عصام خليدي*
الموسيقار أحمد بن احمد قاسم ذلك المبدع الذي كان ولا يزال صرحاً فنياً شامخاً عملاقاً بما قدمه من عطاء ( إستثنائياً)، موسيقياً باذخاً متميزاً وفناً خالداً وهو صاحب أفضال موسيقية متعددة وكثيرة ورائداً رفع على كاهله مهمة النهوض بالموسيقى والغناء اليمني، ذلك بتأسيسه أشكالاً موسيقية مبتكرة جديدة حملت على جنباتها عمقاً وبعداً موسيقياً ذو دلالات ورؤى لم يسبقه فيها أحد حيث يتضح ويتجلى ذلك باهتمامه واعطائه الجانب الموسيقي دوراً هاماً أستطاع به ومن خلاله ان ينمي الأذن اليمنية ويرتقي بالذائقة الموسيقية والاحساس بقيمتها التعبيرية عند المستمع اليمني مكنه من تحقيق ذلك الدور الريادي الجديد بنجاح عوامل وأسباب كثيرة أهمها ما يلي :
موهبته الفذة المبكرة/ دراسته العلمية المنهاجية/ المناخ الثقافي والفني الخصب في فترة الخمسينات ووجود باقة متميزة من الأدباء والشعراء الذين أستفاد منهم كثيراً وفي مقدمتهم الشاعر والأديب العظيم لطفي جعفر أمان/ الدكتور محمد عبده غانم/ الأديب والشاعر علي محمد علي لقمان/ الأستاذ مصطفى خضر/ الشاعر الرقيق احمد الجابري/ الشاعر فريد بركات/ الدكتور سعيد شيباني/الشاعر عبدالله عبدالكريم/ الأستاذ علي أمان/ الأستاذ احمد شريف الرفاعي/ الأديب والشاعر محمد سعيد جرادة/ الأستاذ القدير ادريس حنبلة/ الأستاذ أبوبكر بغدادي وآخرين بالإضافة إلى أدواته الموسيقية التي ساعدته على القيام بدوره وفعله النهضوي والتأسيسي الحداثي المبكر والريادي ..
كل هذه الأسباب والعوامل مجتمعة كان لها دوراً مهماً وحاسماً بتشكيل ثقافة ووعي الفنان الراحل أحمد قاسم الأمر الذي جعله متميزاً ومتفرداً بفنه ونستطيع القول هنا أنه كان بإمكاننا أن نستخلص من الحان احمد قاسم قطعاً موسيقية بقدر ما تكون هي موسيقى تعبيرية للكلمات المغناة لألحانه فإنها أيضاً قطعاً موسيقية مستقلة نتذوقها بعذوبة وكانت تلك هي احدى أهم مميزات الحداثة والتجديد الموسيقي في أعماله التي كانت تتميز بالغزارة والثراء الموسيقي بكل أغانيه بالإضافة إلى استخداماته المتعددة للنقلات الموسيقية في كل مذهب وكوبليه والقدرة على تطويع المقامات الموسيقية بانسياب لحني نغمي غاية في الروعة والجمال, والحقيقة أن كل ما سنتناوله في موضوعنا كان فيه احمد قاسم مجدداً وصاحب دوراً ريادياً واستاذاً قام بتدريس النوتة والأصول العلمية الموسيقية لمجموعة من الفنانين والموسيقيين زملاءه وكذلك الذين جاءوا من بعده، وكان صاحب ثقافة موسيقية واسعة الأمر الذي استطاع ان يمكنه من ان يتجاوز بموسيقاه وفنه الإطار اليمني الى إطار عربي، وكان ذلك تحدياً نجح به بتفوق ليصبح من وجهة نظري (حلقة الوصل بين الموسيقى والغناء اليمني والعربي بجدارة وإقتدار).
وفي الواقع اذا أردنا تحليل وتوضيح حداثة الموسيقار الراحل أحمد بن احمد قاسم علينا ان نستشهد بشواهد من اغنياته فمثلاً :
عندما تحدثنا عن الحداثة في موسيقاه وما يحتويها من قطعاً موسيقية بقدر ما تكون هي موسيقى تعبيرية للكلمات المغناة فإنها أيضاً قطعاً موسيقية مستقلة نتذوقها بعذوبة امثلتنا على ذلك كثيرة منها أغنية قالت لي/ مش مصدق/ ياعيباه/ أنت ولا احداً سواك/ تهجر وتنساني/ موكب الثورة ( يامزهري الحزين) ..
