خليل قويعة*
لم يرتبط سوق الفنّ في العالم بالقيم الجماليّة وأصالتها وإبداعيّتها، بقدر ارتباطه بسُلطة الدّولة وسيادتِها وقوّة الموازين الماليّة والاقتصاديّة. وإلّا كيف نفسّر أنّ ارتفاع نسبة المُعاملات في هذه السّوق لا يتمّ إلّا في الدّول ذات الهيمنة الماليّة والإشعاع الاقتصادي الواعد؟ ورغم دخول عناصر حديثة العَهد في نادي هذه السّوق مثل: شانغهاي ودبي والدّوحة، إلّا أنّ أبرز العواصم التّقليديّة لهذه السّوق لندن ونيويورك، ما تزالان تسيطران على نصيب الأسد من المعاملات وذلك عن طريق “دار كريستيز” بلندن و”دار سوثبايز” بنيويورك، كأنشط المؤسّسات المتنافسة والمتحكّمة في نشاط هذه السّوق.
وعلى سبيل المثال، بيعت مؤخّرًا بـ “كريستيز”، لوحة للبريطاني فرانسيس بيكون (1909 – 1992) كانت قد عُرضت لأوّل مرّة سنة 1987 بـ “ماربوروغ غاليري” بنيويورك. وقد وصلت المداولات بشأن هذا العمل إلى ما يزيد عن 41 مليون يورو. وهكذا، تسترجع السّوق أنفاسها بقوّة بعد جائحة (كوفيد – 19) ومضاعفاتها على الاقتصاد العالمي.
قد تبدو التجارب الفنيّة لدى المبدعين مستقلّة ولا تحتكم إلا إلى كون الذات وتطلّعاتها الجماليّة، ولكنّها تنتهي بين أيدي المضاربين في أشدّ الارتباط بالظروف الاقتصاديّة وخريطة القوى. فهل تمثّل السوق واجهة لاقتصاد الدّول وبارومترًا لقياس مدى قوّته، فيما نظلّ نتصوّر أنّ العمل الفنّي واجهة لتطلّعات الذات المبدعة إلى الحريّة ونتاج نشاط “منزّه عن المنفعة” (وذلك من مقوّمات الحداثة الجماليّة التي نظّر لها الألماني إيمانوئيل كانط في القرن الثامن عشر!) فما ننظر إليه على أنّه خلاصة الوجدان الإنساني يؤول بين أيدي المستثمرين إلى قيم ماليّة.
بقدر مآسي الفنّانين تكون نشوة المضاربين في السوق
وبقدر مآسي الفنّانين، تكون نشوة المضاربين في السّوق. فعديد المبدعين من صنّاع الضمير الثقافي الإنساني الذين تُباع أعمالهم بعشرات ملايين الدولارات ويحتلّون موطئ قدم في السوق بعد مماتهم، كانوا أشدّ النّاس فقرًا في حياتهم (فان غوغ نموذجًا، 1853 – 1890). ولئِن باتتِ السّوق تكافئ هؤلاء بعد مماتهم على فقرهم، فإنّ المستفيدين هم المجمّعون والمضاربون والمؤسّسات المُتحَفِيّة. فمن نكد هذه السّوق أنّها تعيد عباقرة الفنّ وصنّاع الضمير الخلاّق إلى الحياة، بعد أن سبق لمجتمعاتهم أن حكمت عليهم بالموت، بل وقد أجبرتهم أحياناً على الانتحار، ويا للمفارقة! وبالتّوازي تعمل السّوق على صناعة أسماء جديدة وترشيحها لتكون أرقاماً شغّالة في ماكينة المُعاملات وهي صناعة تستند إلى حسابات استراتيجيّة منتقاة، بحسب لعبة المصالح في خريطة القوى العولميّة.
