د. عمر عبدالعزيز*
كعادته ينفحنا الفنان الشاب الصاعد محمد القحوم بالجديد المنعش.. بل انه يتخطى الزمن الموسيقي العربي من خلال منظوماته البوليفونية المعانقة لفضاء الأداء الاوركسترالي الباذخ.. وكأنه يشير من طرف خفي لمثابة الموشحات الأندلسية التاريخية التي أسست للتدوين الاوركسترالي العالمي.. بل تساوقت مع انساق الكورال الكنسي والغناء الرعوي في شبه الجزيرة الايبيرية وضواحيها الممتدة في الجغرافيا الثقافية الإنسانية.
لا أبالغ إذا قلت أن الملحن والموزع الفنان محمد القحوم يفيض بمعارف موسيقية مقرونة بذائقة لماحة .. وهو الامر الذي تجلى بصورة أكثر نصوعا في الحفل الفني الكبير بالاوبيرا المصرية بعنوان ( السيمفونيات التراثية ) والتي بدت لي تسمية مناسبة للمقطوعات الفنية المقدمة .. لكنها في ذات الوقت مثلت تحديا حقيقيا امام الفنان .. ذلك ان مزاوجة العناصر البوليفونية المركبة بالآلات الشعبية المتنوعة تصطدم عادة بالمسافة الفارقة بين المستويين .. ومن هنا كان على المؤلف مغالبة تلك الحقيقة .. وصولا الى انتزاع مشروعية حضور التراث في المعاصرة .. بل تمكين التراث من منح مفردات تخصيب وغنى للموسيقى العصرية المفاهيمية متعددة الأصوات.
المعزوفات العشرة في ذلك الحفل الفني المبهر اشتلمت على عناصر فنية يصعب استسبار ابعادها في كتابة عابرة .. لكنني ساشير لبعض منها .. محتفظا بمسافة شفاهية سأقولها لاحقا .. وربما وجدت فيها الفرصة الكافية للابحار في تلك المصفوفة العشرية الجميلة باستمتاع وبوح فائضين .. وعليه ارى مايلي :
نجح الفنان القحوم في إعادة تدوير المفردات الفنية التراثية عبر توشيج العزف الاوركسترالي بالآلات التقليدية بأنواعها النفخية والوترية والايقاعية .
واشج الفنان القحوم بين اللحون العربية المتوازية .. وخاصة الشعبية المصرية والبحرية الساحلية الخليجية مع الأنماط اليمانية بأنواعها البحري والجبلي والبري.
كان استخدامه لفن (الصولو) اداء ولحنا ينبري بعناية ورشاقة في تضاعيف النصوص اللحنية المتنوعة كما لو انه (مونودراما) لحنية رفيعة.
كان لنبض التاريخ التراثي حضوره السحري في جملة الأعمال الفنية الماثلة.
التراث الفني الموسيقي اليمني كان له حضوره الاميز وعلى مستويات متعددة .
لايخطئ المستمع اللبيب التقاط النسق التكاملي في التوليفات اللحنية.. وهو الامر الذي تداعى مع الغنائية الشجية.. مع انزياحات ايقاعية متسارعة تكمل الهارموني ولا تتنازع معه الاداء .
التسارع المدروس في الإسترجاعات اللحنية التراثية كانت من العناصر الهامة في القفلات اللحنية المبهرة .. وهو الامر الذي منح جمهور المتلقين فيضا من المتعة والاسترخاء.
أزعم ان الكفاءة اللحنية التوليفية سارت على قاعدة التقدير الدقيق لمقتضيات البناء اللحني الفني فيما اسميه بالكفاءة اللحنية.
أزعم ايضا ان حضور الجمل اللحنية التراثية لم تكن حاجزا بينها والتجديد .. بل العكس تماما.. فقد نجح القحوم في تقديم الجديد الموشى بجمال التراث ودونما استباحة للتراث .. بل منحه ذلك البعد المضمر في تضاعيف بهائه وجماله.
وأخيرا وليس اخر كان تتويج المقطوعات العشرة بالسلام الوطني عملا فنيا بذاته يستحق وقفة خاصة .
* كاتب ومفكر يمني