فلو تركنا صوت الفنان احمد قاسم جانباً واستمعنا الى موسيقاه فقط سندرك ان هناك جهداً موسيقياً واضحاً في الالحان وقدرة موسيقية نادرة بل وفائقة يمكنها ان تغنينا عن الصوت والكلمات المغناة كـ قطعاً موسيقية معبرة ومستقلة، وفي الوقت نفسه توصلنا وتعبر لنا عن معنى ما يحتويه النص الغنائي بصور موسيقية بديعة وعن المضمون الذي يريده الشاعر في ترجمة قصيدته بأسلوب هندسي معماري موسيقي شامخ البنيان.
ومن هنا تكمن حداثة وعظمة وقدرة احمد بن احمد قاسم وريادته في موسيقانا وتطويرها ومن أهم عناصر التجديد في موسيقاه والحانه التوزيع الموسيقي المدروس بعناية فائقة/ تعدد الكوبليهات/ التغييرات المقامية العربية وأيضاً الغربية التي كانت تفتقر (الربع تون الشرقي المعروف) مثال على ذلك :
مقام النهوند/ الماجير/ العجم الذي استطاع ان يدخلها في موسيقاه وأغنياته ويوظفها توظيفاً ذو خصوصية يمنية معاصرة غاية في الروعة والانسياب خاصة في اوبريته الغنائي الشهير (يامزهري الحزين) بالإضافة الى ذلك توظيفه لبعض الايقاعات الغربية العالمية وايقاعات أمريكا اللاتينية في موسيقانا اليمنية من خلال الحانه واعماله الغنائية، كـ إيقاع الرومبا/ السامبا/ الفالص، وقد استخدم هذه الايقاعات في موسيقاه واعماله نتذكر منها على سبيل المثال إيقاع (الرومبا) الذي استخدمه في اغنية (اسمر وعيونه) وايقاع (الفالص) الذي استخدمه في اغنية (مش مصدق) في الكوبليه الذي يقول فيه (جنة الانوار والازهار والسحر المثير) وايقاع السامبا الذي قدمه في اغنية (حبيبي ليه تجافيني) وكان موفقاً للغاية ورائعاً باستخدامها بشكل بديع مما جعلها متداولة ومحببة لقلب كل مستمع يمني وعربي على السواء، اللافت هنا ان بعض الايقاعات التي استخدمها احمد قاسم قبل (50 عاماً) نجدها تستخدم اليوم من قبل عدد من الفنانين العرب الشباب وفي الحقيقة انه عندما يتحدث المرء عن قامة موسيقية وذاكرة فنية ارتبطت بوجدان كل يمني وعربي واستطاعت وبنجاح ان تحتل لنفسها موضعاً ريادياً فان الحديث يطول ويأخذنا إلى عدة محطات ووقفات رافقت مشواره الفني الطويل وقد تحدثنا عن أهمها في بداية موضوعنا واستطيع القول ان فقيدنا كان مجدداً منذ أولى محاولاته التي ابتدأ بها مشواره الموسيقي الغنائي ذلك أوضحناه في البداية، لكنه حتى عندما تعامل مع الموروث الغنائي اليمني لم يتعامل معه بشكل نمطي بل كان للحداثة والتطوير والتجديد أيضاً في موسيقاه والحانه دوراً بارزاً وملحوظاً وتأثيراً فاعلاً يتجلى بوضوح لمن يستمع إلى اعماله الموسيقية الغنائية ببصيرة وتأمل مثالنا على ذلك ما قدمه في بداية حياته الفنية في اغنية صدقت كلام الناس وأغنية (حقول البن) فلو قمنا بتحليل موسيقي للأغنية الأخيرة سنعلم مدى المستوى الفني المتطور الذي قام به حيث انه استخدم مقام (الراست على الراست) في المذهب وبعدها يتنقل في الكوبليه إلى مقام آخر (البيات على الصول) واعطانا مقدمة موسيقية في المذهب ومقدمات أخرى بين الكوبليهات بالإضافة إلى أنه استخدم إيقاع الشرح اليمني المعروف والقديم الذي يكتب موسيقياً على النوتة بالشكل التالي 6/8 كل هذه الإضافات كانت بطريقة علمية مدروسة جعلته يبتعد عن التكرار ويكون صاحب مدرسة موسيقية فنية حديثة مستفيد مطور للموروث ذلك لان هذا الإيقاع استخدمه من قبله كثيرون ولكن عندما تعامل معه الموسيقار كان بطريقة جديدة مغايرة وهنا تكمن وتأتي الحداثة والابتكار في الصياغة الموسيقية والنغمية التي يصحبها (بضم الياء) دائماً بالتوزيع الموسيقي والنقلات المقامية.
