التهديد للوجود البشري الذي يهدّده التقدم التكنولوجي القادر على إجراء عدة تغييرات على الإنسان؟
يهتم كينتا بالمقاييس والمعايير النحتية والفنية، سواء من حيث صلابة المادة أو هشاشتها، مع الاهتمام بالأبعاد والتغيّرات التي تحدث مع المتلقّي عند النظر إلى منحوتاته، التي تتغيّر تبعاً من النقطة التي ينظر إليها. فالتعدد في الأبعاد هو الذي يترجم الديستوبيا في منحوتاته، ومخاوفه من عصر آتٍ وعصور أخرى جاءت وزادت من هموم الإنسان ومخاوفه، ولم يستطع مقاومة ما يجب. لذا يشعر المتلقي من خلال أعماله أنه سيبحث عن الإنسان الخارق الغارق في مقاومة وجوده على قيد الحياة، بشكل منهجي متسلسل من الإنسان الحجري في الكهوف إلى الإنسان الأرستقراطي الهش المرتبط بتقنيات الحضارة وعظمتها.
فهل المستقبل يشكّل ديستوبيا فعلية باسم العلم والتكنولوجيا التي لا تقلّ شأناً عن الإنسان القديم وهمومه من الاستعباد؟ وهل القبح الملحوظ في الجسد المتضخم هو تضخم وحشي لحضارات ما زالت تعاني من المعنى القديم نفسه؟
اندماج بين رؤيتين وبثنائية التناقض الذي يتمسّك به الفنان كينتا كونو، يُظهر التردد الوجودي للشكل المتغيّر على مرّ الزمن، والذي أصبح فيه الإنسان أشبه بالوحش الذي يستفيد من التغيّرات الطارئة على البشرية. فاستخدامه للقش والحجر معاً والتحوّلات المرتبطة بالمادتين، هي تجسيد لحركة الجسد في المنحوتة، ولحركة الزمن حسّياً، والتفاعلات الأخرى التي تؤدي إلى الدوران حول منحوتاته لاكتشاف أسرارها أكثر. فهل يحاول أن يتحدّى الوحش الساكن في هواجس كل منا بفن النحت، أم أنه يستنكر ما وصل إليه الإنسان عبر زمنه منذ خلقه حتى الآن، ولم يستطع التحرر من تشوّهه الذي استعبد نفسه به؟ وهل جمالية منحوتاته تدفعك للبحث عن معنى الديستوبيا في الفن؟
يمثل كينتا كونو تجربة فريدة في مجال النحت العصري، حيث يدمج بين الجسد البشري والفضاء المادي المحيط بطريقة مثيرة للتفكير. إن استخدامه لمواد متناقضة مثل الحجر والقش لا يُضفي بُعداً جماليًّا فحسب، بل يفتح أيضاً باباً لتأمّل عميق حول العلاقة بين المادة والروح. تتشكّل منحوتاته كأنها دعوة للمتلقّي لاستكشاف الفضاء الشخصي الذي يعيش فيه، حيث يمتزج الألم والجمال بشكل يجعل الناظر يتساءل عن معنى وجوده.
عبر اللعب بالأبعاد، يشجّع كينو المتلقّي على استكشاف تفاعلات متعددة، حيث يعكس كل زاوية من زوايا منحوتاته قصة مختلفة، وكأنها رحلة عبر الزمن تُظهر التطورات الإنسانية. وهذا التفاعل لا يقتصر فقط على البصر، بل يشمل كل الحواس، مما يعكس شعوراً بالانتماء إلى ما هو إنساني. فمن خلال هذه العلاقة المتشابكة بين الجسد والفضاء، يسعى كينتا كونو إلى تحفيز التفكير النقدي حول هويتنا في عصر التكنولوجيا المتسارعة. هل لا تزال المعاني التقليدية للجمال والقبح قائمة، أم أننا نعيش في زمن جديد يتطلب إعادة تقييم تلك المفاهيم؟ هنا تكمن قوة أعماله، حيث تشكّل نافذة لرؤية ما وراء السطح، وتفتح لنا آفاقاً جديدة لفهم الإنسان والمكان الذي يحتله في العالم. إن تجربة المشاهدة لمنحوتاته تتجاوز الجمالية البصرية، حيث تدفع المتلقّي إلى الانغماس في المشاعر والأفكار التي تحملها الأعمال. في هذا السياق، يتحوّل النحت إلى منصة للتأمّل في مصير الإنسان وتطلّعاته، مما يمنح الديستوبيا عمقاً إنسانياً يتجاوز التصورات السطحية.