ولئن تعلّق الأمر بالاستثمار في القيم الرّاسخة وتنميتها أو بصناعة قيم جديدة، كما هو سائد لدى المؤسّسات الدّاعمة للفنّ المعاصر، فإنّ ذلك لا يعدو إلّا أن يكون درسًا مهمًّا يستوجب من الدّول، التي تعتزم قيادة نهضة فنيّة، أن تستفيد منه تداركاً لمصير فنّانيها وتثمينا لتراثها الإبداعي. إذ القيم الفنيّة لا تموت بموت أصحابها، بل تستمرّ وتنمو من جديد على منحيين؛ منحى النّظر النقدي والتأويلي، ومنحى آخر من طبيعة عمليّة وهو ما يتشكّل من قيم ماليّة بين أيدي أصحاب المال من المستثمرين والمجمّعين والمؤسّسات. وكثيرًا ما يبدو المنحيان مترابطَين، حيث الأوّل يؤسّس للثاني، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
وهذه الفرنسيّة ريموند مولان، عالمة اجتماع الفنّ التي اختصّت في سوق الفنّ، قد قالت بصريح العبارة: “إنّ النّقاد هم الضّامنون للقيمة الجماليّة للأثر الفني، قبل أن تتحوّل إلى قيمة مصرفيّة”. وفي هذا الأفق، يسهل على المستثمرين تنمية القيم الماليّة للأعمال الفنيّة التي بحوزتهم، كلّما كان لها حضور مهمّ في نصوص النّقاد.
يضمن النقاد قيمة الجمال قبل تحوّلها إلى قيمة مصرفية
إذ يبدو، على الأقل من حيث الشكل، أنّ أباطرة السّوق الفنيّة حريصون على ربط دينامية الترويج والمضاربة على أساس المعرفة. وذلك رغم أنّ مزالق السّوق، خصوصاً في الفن المعاصر حيث يتفنّن المستثمرون في صناعة القيم الجديدة، قد ورّطت عديد النّقاد في مصالح ماليّة وحسابات خريطة القوى بما ليس من المعرفة النزيهة في شيء، وعندها عديد النقاد أصبحوا موظّفين مشرّعين لعمليات التحيُّل باسم التجديد وتجاوز تاريخ الفنّ لمنظوماته القيمية، وتحت غطاء ما أفرزته موجات “ضدّ الفنّ” من أجهزة مفاهيميّة ما بعد حداثية. إنّها ظاهرة “انقلاب الأدوار في منظومة الفاعلين” (versatilité)، بعبارة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، حيث القيمة المالية المفروضة، أصبحت سابقة على القيمة الجمالية أو الفنية المفترضة، بل وتوجّهها إلى المسالك الربحية الممكنة.
وخارج هذا التقليد الثقافي الغربي، يصعب أن تحيا القيم الفنية وتتطوّر مصرفيّاً ضمن نسق تصاعديّ، بعد ممات الفنّان. خصوصاً في غياب منظومة متحفيّة ترجع إليها تسعيرة الأعمال، وتنمو على أساسها مقاصد التّرويج والتّسويق، وفي غياب الارتباط المتين بين القيم الفنية والقيم المالية، خصوصاً في الدول التي لا تتوفّر على مقوّمات القوّة الاقتصادية وضماناتها وعلى بُعد نظر سياسي يترجمه الجانب التّشريعي في ما يخصّ تثمين التّراث الفني وتركيز السّيادة الثقافيّة للدّولة.
إذ في غالب الأحيان “تُدفن” الأعمال الفنيّة مع صاحبها: الحبيب شبيل (1939 – 2004) أو محمّد خدّة (1930 – 1991) أو مصطفى الحلاّج (1938 – 2002)، على سبيل المثال. فكلّ ما هناك، محفّزات تشجيعيّة لبعض الفنّانين في حياتهم، وذلك في أحسن الأحوال، مثل لجنة شراءات الأعمال الفنيّة. وهي مبادرة محمودة ولكنّها ليست متوفّرة في كافّة الدّول العربيّة، كما أنّ “التّشجيع” ليس من مشمولات هذه اللّجنة التي يفترض أن تقتني أعمالًا لتنمية الرّصيد العمومي للدّولة من الأعمال الفنيّة. وتلك قضيّة أخرى.
باحث وتشكيلي تونسي*