تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الفن والحقيقة والحياة

الفن والحقيقة والحياة

الفن والحقيقة والحياة

د. سعيد توفيق
ربما يبدو السؤال عن الصلة بين الفن والحقيقة غريبا على أذهان كثير من الناس؛ لأن الحقيقة في نظرهم هي ما يتأسس من خلال مناهج البحث العلمي، سواء في مجال العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية التي تحتذي مناهج العلوم الطبيعية، أما الفن فهو -في نظرهم- مجال التعبير عن العواطف والمشاعر والأحداث الإنسانية من خلال الرؤية الذاتية للفنان. والواقع أن هذا التصور هو نتاج لفن الحداثة الذي يتمثل في التعبير عن ذاتية الفنان لا عالم الإنسان، ومن هنا نشأت الصيحة الشهيرة في عالم الفن التي تطالب بأن يكون «الفن من أجل الفن »art for art›s sake، ومعنى هذا ببساطة أن قيمة الفن لا تكمن فيما يقوله أو يعبر عنه من مضمون يتعلق بالعالم وبالحياة الإنسانية، وإنما تكمن في التعبير الفني والجمالي نفسه.

والواقع أن هذا التصور هو نتاج للنزعة الشكلانية Formalism التي سادت في علم الجمال الحديث فيما بعد كانط. وفحوى هذه النزعة أن الفن صورة دالة معبِّرة بذاتها، فالتعبير الفني يكمن في العلاقات الشكلية الكائنة بين عناصر العمل الفني: كالعلاقات بين عناصر اللحن والإيقاع والهارموني في الأصوات الموسيقية، والعلاقات بين الألوان والخطوط والأشكال المصورة في اللوحة، وهكذا. والحقيقة أن هذه النزعة هي مناط أزمة الفن والنظرية الجمالية في العصر الحديث، ومن خلالها نشأت الاتجاهات البنيوية والسِميوطيقة وغيرها من الاتجاهات التي أغلقت العمل الفني على إطاره الشكلاني: فالفن قد استحال بذلك إلى علاقات بنيوية داخلية أو علامات ورموز أو خطوط وألوان أو تراكيب صوتية ولغوية، وما إلى ذلك.

ولا شك في أن غاية الشكلانيين جميعا غاية نبيلة، لأنهم أرادوا أن يحيلوا نظر المتلقي أو الناقد للعمل الفني إلى العمل ذاته، بحيث لا ينصرف عن القيم الفنية والجمالية المتضمنة في العمل، وينظر إليه من خلال أطر ومعايير غير فنية أو جمالية. ولكن الموقف الشكلاني لا يفهم أنه بذلك يعزل الفن عن العالم والحياة، فحينما نقول إن الفن يكون دالا على شيء من الوجود والعالم والحياة الإنسانية، فليس معنى ذلك أننا حينما نتأمل دلالة الفن، فإننا بذلك ننصرف عن العمل الفني (أي: اللوحة، أو النص، أو المقطوعة الموسيقية، إلخ) إلى شيء ما خارجه، بل إننا ندرك هذه الدلالة في العمل ذاته. وحتى الفن التجريدي نفسه لا يكون مجردا من الدلالة على شيء من معنى الحياة وحقيقة الوجود، ولكنه يعبر عن ذلك بطريقة مجردة، أعني من دون الإشارة إلى شيء محدد مستمد من الواقع والحياة الإنسانية، وعلى هذا النحو ذاته ينبغي أن ننظر إلى الموسيقى الخالصة التي لا تصور موضوعا أو شعورا محددا، ولكنها تعبر عن الشعور بطريقة مجردة، أعني تعبر عن الشعور نفسه من دون تجسيده في موضوع معين. وإذا كان هذا هو حال الفنون التجريدية، فما بالك بالفنون التمثيلية: كالأدب على سبيل المثال. والحقيقة أننا من خلال الأدب -كما لاحظ ميرلوبونتي- نتعرف على معنى وجودنا الإنساني، وعلى الذات والهوية، والآخر، والحرية، وعلى سائر المشاعر الإنسانية. ومن هنا استطاع ميرلوبونتي أن يتحدث عن الصلة القوية بين «الميتافيزيقا والرواية» في مقال شهير.

إن ما ذكرناه الآن هو ما يشكل السمة الرئيسة التي تميز الأعمال الفنية والأدبية العظيمة. وإن شئنا مثالا مباشرا على ذلك، فلنتأمل أعمال نجيب محفوظ التي جعلته يحتل تلك المكانة الكبرى في الرواية العربية، رغم كل الهجمات التي حاولت التشكيك في قيمة أدبه من جانب صغار الكتاب. إن السرد في أدب نجيب محفوظ لا تكمن قيمته في البناء الروائي وحسب، بل تكمن قيمته -في المقام الأول- في تلك القدرة الفائقة على تجسيد حالة أو دلالة إنسانية عامة كما تتجلى في حالة خاصة: فشخصية «حميدة» في رواية «زقاق المدق» -على سبيل المثال- هي شخصية المرأة حينما تسقط في أثناء تطلعها الطبقي، وهي شخصية تُوجد في كل زمان ومكان، ولكنها في رواية نجيب محفوظ تظل حالة مصرية خاصة تحيا في زمان ومكان معينين وفي مرحلة معينة من التاريخ السياسي والاجتماعي لمصر، وهذا أمر يمكن أن يتعرف عليه حتى الجيل الذي لم يعش تلك المرحلة، وكأنه بذلك يتعرف على شيء من تاريخه وهويته.

وعلى هذا يمكن القول إن النزعات الشكلانية في الفن التي أفضى إليها عصر الحداثة، هي نزعات جردت الفن من الدلالة على معانٍ تتعلق بحقيقة الحياة والوجود الإنساني، أو على الأقل أفضت إلى حالة من سيولة المعنى أو اختفاء الدلالة التي لا يمكن التعرَّف عليها، كما هو الحال فيما تلا ذلك من نزعات تسمى «فن ما بعد الحداثة». ومن هنا يمكن أن نفهم مقولة هيجل الشهيرة التي تنبأ فيها «بموت الفن». غير أن هذه المقولة لا ينبغي أن يُساء فهمها على أنها تعني «انتهاء الفن»؛ لأن ما كان يعنيه هيجل هو أن الفن لم يعد يضطلع بالدور الذي كان يقوم به في التعبير عن العالم الإنساني وقضايا الوجود الكبرى. ومن هنا أيضا يمكن أن نفهم تأكيد هيدجر فيما بعد على أصل الفن أو ماهيته التي تكمن في التعبير عن حقيقة الوجود التي تتجلى في الموجود.

*كاتب مصري