تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » حسين مُحب.. صلة وصل بين زمنين

حسين مُحب.. صلة وصل بين زمنين

حسين مُحب.. صلة وصل بين زمنين



مصطفى راجخ
في أعماق الفنان حسين محب روح طربية شجية تتناغم مع إيقاعات الذات اليمنية التي أبدعت هذا التراث الغنائي الفريد والمتنوع. صوت شجي مشبع بشحنة هائلة من إيحاءات عميقة تعيد ضبط وجدان المستمع مع روح اليمن الجمعية الساكنة في أعماقه.

غناء مصقول يعكس طاقة فنان كبير دربته الحياة على إمكانية صهر التراثيات الغنائية اليمنية في وجدانه، وإعادة تقديمها بموصلات ذوقية جديدة تصل لمستمع شاب في زمن مختلف.

صوت حسين محب يتمتع بفرادة تميّزه عن كثير من الأصوات اليمنية التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين. صوت قوي ودافئ، مصقول وشجي، لا يصرخ ولا يتكلف. فيه صدق لا يُمثّل، كأنه ليس أداءً بل حالة طبيعية، مشبعة برنين عوده وعمق إحساسه.

يمتلك صوته قدرة نادرة: يحملك إلى زمن بعيد دون أن يبدو خارج الزمن. وهذه الخصوصية تجعله صلة وصل بين زمنين، يتجدد فيهما وعي اليمني بذاته من خلال الفن.
صوت قوي وطروب، يمكنه من ربط ذوق عصره بموروث تراث بلده الغنائي.

تلك الوصلات الشجية تتيح لذائقة جديدة أن تصغي لأعماق وجدانها في التراث وأن تكوِّن صداقة حميمية معه، دون أن تقطع صلتها بعالمها الراهن.

أداءه يظهر براعة في التحكم بالنغمة واللحن. يمدّ الحرف حيث ينبغي، ويكسر الجملة اللحنية بأناقة حين يتطلب الإحساس ذلك. يعرف اللحظة التي يضع فيها بصمته، دون أن يخلّ بإيقاع الأغنية أو هيكلها.

لا يستعرض صوته، بل ينساب مع الكلمات بانسجام، كما لو كان جزءاً من تكوينها. وهذه الانسيابية في الأداء لا تأتي إلا لمن تشبّع بالشعر والغناء مبكراً، لدرجة يغدو فيها صوته امتداداً طبيعياً لهما.

– مواجهة الجمهور والأغنية الأولى للفنان

في أول ظهور له في 2004، واجه الفنان حسين محب الجمهور مباشرةً. فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة والكاسيتات، كانتا بوابتيه في إطلالته الأولى، ومنها عُزفت نغمته وتعرف الناس على صوته وإيقاع روحه المنجذبة للغناء منذ أن تفتح وعيه وإحساسه بالحياة من حوله.

هذا ملمح أساسي في تشكله كفنان.
أتذكر الفنان محمد مرشد ناجي في مقابلة تلفزيونية مع مايسة ردمان وهو يكرر التأكيد على أهمية هذا الجانب بالذات في حياة الفنانين الشباب:

“كُنا نواجه الجمهور. ثلاث حفلات في الأسبوع للفنانين الثلاثة؛ المرشدي ومحمد سعد عبدالله وأحمد قاسم.”

نشأ حسين محب في بيئة فنية تهوى الفن وتجذبها أجواؤه ورموزه وجلساته. هذا التشبع في الطفولة، كان النسغ الأول لموهبة تصغي لكل ما حولها.

خرج في أول ظهور له من مقيل أبيه الأشبه بمنتدى فني إلى خشبة المسرح في فعالية جماهيرية، دون شيء يسنده سوى موهبته ونقاء روحه المتلهفة لوضع أول قدم لها في عالم الفن.
بيئة صنعاء عاصمة الثقافة كانت ملائمة لموهبة غنائية في أولى خطواتها للوقوف في عالمها الجديد.

– الموهبة والصوت الجميل ليست كل شيء

شخصية الفنان هي الأغنية الأولى للفنان، مثلما هي اللوحة الأولى للرسام، والرواية الأولى للروائي، والقصيدة الأولى للشاعر.
كان هاشم علي، وهو معلم حياة لا فحسب فنان تشكيلي، يؤكد على هذه بالذات: شخصية الفنان.

حسين محب يمتلك هذا التأسيس السابق لكل فن: شخصية شغوفة بالفن، لكنها لم تقارب الغناء كشيء خارج تكوينها، ومنفصل عن ما يمور فيها من حُلم وإحساس بالحياة وتصور لمهمتها فيها.

تكوين أولي نفسي ووجداني وقيمي كهذا، هو ما يحمي الفنان لاحقاً من إبهار الشهرة واستلابات الحياة العملية، ويمكنه من الاحتفاظ بموهبته وحمايتها من الذبول. أساس ذاتي يساعده في صقل إحساسه وتطوير أداءاته، والذهاب بعيداً في رحلته كفنان.

