تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » التّوازن في الفن التّشكيلي سيرٌ على حبلٍ دقيق

التّوازن في الفن التّشكيلي سيرٌ على حبلٍ دقيق

التّوازن في الفن التّشكيلي سيرٌ على حبلٍ دقيق

 

بسمة شيخو*
أن تكون على حافة الهاوية دون أن تسقط، فذاك يعني أنك تملك مهارة التوازن التي تمنحك فرصة الاستمرار، ومهما كانت وظيفتك في الحياة فلابد وأن تحمل العصا من المنتصف وتسير على حبلٍ دقيق كبهلوانٍ متمرّس، بثقة ورأسٍ مرفوع يحفظان توازنك ويوصلانك لبر الأمان فتكون مهمتك منفذة على أتم وجه بالنسبة لك وللآخرين،

أما إذا ما كنت فناناً فستحتاج لمهارةٍ أعلى، لتضبط عملك الفني الذي تنفذه بحريّة بضوابط معينة تكسبه اكتمالاً يقربه من المثالية التي يسعى إليها.

أسس التصميم في الفن التشكيلي:

للفن التشكيلي أسس وضوابط شأنه شأن العلوم الأخرى، إذ لا يكتمل أي تصميم لعملٍ فني دون مراعاة عدد من القواعد.

يعرف الفنان هذه الأسس في بداية تعلّمه الأكاديمي، وأحياناً بفطرته الفنية السليمة، فبنظرة منه لعمله يتلافى الأخطاء، وعند تمحيص الخبير في العمل يجد أنّ الضوابط موجودة والشروط محققة، ومن أهم هذه الأسس:

الوحدة: والتي تعني أن يكون العمل الفني وحدة متكاملة وليس مفككاً ضعيف البنيان، لذا كان من الضروري أن يحمل داخله مجموعةً من العلاقات التي تربط عناصره لخلق تكوين واحد. الإيقاع: وهو اللحن الداخلي الذي ترسمه الخطوط بليونتها أوقساوتها بصحبة الألوان وتدرجاتها، فنبصر لحناً بصرياً نسمع صوته بعقلنا اللاواعي، ويتكوّن من خلال تكرار العناصر أو تنوعها أو تدرج الألوان أواستمرارها بنمط لوني واحد.

السيادة: تتعلق بالموضوع أي أن تكون للعمل فكرة تلمّ تفرعاته تحت جناحها، فلا يكون العمل مشتّتاً مهما تشتّت ذهن الفنان، ومهما تنوّعت التفاصيل داخله.

وأخيراً التوازن: الذي يدرس كيفية تموضع العناصر ضمن العمل وأماكن توزعها في مساحته، ويعتبر هذا المفهوم ملموساً بالنسبة للفنان والمشاهد بآن واحد، خلافاً لما سبقه من أسس نستطيع إدراكه بوضوح ضمن الأمثلة المحيطة بنا، فالطبيعة متوازنة بذاتها، ما بين أرض وسماء، جبالٍ ووديان، الأشجار بكتل أغصانها وأوراقها انحناؤها يتوازن من خلال انتصاب الأغصان في القسم الآخر منها، الثمار تكون متوازنة أو متناظرةً تقريباً في بعض الحالات، إلا أنها حتى في أكثر حالاتها عشوائية تملك نقطة توازن تجعل الشكل مستقراً، البشر وأجسادهم مثالٌ واضح على التناظر بين الجانبين الأيمن والأيسر، مع اختلافاتٍ طفيفة تكاد لا تلاحظ فقد ننتبه أن عيننا اليمنى أكثر اتساعاً من نظيرتها أو أن قدمنا اليسرى تحتاج لحذاءٍ بنمرةٍ أكبر… وهكذا.

لذا كان الجسم البشري صورةً عن اكتمال الجمال بأبهى حالاته

باعتبار أن التناظر يحقّق انسجاماً يصنع وحدةً بصرية و يمنح راحةً مستمرةً للنظر، الحيوانات أيضاً يحملون بأجسادهم توازناً متناظراً يمنحها جمالاً، بالإضافة إلى أنّه يسهّل عليها حركتها جرياً، سباحة أو قفزاً..

وبالملاحظة نجد أن أي عنصر يحيط بنا إن كان طبيعياً أو صناعياً فهو يحقق ضمن بنيته التصميمية شرط التوازن ليكون مستساغاً بصرياً، وسهل الاستعمال في التعامل اليومي، بعيداً عن التوتر الذي من الممكن أن يخلقه وجود أشكال غير متوازنة مهددة بالسقوط، فذاك ينعكس على المشاهد ويكرّس داخله شعوراً بعدم الأمان يكتنفه عندما تأمل هذا العنصر أو التعامل معه لوقتٍ طويل، لذا نجد أن ضوابط التصميم الصناعي _وهو الصورة التطبيقية لعالم الفن- قاسية فيما يتعلق بمعايير التصميم الفني وفي مقدمتها التوازن.

