فريد الزاهي*
إذا كان الأدب والفكر يتقاسمان مع نقدهما وتحليلهما وتأويلهما اللغةَ التي يتم بها التواصل والتفاعل بينهما، وعلى الرغم من الاختلاف في المقاصد والفحوى، فإن ما يجمع بين النقد الفني والجماليات وفلسفة الفن والفنون البصرية عمومًا أقل بكثير مما يفرق بينها. وعلى هذا الاختلاف البيّن تنبني العلاقة وتبتكِر بشكل مستمر خصوبتها الفكرية والتحليلية والثقافية. وعليه تقوم “الانحرافات” وعمليات التبسيط والاختزال التي تحول العمل الفني والبصري إلى نص أدبي، مُخضعة إياه إلى الأنظمة الإشارية والرمزية للإبداع اللغوي. والحال أننا حين نتحدث عن لغات الفن ومعجمه ونحْوِه وبلاغته(1)، فإن ذلك يكون فقط من باب المجاز لا من باب الحقيقة.
عوالم الفن والمغامرة المفتوحة
لكي نبني تصورًا نقديًا جديدًا يكون من اللازم إعادة تحديد مجموعة من المفاهيم ومن الثنائيات المتداولة، ومن ثم مساءلة “تاريخ” نقد الفن في عالمنا العربي. ومن هذا المنظور سوف نبدأ بالقول بأن نقد الفن أو ما يسمى عادة “النقد الفني” (والفرق الدلالي شاسع بين الاثنين) لا يمكن اختزاله في نقد اللوحات الفنية أو الفنون البصرية الجديدة من منشآت installations أو منجزات performance، (2) أو الفيديو آرت أو الفن الرقمي أو غيره، وإنما هو نقد شامل، يشمل الموسيقى والرقص والسينما. يؤخذ “نقد الفن” لدينا، عمومًا وعرفيًا كممارسة نقدية تهتم بالفنون التشكيلية والبصرية، وهو أمر لا يتطابق مع صفحات الجرائد والمجلات المخصصة لفنون الغناء والرقص والسينما والتلفزيون. إن هذا الشرخ يجعل من مفهوم نقد الفن كما هو متداول في الثقافة العربية مفهومًا مفارقًا لتداوله العام و”الشعبي”. ولذا يكون اللجوء إلى مفهوم النقد التشكيلي أمرًا ضروريًا للتمييز بين الفنون من جهة ولمنح هوية مفهومية للنقد الذي يُمارس على مجال الفن التشكيلي والبصري من ناحية أخرى.
ويبدو لنا أن التمييز بين النقد الأدبي والنقد الفني وإن بدا أمرًا بديهيًا فهو في عمق الممارسة لا يفصح عن نفسه كذلك. فتاريخ النقد الأدبي عريق أما تاريخ نقد الفن فمحدث، إن لم نقل إنه لا يزال في مرحلة التأسيس والتقعيد. ولا أدل على ذلك من أن عدد نقاد الأدب في العالم العربي، خاصة مع توسع التعليم الجامعي، أضحى يجاوز عدد الأدباء، فيما أن نقاد الفن قليلون ونادرون مقارنة مع عدد الفنانين الممارسين للتشكيل وللفنون البصرية المعاصرة. وإذا كانت الجسور بين النقد الأدبي والنقد الفني تظل ممدودة خاصة في مراحل التأسيس كما هو الأمر في أمريكا اللاتينية(3) وقبلها بأوروبا، فإن دور الأدباء والشعراء كان حاسمًا في الانفتاح على مجال صار يتوطّن ويأخذ موقعه في الساحة الثقافية العربية، بحيث إن هذا التفاعل سيؤدي إلى أصل ولادة نقاد متخصصين في الفن البصري. ومع أن أغلب هذه النقود كانت عبارة عن انطباعات إلا أنها كانت كافية لمنح القيمة للفن ولتثمين وجوده وتعضيد حضوره الثقافي. بيد أن هذه الإرهاصات قد أسست للفصل بين نقد الأدب ونقد الفن وساهمت بشكل واضح في ولادة ممارسة نقدية جديدة سوف تتوطد بالتدريج وتعمق هويتها وخصوصيتها لدينا في العالم العربي أيضا، من غير أن تمحو تلك الجسور التي ظلت حاضرة للتعبير عن تفاعل الأدباء والشعراء مع الفنانين. وهو التفاعل الذي عبر عنه هايدجر بكون الفكر نفسه ينحو نحو القصيدة باعتبار الشعرية مجازًا ممكنًا لكافة أنواع التفكير البشري.
