بلغت الدراما التاريخية المنتجة عربيًا ذروتها في مسلسل ربيع قرطبة، الذي أنتج في عام 2003، وهو من تأليف وسيناريو وحوار د. وليد سيف، وإخراج حاتم علي.
ومسلسل ربيع قرطبة تدور أحداثه في الأندلس، خلال القرن العاشر الميلادي، وفي الفترة الذهبية للحكم العربي، والبطولة الرئيسية في المسلسل كانت من نصيب شخصية يمانية ذائعة الصيت، ألا وهي محمد بن أبي عامر المعافري (938-1002م)، المعروف بلقب الملك المنصور.
فاز مسلسل ربيع قرطبة بالجائزة الذهبية كأفضل مسلسل تاريخي وجائزة أفضل سيناريو من مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون في عام 2005.
ثلاثون حلقة من الإبداع المبهر، والبراعة في الإخراج والتمثيل والتصوير، والتدقيق في التفاصيل مهما صغر شأنها لكي تنجح الكاميرا في نقلنا إلى تلك الحقبة التاريخية.
تميز هذا المسلسل بالتكوين البصري البديع؛ كل لقطة هي لوحة فنية زاهية الألوان وغنية بالديكورات والإكسسوارات التي تؤدي كلها غرضًا وظيفيًا يُعزز البناء الدرامي، فيتمتع المُشاهد بجمال بصري يواكب المَشاهد التي يعرضها المسلسل.
يعلم كُتاب الدراما أن الحوار هو أضعف عناصر السيناريو، والدراما هي بالأساس فن الصورة، وأما الحوار فهو دخيل عليها، ولذلك نلاحظ أنه لا توجد في المهرجانات الدولية جائزة خاصة بالحوار، ولكن لكل قاعدة استثناء، وسيناريو مسلسل ربيع قرطبة هو هذا الاستثناء، فقد نجح السيناريست وليد سيف -وهو فلسطيني- في تحويل عنصر الحوار في المسلسل من معدن رخيص إلى ذهب خالص، وارتقى بالحوار الدرامي إلى ذروة فنية عالية غير مسبوقة.
ورغم مهارة د. وليد سيف في كتابة الحوارات فإنه لم يسرف في استخدام هذه الميزة، وكان يُعطي الأفضلية للكاميرا لتعبر عن الأغراض الدرامية التي يريدها، وأتت بعض المشاهد خالية من الحوار تمامًا، واكتفى بفصاحة الصورة عن فصاحة القول، فحقق التوازن الدقيق بين عنصري الصورة والحوار، وهكذا متى ما وجد أن المشهد مكتمل بصريًا استغنى عن الحوار أو اكتفى بأقل قدر منه. وهذا على عكس ما نشاهده في معظم المسلسلات الدرامية العربية والأجنبية التي تتعمد الإسهاب في الحوارات بغرض مطّ الحلقات، ولو أدى ذلك إلى تلويث المشاهدين بقمامة سمعية ضارة بأدمغتهم.
حوارات د. وليد سيف في مسلسل ربيع قرطبة تشحذ ذهن المشاهد، وتوقظه من سباته وتدعوه للتدبر في إسقاطات المسلسل على واقعه الحاضر، ومقاربة التلميحات الذكية إلى مجريات السياسة في بلده.. كل هذا الفكر الراقي والموقف الأخلاقي من رداءة أساليب السياسي نجده في المسلسل دون أن يثير حفيظة الرقيب في أيّ بلد عربي، وهذا نجاح عظيم أن يتم تغليف رسالة في منتهى الجدية في قالب درامي يبدو بريئًا في ظاهره.
بناء السيناريو محكم، ويُفتتح المسلسل بمشاهد سريعة الإيقاع، مغلفة بالغموض والتشويق، تدوم بضعة ثوانٍ لا أكثر، من ضمنها مشاهد فلاش باك تُرينا المطاردة والقتل فترفع درجة التوتر، ثم تعليق صوتي يشرح ما رأيناه سابقًا، ويظهر تاريخ (347ه- 958م) مكتوبًا على الشاشة ليضعنا في حاضر تلك اللحظة التاريخية.
الخمس الحلقات الأولى -التأسيسية- قدمت لنا صورة واضحة عن الصراع السياسي والعسكري في شبه الجزيرة الايبيرية، ومؤشرات عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الأندلس، وهي (الفرشة) الضرورية التي تسبق مرحلة نشوب الصراع بين الشخصيات، وهي مهمة ثقيلة وعسيرة لمن جرب كتابة سيناريو الدراما التاريخية، على أن المشاهد قد لا يستمتع كثيرًا بهذه الإرهاصات الدرامية الفاترة، وقد يظن البعض أنه لا لزوم لها، لكن من الناحية الفنية هذه المشاهد السريعة الإيقاع، الغزيرة في مادتها البصرية، تهدف إلى تهيئة المشاهد للدخول بسلاسة وتدرج محسوب إلى العوالم التي يقدمها العمل الدرامي.