أنواع التوازن في التصميم الفني:

إن اتساع مصطلح «التوازن» فرض أن يكون له أنواع كثيرة تكسبه مرونةً في التطبيق، ليخدم الجمال بكلّ صيغه وحالاته، فهناك:

•توازن متناظر

يعتبر التناظر حالةً خاصة من التوازن في الفن التشكيلي، وهناك من يخلط بين المفهومين، فيظن أن العمل الذي لا يحوي تناظراً ليس متوازناً، وكأنّه أمام كفتي ميزان، يوزّع العناصر على اليمين واليسار؛ وأكثر من تمسّك بالتناظر هم اليونانيون ونجد ذلك في عمارتهم ومعظم آثارهم الفنية، الأكروبولس في أثينا مثال واضح ومعروف يلخص ما ذكرنا.

• التوازن مع عدم التناظر

المقصود بهذا النوع من التوازن أننا من الممكن أن نضع عنصراً ضخماً في جزء من العمل الفني مقابل مجموعة من العناصر في الجزء المقابل، تقوم العين بتجميع العناصر المتناثرة وموازنتها مع العنصر الضخم، إذا استقرت الكفتان فالتوازن موجود وإن مالت فالتوتر حاضر في العمل وضمن هذا النوع نجد التوازن المحوري أي أن العناصر تتوزّع حول محورٍ واضحٍ في العمل يستطيع المشاهد رسمه بخياله ما إن يتأمل اللوحة أو المنحوتة.

وهناك التوازن الشعاعي حيث تتوزّع العناصر في العمل وكأن كلّاً منها يرقد فوق شعاع منطلقٍ من الشمس المتموضعة في منتصف اللوحة غالباً.

• التوازن الحسّي «البصري»

هو أعقد أنواع التوازن بالنسبة للمتلقي، حيث إنه عصيٌّ على التفسير للوهلة الأولى يحتاج تأملاً أكثر، ومعرفةً بخصائص المفردات التشكيلية، فهنا لا نلقي بالاً لحجم العناصر ولا لأعدادها بل نعطي الألوان والخطوط والأشكال قيمها الحقيقيّة، فمساحةٌ كبيرة من اللون الأبيض، توازنها مساحة صغيرة سوداء، حيث إنّ الألوان الداكنة دائماً أثقل من الألوان الفاتحة وبالتالي تحتاج لمساحاتٍ أقل، والألوان الحارة أثقل من مثيلتها الباردة كذلك، والخطوط القاسية المتكسرة كذلك تعتبر أثقل من اللينة الانسيابية وبالتالي الأشكال المتكونة من كلّ نوعٍ من هذه الخطوط ستحمل مزاياه لابد، كذلك اتجاه الخطوط يلعب دوراً في تحديد ثقلها فالخطوط الأفقية أكثر ثقلاً واستقراراً من العمودية التي تبدو متحركة بخفةٍ عالية، الأشكال المعقّدة هي أثقل من الأشكال البسيطة.

التوازن هنا يتعلّق بالأثر النفسي الذي يتركه العنصر على المتلقي وبالتالي هو توازن غير قابل للقياس يعتمد على الحس الذي يتكون بعد رؤية بصريّة.

أمثلة على التوازن في الأعمال الفنيّة

يظهر التناظر بشكل أساسي في أعمال الفن التشكيلي بلوحات الحروفية وتشكيلات الخط العربي، كذا الزخارف بشقيها النباتية والهندسية، أما في لوحات الماندالا فنلاحظ أن التوازن الشعاعي المنطلق من المركز هو الذي يحكمها.

في لوحة «تقديس الحَمَل» للفنان هوبرت فان إيك نجد التوازن واضحاً، الحمل في منتصف اللوحة، ونافورة الماء أيضاً، يحيط بالحمل ثمانية من الملائكة على كلّ جانب، في يسار اللوحة أبنية بعيدة يقابلها أجمة من الأشجار، كما نجد حشدا من القديسين في يسار العمل يقابله عدد أقل منهم لكن بأحجام أكبر تحقق التوازن، كذلك في أسفل اللوحة مجموعتان من المريدين، الطرف الأيمن يحوي عدداً أقل من الأيسر لكن ألوانه أغمق مما يمنح توازناً.

أما لوحة العشاء الأخير لدافنشي التي تعتبر من أشهر الأمثلة على التوازن المتناظر للعمل وبساطة تحقيقه مهما كبرت مساحته، فنجد أن المسيح في المنتصف، وعلى يمينه ستة من الحواريين وعلى يساره مثلهم يشكلون مع بعضهم تكوينات متماثلة، على الجدران الجانبية المرسومة في اللوحة أربعة تابلوهات في كلّ جانب، والخلفية كذلك متناظرة بعدد نوافذها.