أما ثنائية الحديث والمعاصر فإنها تأخذ لدينا صيغة خاصة لا تخضع لزمنية التطور الفني بالغرب. فالفنون البصرية العربية تتطور بإيقاع مغاير يتميز بالتداخل وبانعدام القطائع. والفنون البصرية الجديدة تتوالد في مناخ فني لا يزال يعرف سطوة اللوحة. بل إن العديد من الفنانين “المعاصرين” يمزجون في ممارستهم بين اللوحة وبين الأشكال البصرية الجديدة للفن من منشآت ومنجزات فنية. إن هذه الحالة تؤكد أن “الوضعية الجمالية” التقليدية تتعايش مع رياح التغيير التي تهب على الفن في عصر الصورة والبصري والافتراضي، وتجعلنا نقول إن المعاصرة ليست معطى أو وجودا قبليًا وإنما هي صيرورة، فنحن لا نكون معاصرين وإنما نصير كذلك.
ومن ثم فعوالم الفن أوسع بكثير من عوالم الأدب. فإذا كانت الأخيرة تنحصر في الكاتب والناشر والقارئ والمكتبة، والناقد فإن الأولى تمر من الفنان إلى فضاء العرض إلى المقتني إلى المزادات إلى المتحف، ناهيك عن تداولها في شكل حفريات وليثوغرافيات وسيريغرافيات وصور، من غير أن ننسى تعدد الوسائط التي تستخدمها الفنون البصرية الجديدة. ووساطات الفن أغنى وأكثر من وساطات الكتاب، علاوة على أن نقد الفن يستخدم لغة مغايرة لطرائق و”لغات” الفنون، يسعى من خلالها إلى استكناه خباياه وتحليل مكوناته وبناء تاريخه. ومن ثم أيضا فتاريخ نقد الفن يشكل تاريخا للفن والتقاطع بينهما يتم على مستويات متعددة.
نقد الفن في العالم العربي ومفارقات التأسيس
هذه المقدمات تبدو لنا ضرورية لتقديم الفرضيات التالية:
– لو اعتبرنا أن عمر الفن العربي الحديث والمعاصر يكاد يبلغ قرنين، فإن تاريخ النقد الفني العربي بمفهومه الحديث لا يجاوز بضعة عقود.
– تبعا لذلك إذا كان تجذر الفنون التشكيلية والبصرية قد تمّ بالعلاقة مع معطيات محلية وسياق عالمي (أغلب الفنانين العرب الأوائل تكونوا بمدارس وأكاديميات غربية) فإن الممارسة النقدية بالرغم من مرجعياتها الغربية قد ظلت تتبلور في لغة ومناخ عربيين (عدا من يكتبون بلغات أعجمية وهم قليلون).
– النقد الفني العربي لم يتطور بقدر تطور الفنون التشكيلية والبصرية، وتطور هذه الأخيرة المتسارع ساهم بشكل كبير في إنضاجها، لا العكس.
– عدد النقاد المتخصصين ضحل مقارنة مع عدد الفنانين، وعدد المجلات والصحف المتخصصة قليل بالنظر إلى الموقع الذي تحتله هذه الفنون في الساحة الثقافية، مما يدفعنا إلى القول بأن هناك تمركزا عربيا حول فنون القول وتهميشا كبيرا لفنون العين والصورة.
تبعًا لهذه “الفرضيات” (وهي في الحقيقة واقع أكثر منه افتراض)، يمكننا التأكيد على المفارقة التالية: لو اعتبرنا أن الفنون البصرية العربية قد رسخت كيانها وبلورت ملامح معينة لهويتها البصرية فإن نقدها لا يزال يعاني مآزق البدايات. إنها بدايات امتدت على مدى عقود عديدة ولا زالت تسعى جاهدة إلى تأسيس نقد عربي للفنون يكون في مستوى تطور التجربة الفنية التشكيلية والبصرية. وهل يترجم هذا العماء البصري استمرار العداء للتصوير في صيغته الدينية، أم أنه يعبر عن عدم تجذر الصورة في الوعي العام واقتصارها على حلقات نخبوية تتداولها لقيمتها التجارية وباعتبارها استثمارا؟
وليس من قبيل الصدفة أن يطغي الطابع الصحفي على النقد الفني. وإذا ما قيل إن الصحافة هي المجال الذي يترعرع فيه هذا الضرب من النقد فإننا سنرد بأن ذلك الطابع لا يخص السند (أي الصحيفة) وإنما خاصية المتابعة والوصف السطحي للعمل الفني واقتطاعه من سياقه الثقافي والجمالي. تقوم المتابعة بالإعلان عن معرض أو حدث فني ووصفه وتقديمه للقارئ العام. وكلما اتجهت تلك المتابعة إلى طرح القضايا الفنية والتعليق والتأويل كلما تحولت إلى انطباعات نقدية.
