أحمد هادي*
اشتغل الفن على مرّ العصور تقريباً على مُثِيرَين، الطبيعة وإبداعات المحيطين به، سواءً كانوا من الذين سبقوه أو من عاصروه.
إذن، من غير متابعة تجليات الطبيعة واستنطاقها، ومتابعة ترجمات المبدعين لما يرونه فيها، وما يرونه في أنفسهم ينسد طريق التجديد، ولا يبقى أمام الفنان إلا الاجترار والتكرار، ولهذا تعتبر التغذية البصرية والاطلاع على تجارب الآخرين مثيراتٍ جماليةً تعبيرية وقيمة مضافة إلى كنوز الطبيعة، ومن هنا يمكن طرح هذا السؤال:
هل يمكن للفنان أن يتناول موضوعاً تم التطرق له من فنانين سبقوه؟
موضوعات الفن التشكيلي
لأن اللوحة أيّاً كان مبدعها لا تستطيع أن تعبر عن كل شيء دفعة واحدة، ولهذا لا بأس من العودة إلى نفس الموضوع، ولكن من زاوية جديدة، وذلك لأن الموضوع الواحد قابل للاتساع والتمدد إذا ما وجدت الموهبة الحقيقية والخيال المرهف، وهناك فنانون كبار استلهموا أعمالهم من فنانين سبقوهم، ولكن بروح الند لا بروح الناسخ.
فعندما تناول بيكاسو لوحة كوربيه (الفتاة النائمة) نقلها من منظور المذهب الطبيعي إلى منظور المذهب التكعيبي، فجاءت شيئاً آخر، وأكدت اللوحة انتماءها إلى بيكاسو.
إذن، لا يوجد فنّان يُمكنه أن يعمل من الفراغ، فالعملية الإبداعية تمتد قبل التنفيذ وما بعد التنفيذ وحتى بعد خروجها إلى الوجود في أشكال إبداعية، فهي عملية لها أبعادها المعرفية، والإدراكية الوجدانية، والأدائية التي تتم على عدة مراحل.
من هو المبدع؟ وهل ولد مبدعاً؟ وما هو الفرق بين المبدع وغير المبدع؟
لا يوجد شخص مبدع وآخر غير مبدع، فالعملية الإبداعية موجودة لدى الجميع، ولكن الفرق في أن المبدع سبق الآخرين في سلم الإبداع، وكرس وقته وجهده بشكل مستمر في اكتشاف مكامن الإبداع لديه من خلال الاطلاع على التجارب المتراكمة، والمعارف الواعية، والممارسة العملية، وجمع بين الخيال والتجربة والاختبار، حتى وصل إلى مرحلة من الإلهام والتبصر والخيال الإبداعي.
الكثير من الفنانين يتأثرون بما يرونه حولهم في الطبيعة، وأعمال من سبقوهم ومن عاصروهم، وهناك شروط موضوعية هي بمثابة معطيات يستعين بها الفنان في تكوين تصوراته الفنية ومحتوى خبرته الإبداعية التي تعزز مقومات الخلق والابتكار لديه، وتجعل أعماله ضرباً من المشاركة والممارسة المثمرة التي في الأخير تؤدي إلى اندماج نتاجه الفني في صميم التراث الجمالي ولبنة بناء شيدت فوق أعمال من سبقوه.
كيف تؤثر حركة التاريخ وموضوعاتها على الفنان؟
لا شك أن أي مبدع يتأثر بحركة التاريخ وبموضوعاته الحياتية ذات العمق الفكري، والحضّاري، والثّقافي، والفلسفي، والفني سواء أدرك ذلك أم لم يدرك؛ لأنه وبكل بساطة لا يعيش في معزل عن البيئة التي تحيط به، حيث يواجه تراث عامراً ومتنوعاً وعريقاً سواء كان ممثلاً في تراثه الوطني أم التراث العالمي الإنساني.
ولهذا فهو مطالب بأن يخلق علاقة تشاركية مع التراث الحضاري لبلاده بشكل خاص ومع التراث الإنساني بشكل عام، علاقة تشاركية تقام وفق طبيعة تقديرية لكون النشاط الإبداعي ذاته ذا طبيعة قيمية معيارية، لا يمكن أن يخرج عن هذه القيمة المعيارية.
مفهوم الأصالة والخصوصية
إن مفهوم الخصوصية والأصالة للفنان لا تكون مع إنكار التجارب السابقة، أو نكران التراث وإشاعة النظرة الرافضة له، فالتراث يتمثل في عدة نماذج أو أمثال أو نوعٍ من الإشارة التي تلهم الفنان، وهي عملية تواصلية في الفن عبر الأجيال والعصور، وتعد سمة أصيلة في العملية الفنية.
إذن، مفهوم الخصوصية والأصالة لا يعني الاجترار والتكرار والنسخ، وإنما يتم إدراك تلك التجارب وفهمها من قبل الفنان وفق مواقف معرفية ووجدانية وذهنية وأدائية خاضعة لتصورات الفنان وأحاسيسه ومشاعره الذاتية، وهي تتسم بطابعها الفريد الذي ينقل ما يراه العقل لا ما تراه العين.
تلقي الفن التشكيلي
إذن، فالفن هو الذي يدفع المتلقين ويرفع رؤيتهم إلى آفاق أرحب من المستوى الضيق الذين يعيشون فيه، وهو أنبل نشاط خلاق للروح، واستخلاص للجانب العقلي لطبيعة الأشياء وروحها لا ظواهرها.
أما أرسطو فقد اعتبرها عميلة خلاقة ومعبرة عن الكلي، ويقصد بالكلي التعبير عن سلوك أو نمط معين يعكس سلوكيات من أجل توضيحها وتقريبها للجمهور والمتلقي.
وتكمن أهمية نقد الفن في أنه يعمل على إشاعة ورقي الذوق العام ونشر الوعي والإثراء الثقافي المعرفي والتقريب بين الحضارات الإنسانية المختلفة، لكون الفنان قائداً فكرياً في مجتمعه يؤثر على سلوكيات المجتمع ويعالجها بطريقة فنية تستوعب اتجاههم العقلي والعاطفي بشكل متوازن.
*كاتب وناقد يمني