السيناريو يتبع التقسيم الكلاسيكي: البداية، الوسط، النهاية. وكل قسم يتكون من وحدتين تقريبًا، فيكون المجموع ست وحدات، وكل وحدة تشكل مرحلة من مراحل التطور الدرامي.
وكما أسلفنا فإن الحلقات الخمس الأولى هي التأسيسية التي تلقي نظرة شاملة على المجتمع الأندلسي في أزهى عصوره، وتليها خمس حلقات تحبس الأنفاس ونحن نتابع البطل محمد بن أبي عامر المعافري وهو يتأهب للوثوب إلى بلوغ أهدافه، ويبحث عن منفذ ينفذ منه إلى القصر.
وفي الحلقات الوسطى (11-20) نرى رحلة صعود البطل من الحضيض إلى القمة، وكيف تجاوز منافسيه وأزاحهم من طريقه حتى صار أقرب شخص إلى الحاكم وموضع ثقته.
وفي الجزء الثالث الممتد من الحلقات 21-30 تمر شخصية البطل بالتحولات التراجيدية؛ من شخص طيب إلى شخص قاسٍ بارد لا يقيم اعتبارًا لأحد، وهذا التحول يحدث بالتدريج لا فجأة، فكأنه تطور بديهي لشخصية إنسان مغمور أتى من الريف ثم توصل بذكائه ومواهبه إلى أن يكون صاحب أعلى سلطة في الدولة.. ومن الحلقة 25 فصاعدًا يتفاقم هذا التطور السلبي في شخصية البطل، ونشعر بالأسى لأجله، وندرك أن السلطة المطلقة بلا قيود هي مفسدة، وأنها ستؤدي حتمًا إلى خلق وحش-ديكتاتور يقضي على جميع من حوله في أول بادرة خلاف تنشب، أو حتى لمن يبدي رأيًا لا يعجبه.
في الحلقة الأخيرة يمر البطل بتحول جديد: يحاول إصلاح أخطائه، والتراجع عن الاستبداد والخيلاء والعجرفة والغطرسة.. ويبدو هذا التحول الأخير معزيًا للمشاهدين بعد أن خاب أملهم في البطل الذي توحدوا معه ورأوا فيه نموذجًا للإنسان العصامي الناجح.
يتوصل د. وليد سيف إلى خلاصة مفادها أن محمد بن أبي عامر المعافري الذي تولى الوصاية على الخليفة هشام المؤيد بالله، هو السبب في تضعضع الحكم العربي الإسلامي في إسبانيا، وضياع أقوى مملكة عربية قامت في أوروبا، وهي الدولة الأموية، ولكن منذ ظهوره على المسرح السياسي بدأ الانحدار التدريجي للوجود العربي الإسلامي في إسبانيا.
قد يبدو د. وليد سيف متحاملًا على صاحبنا اليماني المعافري، خصوصًا أنه يحمله وزر هدم أسس الدولة الأموية، ولكن تظل هذه هي وجهة نظره، وهي وجهة نظر استنتجها على ما يبدو من قراءاته المكثفة عن تاريخ تلك الحقبة الزمنية.
وكما نعلم فإن الدراما ملزمة بتحري الدقة التاريخية، ولكنها ليست ملزمة بتحري الصواب التاريخي ونتائجه السياسية البعيدة المدى، ولذلك يمكنها أن تقدم إجابات مختلفة.
إذا رجعنا إلى المصادر التاريخية الموثوقة، نجد صورة مختلفة عن محمد أبي عامر المعافري، فهو يوصف بأنه أقوى ملوك الأندلس، الذي خاض 54 معركة انتصر فيها جميعًا، وفي عهده اتسعت رقعة الدولة العربية في الأندلس إلى أقصى حدود لها، وكان يقود هذه المعارك بنفسه، فهو بطل بكل ما تعنيه الكلمة، ومقاتلٌ صنديد لم يأتِ قبله ولا بعده نظير له.
ربما في زمن قادم ينتبه صناع الدراما اليمنيون إلى هذا البطل اليماني الذي سطع نجمه بقوة في سماء الأندلس، ويتم إنتاج مسلسل تاريخي عنه، ويومئذ قد نشهد عملًا دراميًا برؤية فنية تقدم إجابة عادلة أقرب إلى الحقائق التاريخية.
لا يحتاج المخرج حاتم علي (1962-2020) إلى التقريظ، فهو بإجماع أهل الفن واحد من أفضل المخرجين العرب، ومسلسل ربيع قرطبة يشهد له بعبقريته الإخراجية النادرة.
قام بدور محمد بن أبي عامر الممثل تيم حسن، وكان إتقانه للدور وتقمص الشخصية مثيرًا للإعجاب ويستحق أن نصفق له بحماس. وأما الممثل جمال سليمان الذي لعب دور أمير المؤمنين (الحكم المستنصر) فقدم أداءً خرافيًا، يرتقي به إلى مصاف جهابذة التمثيل في العالم.
نقلا عن صحيفة “اليمني الأمريكي”