والحقيقة أن هذه الخاصية الانطباعية ليست مستهجنة بقدر ما إنها تنطلق من علاقة مباشرة مع الفني تتوسل بالحس والحدس وبحساسية لغوية بصرية تستهدي فقط بالحواس. إنها لحظة ضرورية يعيشها أي ناقد أو متلق للعمل الفني. بيد أن الناقد بمفهومه الاحترافي ينزع دومًا إلى مَفْهَمَة هذه الانطباعات ووضعها في سياق التجربة الفنية للفنان كما في سياق عام يمنحها قيمتها، بحيث تتحول الانطباعات إلى قراءة فنية. وانطلاقًا من هذه التمايزات المحدّدة، يبدو لنا أن ما تزخر به جرائدنا ومجلاتنا عبارة عن انطباعات أو في أحسن الأحوال دراسات ذات طابع أكاديمي، تفرزها كليات الفنون، تتراكم فيها المفاهيم مانحة إيانا أحيانًا وهْم العمق بينما هي غالبًا “تمرينات” نظرية غير مهضومة يتم تطبيقها على العمل أو التجربة الفنية فتظل على سطحها كما يبقى الزيت على الماء.
النقد الفني.. تجربة جمالية
كم من مقالاتنا وكتبنا النقدية تصمد أمام الزمن؟ وكم منها يمر مرور الكرام على أعمال تظل حاضرة متشوِّفة للكتابة النقدية الفعلية، فيما هي يطالها النسيان؟ حين أكد هايدجر على أن النقد (التفسير) يلزم أن يمنح لموضوعه من معناه(7) كان يعني بالأساس أن الكتابة إذا لم تتملك موضوعها وتجاوز مداه وتمنحه وجودًا جديدًا، فإنها كما قال ابن عربي لا يعول عليها. وتنطبق هذه الاستراتيجية التأويلية الابتكارية أكثر على النقد الفني لأنه مغامرة لغوية في مجهول الصورة ومعلومها. فاللغة في النص النقدي ترجمة مفهومية للحس البصري ولانفعالات ومشاعر تكون بدورها عبارة عن أثر حسي لشيء محسوس. وهذه العلاقة تتم بين المؤْتلف عبر وساطة المختلف (اللغة). ومن ثم يكون الفهم والتحليل والتأويل عملية واحدة تتوخى استكناه العمل الفني في تعدديته. والفن المعاصر وهو يجاوز اللوحة في بعدها الواحد يتطلب تفاعلا بين المعارف والمباحث تفرض على الناقد اشتغالا أكثر تركيبا على تعددية العمل الفني.
هل تستطيع اللغة الإحاطة بكافة تلاوين ومتغيرات ومكنونات العمل الفني من غير اختزاله أبدا؟ ذلك هو الرهان الذي يطرح نفسه على النقد والكتابة عن الفنون البصرية في العالم العربي. فاللغة العربية ليست معتادة على البصري والإبداع الفني، مما يجعل النقاد المبتدئين يسقطون أحيانا في اختزال اللوحة أو العمل البصري عموما في معاني مبتذلة، ويخصونها برسالة تبعثها للمتلقي. والحال أن العمل الفني لا يمارس المعنى إلا بكلية مكوناته، وهو معنى قد يكون شذريًا ومنفلتًا وغير مكتمل ينتظر من الناقد أن يمنحه من معناه من غير اختزال أو تبسيط.
فالعمل الفني الحقّ كيان حيّ، تتوالد دلالاته في داخله حسب السياق وحسب الناظر له، وهو يُفصح عن مساربه أحيانا ويخفيها غالب الأحيان. وما نسميه مع بوفرس “تجربة جمالية”(8) هي جُماع اللقاء بين محفزات العمل الفني وآثاره” وبين يقظة الناظر والمتلقي والقارئ. إنها تجربة مشتركة متلاحمة، مليئة بالمفاجآت، ذلك أن العمل البصري الذي يفضي بمعناه من الوهلة الأولى ينفي عن نفسه صفة الفن ويتحول إلى أيديولوجيا.