النفسية والذهن والنظرة والاختيارات والتوجهات أهم بكثير من التصور الرائج عنها كهوامش جانبية. بإمكانها أن تفسد صوتاً جميلاً، وتُجَمِّل صوتاً متوسطاً وتجعله جميلاً وآسراً.

وحسين محب يثبت كل يوم أنه يدرك جيداً ما يحوزه من موهبة وما تتطلبه هذه الموهبة من نمط حياة يتشكل حولها وعلى أساسها، لا أن يكتمها ويحولها إلى تابع هامشي.

تلحظ بوضوح أنه فنان محتفظ بكامل لياقته. نظامه الطاقي الحيوي يبدو بكامل عافيته. هذا واضح في صوته وأدائه بعد عقدين من ولادته كفنان.

الصوت والأداء ليسا هبة مطلقة وثابتة. نعرف فنانين كانت أصواتهم فاتنة في البدايات، ولم تمضِ سوى سنوات قليلة، حتى إنك لن تصدق أن الصوت هو للفنان نفسه الذي امتلك إحساسك ذات يوم.

صوت حسين محب لا يزال بكامل رنّته المغناطيسية. قدرته على الطلعات والنزلات، والإمساك بمقود إحساسه الداخلي متناغماً مع أوتار العود وتناسق الآلات الموسيقية من حوله.
جاهزية طاقية كهذه مهمة لفنان لا يزال يعد بالكثير، ويستكشف أفقاً أوسع لموهبته.

– صوت تتكثف فيه نغمة التراث الغنائي اليمني

شبه الفنان محمد مرشد ناجي التراث الغنائي اليمني بالراية التي يسلمها كل جيل للجيل الذي يليه عبر تاريخ اليمن المديد.
أغلب الأغاني التراثية التي أداها جيل الفنانين في النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك الجيل الذي جاء بعد الثورة في الستينات؛ لم تكن كلها أغانٍ جديدة، ولكن تم إحياؤها وتقديمها للجمهور بأداءات جديدة.

الفنان حسين محب، نموذج للفنان الشاب الذي يحترم التراث الغنائي، ويؤديه بإتقان، بل ويضيف إليه بحسه الذي يعبّر عن “الذوق” الذي يتسم به الجيل الذي ينتمي إليه “ما بعد الألفية الثانية”.

تجربته في الغناء التراثي اليمني، سواءً أغاني الفنان الحارثي أو غيرها، نموذج لهذا التفاعل والتمازج بين صوت شاب ونغمات تراثية تمثل وجدان الأمة اليمنية، أبدعتها أجيال من اليمنيين خلال مئات السنين.

هو قدّم نفسه من خلال أغاني التراث اليمني، ولكنه أيضاً قدّم هذا التراث، وقدم الفنان الحارثي تحديداً لجيل شاب لم يكن قد عرف الحارثي، وهام به، كما حدث بعد ظهور حسين محب.

أسهم بصوته وبأداءاته الإبداعية في منح الجيل الجديد مفتاحاً يلائمه للدخول في عالم الطرب اليمني الأصيل؛ غناء فخم ومتين، يتسم بقوة الأداء، “الحارثي أنموذجاً”، وأغاني التراث عموماً.

حسين محب ليس مُقلِّداً. هو غنّى من التراث اليمني، وهذا لا يُعد نقيصة هنا؛ إذ إن معظم أغاني الجيل الأول نفسه “1920-1960” كانت ألحاناً وكلمات مأخوذة من تراث غنائي يمني يمتد لمئات السنين قبلهم.

تجربته مع التراث أثبتت أن خامة الجيل الجديد من الفنانين الشباب، جيله تحديداً، من الفنانين والفنانات الذين تجاوزوا الأعراس وأجواءها المنفوخة بالقات، وظهر كثير منهم خارج اليمن في سنوات الحرب والشتات، لا تقل عن الأجيال السابقة، وبإمكانها أن تضيف الكثير، عندما تجد أفقاً يستوعبها ويمنحها فرصة الانطلاق.

حسين محب له نكهة خاصة في غناء التراث اليمني تضعه في مقام رفيع.
في صوته مذاق خاص يجعل حضوره في غناء التراث، مقاماً غير قابل للإزاحة والنسيان.

– المقابلة التي غنّى فيها صوته الداخلي

لا تقرأ عنوان المقابلة قبل أن تشاهدها. قبل أيام، قرأت عنواناً فرعياً لمقابلة حسين محب في بودكاست أسامة عادل: “نصحت أولادي بالابتعاد عن الفن!”
كان العنوان صادماً، لا يشبه مضمون المقابلة، بل يكاد يهدمه.
تذكرت تصريحاً مشابهاً، انتُزع من سياقه ومناسبته، للفنان حمود السمة، حين قال ذات مرة إنه لو عاد به الزمن لما اختار الفن، ولن يشجع أبناءه عليه. وبين هذا العنوان وذاك التصريح، تسلل إلى ذهني انطباع متشائم عن مستقبل الفن في وعي فنانينا الشباب أنفسهم.
وزاد من هذا الانطباع منشور لأحد الأصدقاء، التقط نفس العبارة من المقابلة وأعاد تدويرها بنفس التفسير.