بينما تتجمّع عناصر لوحة «ثبات الذاكرة» لسلفادور دالي في يمين اللوحة فنجد ثلاث ساعات ذائبة تتدلى إحداها فوق صندوق خشبي بجانب بوصلة، مع غصنٍ يحمل فوق ظهره ساعةً أخرى، مع سطح مائي ضمن حوض قليل العمق، يقابل هذه العناصر في يسار اللوحة مساحة باللون البني الغامق، الذي يمنح الوزن الحسي فيتوازن العمل بالنسبة للعين، وللإدراك معاً توازناً حسياً بصرياً.

في لوحة حقول القمح والغربان لفان غوغ تمتد حقول القمح يمين اللوحة ويسارها، الغربان في الأعلى، الجهة اليمنى حقولها أوسع يعادلها في الجهة المقابلة عدد أكثر من الغربان تحلّق فوقها.

نلاحظ أن توازن تمثال رامي القرص لمايرون النحات اليوناني، هو صورة طبق الأصل عن توازن لاعب هذه الرياضة، فنجد القرص مرفوعاً باليد اليمنى للأعلى والجذع يهبط نحو اليسار ليوازن الجسد، بتحليل الكتل المتوزّعة على جانبي العمل نلاحظ أن مساحات الفراغ تملك وزناً أيضاً يساعد العمل ليبدو متوازناً، وخاصة عندما يحبس بين تكوينات، تصنع منه مساحةً محددة. كما أن الكتل المرتكزة على القاعدة والمستقرة، تكون ذات وزن بصري أثقل من مثيلتها في الأعلى السابحة في الفضاء وذلك في كلّ الأعمال الفنية.

التوازن في فنون ما بعد الحداثة

كالعادة إن الأسس الفنية التي تطبّق على الأعمال الفنية بأشكالها التقليدية: مبانٍ معمارية، لوحات، منحوتات… ترتبك عندما كانت تصل لفنون ما بعد الحداثة التي بدأت بالظهور منذ الدادائية وتشمل كلّ ما لفّ لفّها كالفنون المفاهيمية، الأعمال التركيبية، وفنون الأداء … وغيرها من فروع جديدة خرجت من رحم الفن رغم أنها لا تشبهه شكلاً إلا أنها تحمل جيناته وبالتالي نجد أن التوازن سيبقى موجوداً داخل بنيتها، لكنه سيكتسب صوراً وصيغاً مختلفةً لحضوره، فهو لم يعد توازنا شكليا بصريا فقط، بل أصبح توازناً معنوياً غير ملموس يتعلق بالفكرة.

الفن التركيبي يحصل على حصةٍ من التوازن الشكلي بحسب تموضع عناصره باختلاف أحجامها وأشكالها داخل الفراغ، وكذلك فنون الميديا والفنون الرقمية ستخضع لذات التقييم الشكلي للتوازن.

الفن المفاهيمي، وفن الفيديو، وفن الأداء تكسب التوازن بعداً ثالثاً فيصير مدرَكاً بالمحاكمة العقلية، التقييم أصبح يشمل الفكرة هل هي متوازنة أم متطرفة، تجنح نحو الأقصى حتى تكاد تهوي في قاعٍ سحيق، أم أنّها تسبح في الأمان؟

في فن الفيديو يتم تقييم التوازن من خلال حضور زمن الفيديو كاملاً، ومن ثمّ الحكم على عناصره البصرية والسمعية والفنية، تموضعها ضمن الشاشة

و وقت ظهورها خلال الفيديو، إضافةً للهدف المقصود من العمل والطريقة التي قدّم بها العمل. فن الحدث «فن الأداء» يتمّ تقييم حركة الفنان الجسدية ودلالتها الضمنية، الغرض من العرض والرسالة التي يحملها، إضافةً للانتباه للإضاءة والصوت والبيئة المحيطة والمعطيات الأخرى تبعاً للتطبيقات المستخدمة، فندرس التوازن على كل الصعد المتنوعة التي يحملها العرض الأدائي.فن البيئة أو فن الأرض، ويعتمد هذا الفن على عناصر ومكونات منوّعة، فإما أن يكون التوازن شكلياً بصرياً فقط، أو يكون العمل محقّقاً التوازن على الصعيد الفكري أيضاً.

إذن التّوازن هو الشرط الذي يسمح للعمل الفني بأن يعطينا سكينة وراحة نفسية ويبعدنا عن التوتر الذي يحمله لنا عمل نحتي نشعر بأنه سيهوي بأي لحظة فنبتعد عنه مهرولين، أو لوحة نتخيل أنها ستميل استجابةً لتكدّس الأشكال على جانبٍ دون آخر بلا موازنةٍ بصرية.

ومن الممكن في حالات خاصة أن يكون عدم توازن في عمل فني مقصوداً من الفنان، يحمل رسالةً محددة، فيكون ذاك تنبيه للمشاهد، صرخة في وجه الحياة.

أما ما يفعله الفنان بشكلٍ طبيعي أثناء تنفيذه أعماله الفنية، محاولة لاستعادة التوازن الشكلي والفكري والروحي الذي افتقدناه في حياتنا المعاصرة، وجمعها داخل فنه.

*شاعرة وفنانة تشكيلية سورية