ولهذا لا يمكن للناقد أن يقرأ العمل الفني من خلال صورته الفوتوغرافية، أي نسخته فقط. فصورة العمل الفني لا تكشف عن تضاريس الخامات والتقنيات، ولا تمنح للناقد القدرة على الاشتغال بكامل حواسه معه. وبما أن الأعمال الفنية في العالم العربي لا تعرف التداول ولا تتجاوز إلا في القليل النادر حدودها القطرية فإن أغلب ما يكتب عن الفنون العربية (البعيدة جغرافيا) من نقد ينطلق من وسيط هو الفوتوغرافيا، لا من المعاينة المباشرة في المحترف أو في قاعة العرض أو المتحف. وفي هذه الحال تعدم التجربة الجمالية وجودها الكامل ذلك أن الصورة الفوتوغرافية (مهما كانت دقتها واحترافيتها) تفقد العمل الفني حجمه وسلطته وتحوّر ألوانه وتلاوينه ولا تمكننا من الإمساك بهندسته.
ومن ناحية أخرى، نلاحظ أن العديد من الصحفيين أو النقاد يكتبون بالطريقة نفسها عن كافة الأعمال والتجارب التي يتناولونها، متغافلين عما يمكن أن يقدمه لهم العمل الفني أو التجربة الفنية لفنان معين من مقترحات ومنفتحات. هذا التغافل ينفي عن العمل الفني كونه مخبرًا متجددًا يفرض على الناقد المتبصر حوارًا عسيرًا وشائكًا أحيانًا يكون ناجمًا عن تجربة حسية وفكرية هي التي نسميها “تجربة جمالية”. فالعلاقة الجمالية تفترض الإنصات واليقظة لما يقدمه العمل الفني للكاتب والناقد من مسارب للتفكير والتحليل والتأويل، تكون له عونًا على الإمساك بعمق وسطح ذاك العمل.
وما يثير الحنق أحيانا فهو غياب أو ضحالة الثقافة الفنية والفكرية للناقد، التي تجعله ينتج خطابًا عن فنان من غير أن يلامس مرجعياته الثقافية والفنية والتأثيرات التي مارسها عليه فنانون آخرون من بني قومه أو من العالم. هكذا يغدو الفنان المنتحل مجدّدًا، والفنان المتأثر مبدعًا من غير إثبات مدى إبداعه. وغياب هذه الثقافة ينسحب أيضا على ظاهرة تجعل الناقد العربي بحكم طابعه “المحافظ” عاجزًا عن تمثل وتحليل الأشكال التعبيرية الجديدة التي يحبل بها الفن العربي اليوم (من منشآت ومنجزات فنية وفن رقمي بجميع أشكاله).
إنها أشكال تتطلب عمقًا في الثقافة الفنية وثقافة سياسية وسوسيولوجية وتاريخية وأنثربولوجية وعلمية، باعتبار أن هذه التجارب الجديدة تشتغل على الهجانة التعبيرية والفضائية والدلالية، كما على زمنية ليست هي زمنية اللوحة التقليدية. إذا كانت الأشكال التقليدية للفن (من نحت وتصوير وفنون طباعية) تفضي لنا بمكوناتها، فإن هذه الفنون البصرية الجديدة تصوغ نفسها في شبكة من المكونات والتحولات يجعل تناولها أعسر وأخصب، وتقويمها أعوص وأكثر إشكالية، والتمييز فيها بين الضحل والغث أصعب. لهذا فإننا ندين غالبًا في تناول هذه التجارب العديدة لنقاد وقيّمي معارض أجانب أو عرب مقيمين بالمهجر، نظرا لتأقلمهم معها.
ومن العمل الفني الحي إلى الكتابة النقدية، يعيش ناقد الفن تجربة تحفها مخاطر ومغامرات تجعل من الكتابة عن الفن قضية مسؤولية أخلاقية ومهنية مرهونة بمدى قدرة الناقد على تملك العمل الفني واستكناه حضوره وآفاق معانيه ودلالته. وفي ذلك يتحول الناقد إلى كاتب “فنان” يضاهي بإبداعه في الفهم والتحليل والتأويل إبداعية العمل الفني. ولعمري إن هذه الندّيّة هي ما يجعل المتن النقدي يتابع حياة العمل الفني ويشكل جزءًا من ذاكرة تلقيه واستيعابه.
*ناقد مغربي
نقلا عن موقع الجسرة الثقافي