وما تحدثنا عنه سلفاً من إضافات موسيقية معبرة لم يسبقه بها أحداً من قبل، وكان للأصالة دوراً مهماً ومتطوراً في أعماله الموسيقية إذ أنه لم يأخذ الموروث الغنائي كما كان حاله، بل أضاف إليه وطوره بشكل أكاديمي موسيقي كما سمعنا في أغنية (حقول البن) وأغنية (صدقت كلام الناس) اللتان قدمهما بشكل أصيل متطور إذ يخيل إلينا عند سماعهم وكأننا بين سهول ووديان اليمن الخضراء كذلك هو الحال في أغنية (يا حلو يا أخضر اللون) الذي استخدم فيها إيقاع (شرح بدوي مقسوم) وهو ايقاعاً يمنياً تراثياً قديماً ولحنها على مقام (الحجاز كار) وتألق فيه وابدع في النقلات اللحنية والصور الموسيقية البديعة المعبرة التي رافقت وصحبت هذا اللحن الجميل وأغنية (يا طالعين الجبل) التي لحنها على مقام (الرست) واستخدم فيها الإيقاع المصمودي الذي يكتب بالنوتة على شكل 4/4 مثال آخر يؤكد قدرته الموسيقية على تطوير الإرث الغنائي اليمني القديم وذلك بخروجه عن المألوف بألحانه المبتكرة التي جمعت بين الاصالة والمعاصرة لتصبح اليوم إرثاً موسيقياً غنائياً يمنياً وعربياً كأغنية (زاد الهوى والغرام) التي لحن مذهبها على مقام (حجازكار) كان هذا في المذهب وفي الكوبليه انتقل إلى مقام الرست على الدرجة الرابعة (جهاركا) ثم إلى نقلة أخرى على مقام (النهوند على الدو كردان) واستخدم فيها الإيقاع الشرحي 6/8 وهو أيضاً ايقاعاً شرحياً يمنياً كان متداول ولازال ولكنه تعامل معه بشكل موسيقي جديد جعل فيه هذا الإيقاع يلبس ثوب نغمي موسيقي قشيب، وتلك هي عناصره المتميزة في الحداثة ولك ان تعلم ان هذا اللحن يعتبر ثاني الحان احمد بن احمد قاسم فوجه التجديد والتطوير الموسيقي الغنائي واضحاً وملحوظاً كي ندلل للمهتمين بالبراهين والامثلة مصداقية ما نقول وما قدمه هذا الموسيقي العظيم، الأمر الذي يؤكد انه كان عملاقاً وفناناً يمنياً أفنى حياته في خدمة الموسيقى اليمنية وتطويرها رغم ما واجهته من صعوبات وانتقادات أتذكر منها نقداً جارحاً كنت قد قرأته في احدى الصحف الفنية اليمنية في نهاية الخمسينات وقعت بالصدفة بين يدي تعيب عليه استخدامه للإيقاعات العربية والغربية في بعض اغنياته وفي الواقع نحن نرى حتى في استخدامه للإيقاعات المتعددة والمختلفة في اغنياته كان عظيماً وعبقرياً كعادته لسبب بسيط هو انه استطاع توظيفها والباسها ثوباً موسيقياً غنائياً يمنياً قشيباً ومصحوباً أيضاً بعنصر التجديد.
*باحث وناقد فني
نشر المقال في موقع “عدن الغذ” 2021
الصورة الرئيسية نقلاً عن منصة “خيوط”