بعد أيام من العنوان، شاهدت المقابلة. فكانت صدمة معاكسة.
لم تكن مجرد مقابلة؛ كانت لحظة توهّج داخلي لفنان نقيّ، عبّر عن نفسه بوضوح ورصانة. تجلّت شخصية حسين محب على نحوٍ يضاهي فرادة صوته وغنائه. بدا ناضجاً، تلقائياً، عميقاً، ممتناً لتجربته، مستوعباً لمسار حياته، وموقناً بقيمة الموهبة التي رعاها فيه والده، الذي كان بالنسبة له المُعلّم والمُلهم.

مقابلة قدمت حسين محب كما لم يحدث من قبل. لأقل إنها نجحت في تقديم شخصيته، وأظهر فيها فرادة ذاتية تتطابق مع فرادة صوته وغنائه الجميل.

كان اللقاء مساحة لتأمل مسيرته: تجلّى فيه ليظهر لنا جمال شخصيته وأصالته الذاتية والمنابع الأولى التي أثرت فيه وألهمته وعززت موهبته واختياره للفن. علاقته بالفنانين؛ أحمد الحبيشي، إيهاب تركي، وفؤاد الكبسي. تجاربه الأولى، وتجربته مع الغربة كخيار فني.

لا شيء فيه يُشير إلى ندم أو تنكر للفن، بل كان يُعبّر عن رغبته في أن يحظى أبناؤه بتأهيل حقيقي قبل الدخول إلى هذا العالم، كما أراد له والده من قبل.

أهم ما في المقابلة كان تبجيله لوالده الذي غرس حب الفن في نفسه وشجعه عليه، وكان حريصاً على أن يكون اختيار ابنه للفن متسماً بالإخلاص لمعانيه وقواعد إجادته، ومتحرراً من الاستخفاف به، أو استسهال أدائه في جلسة أو عرس أو أمام جمهور أوسع، قبل أن يكمل الفنان الشاب تأهيله ويثبت أنه يستحق أن يكون فناناً.ما قاله كان وفاءً للفن لا تنكّراً له.
أبان عن شخصية أصيلة تنطوي على نقاء داخلي يفيض من نبرة صوته في كل كلمة نطق بها.

– الخروج من اليمن: بين فرصة الانتشار ووعي الاختيار

ظهور حسين محب خارج اليمن ليس مجرد انتقال جغرافي أو اتساع في رقعة حضوره، بل نقلة فنية تحمله مسؤولية مزدوجة:
تقديم التراث الغنائي اليمني بوصفه تراثاً نابضاً بالحياة، والقيام بذلك بأداءات تحفظ للتراث نغمته الأصلية وتمنحه، في الوقت ذاته، ملمحاً تجديدياً للتواصل مع ذائقة جيل جديد في بيئات مختلفة.

وجوده في المهرجانات والفعاليات الخليجية والعربية والأجنبية ينبغي أن يُنظر إليه كفرصة لتجربة جديدة يقدم فيها الغناء التراثي عبر صيغ مدروسة تمزج العود اليمني بجماليات التوزيع الحديث، دون أن تفقده ملامحه أو تفقد المستمع إحساسه بالهوية المعبر عنها بهذا التراث الغنائي. وهذا يتطلب وعياً بالمهمة، لا الاكتفاء بنشوة الظهور.

في المقابل، تطرح هذه المرحلة من حياته الفنية تحدياً لا يقل أهمية: تفادي الاستهلاك السريع في أغاني الفيديو كليب التي لا تضيف شيئاً إلى صوت الفنان ولا إلى تجربته. فالكثير من الأصوات الشابة الموهوبة ظهرت ثم اختفت، لا لضعفها، بل لأنها انزلقت مبكراً في دوامة الإنتاج السهل والإطلالات المتكررة التي تفتقد القيمة.
حضورهم في الفضائيات صار أشبه بالغياب، بل أعمق منه، لأنه فقد أثره حتى وهو على الشاشة.

ما يحتاجه حسين محب اليوم هو أن ينظر لتجارب من سبقوه ممن حافظوا على أصواتهم ورسالتهم رغم اتساع حضورهم:
أبو بكر سالم، أحمد فتحي، عبد الرب إدريس، محمد عبده، عبد الله الرويشد، عبد المجيد عبد الله، وعبد الكريم عبد القادر.
فهؤلاء لم ينخرطوا في طوفان الانتشار على حساب العمق، بل صنعوا لأنفسهم مساراً فنياً خاصاً، بقي الفنان خلاله محتفظاً بشخصيّته وطابعه الخاص في كل مراحل تطوره الفني، رغم تغيرات الزمن والتطورات التقنية في زمن الفضائيات والرقميات.

الفنان الحقيقي لا تُقاس أهميته بعدد الأغاني التي يسجلها، بل بقدر ما تتركه أغنية واحدة من أثر لا يُنسى. وهذا ما يُنتظر من حسين محب في رحلته الجديدة.


نقلا عن موقع ” بلقيس “