الفنان الفرنسي جان هونوري فراجونارد «1732-1806»، يعدّ أحد الرسامين الكبار في تاريخ الفنون، وينتمي إلى مدرسة الركوكو التي كانت سائدة وغالبة في ذلك الوقت، وهي تتسم بالبساطة وتبتعد عن المواضيع ذات الطابع الملحمي والدرامي، فقد كان الفنان نفسه يميل إلى زخرفة لوحاته بأسلوب بسيط؛ إذ يعدّ هذا التيار اتجاهاً يعبّر عن مرحلة نتجت عن عصر التنوير، انتقل فيها الفن من تناول المواضيع الأسطورية والدينية، إلى التركيز على التعبير عن الحياة ومواضيعها ووقائعها ومشهدياتها المختلفة والمتنوعة، وقد أقبل الفنان على تلك العملية بحس برجوازي، خاصة أن الطبقة الوسطى في ذلك الوقت كانت تعلي من شأن الفنون، وقد أراد معظم الرسامين التقرب إليها.
أنتج فراجونارد الكثير من الأعمال الفنية واللوحات، بلغت أكثر من 550 عملاً، وعكس معظمها طبيعة حياة الطبقة البرجوازية، غير أن الفنان خط لنفسه طريقاً مختلفاً عن كل معاصريه من حيث الأساليب والأدوات الفنية والتعبير عن الواقع، فكان أن تفوق على الجميع، ويشير عدد من النقاد إلى أن فراجونارد قد نجح في تأسيس أسلوب خاص وحاد في الرسم، يتميز بالتقاط لحظة معينة ويترجمها إلى عمل فني بديع؛ حيث اشتهر بالبراعة والإتقان والانفتاح على كل جديد في عالم الفنون، وهو الأمر الذي لفت أنظار المؤرخين والنقاد الذين أشادوا كثيراً بالإضافات التي قدّمها لفن الرسم؛ حيث صار لفراجونارد الكثير من المعجبين، وهنالك العديد من الفنانين الذين تأثروا به.
لوحة «القارئة الحسناء»، أو «الفتاة تقرأ»، التي رسمها فراجونارد بألوان الزيت على القماش عام 1772، هي أشهر وأفضل وأهم أعماله وأكثرها شعبية، حيث ظلت تستخدم في تزيين البيوت والمكاتب والمقاهي في مختلف أنحاء العالم، وهي تنتمي إلى أسلوب ومنهجية الفنان ضمن تيار فترة الركوكو، الذي بث الحياة في الفن الفرنسي أواخر القرن الثامن عشر؛ حيث تمثل فراجونارد أساليب الركوكو إلى درجة أن قال عنه النقاد، إن أعماله خير ممثل لذلك التيار، وهذه اللوحة تقف شاهداً على ذلك؛ فهي تتسم بالبساطة، وتعطي انطباعاً بالأناقة والرقة، وصارت تحتل مركز القمة في أعمال الفنان، رغم بساطة محتواها، وأصبحت ضمن الأيقونات الفنية العالمية، وهي إحدى اللوحات التي لطالما جذبت المهتمين بالفن التشكيلي على مر العصور، ولا تزال قبلة الزوار للمعرض الوطني للفنون فى أمريكا، حيث تقبع هناك.
وصف
تظهر في مشهد اللوحة فتاة جميلة محمرة الوجنتين بفستان طويل أصفر «مشمشي»، مع ياقة باللون الأبيض، تجلس على كرسي، وتتكئ على وسادة بيضاء، وتعقد شعر رأسها بشريط أرجواني اللون، تضع يدها اليسرى على حافة الذراع الخشبي للكرسي، وهو أمر يعطي إحساساً بالراحة، بينما تمسك باليمنى كتاباً، وتتوجه أنظار الفتاة نحو صفحات ذلك الكتاب، ويبدو أنها منهمكة تماماً في عملية القراءة، ومنعزلة عن كل شيء ما عدا محتوى المؤلف الذي تقلب صفحاته، وتتميز الفتاة بالملابس البسيطة الأنيقة، وتتسم بالهدوء والرزانة، ومن الواضح أنها تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ويبدو أن الفنان بذل جهده وبراعته الفنية في منح اللوحة بُعدين، هما جمال الفتاة وجمال القراءة.
وعلى الرغم من أن هوية هذه الشابة غير معروفة، فإنها أصبحت نموذجاً للجمال الملهم، فقد أراد فراجونارد لفتاته أن تجمع بين جاذبية الشكل والمظهر، بتركيزه على نعومتها وأناقتها، وكذلك جمال الجوهر، والذي يتمثل في كونها قارئة محبة للمعرفة، ويشير النقاد إلى أن الفتاة تبدو شغوفة بالاطلاع، فهي تقريباً لا تحمل مؤلفاً أكاديمياً بغرض الدراسة والتحصيل المدرسي؛ إذ من الواضح أن القراءة هي هوايتها، ويستدلّ النقاد على ذلك الأمر بأن اللوحة لا تحتوي على أدوات التحصيل والكتابة كالورق والأقلام، بالتالي القراءة في هذه اللوحة تبدو عادة يومية بالنسبة للفتاة، ويؤيد تلك الفرضية حجم الكتاب الصغير الدال على رواج الروايات التي انتشرت أواخر القرن الثامن عشر.
تفاصيل
يشير بعض النقاد إلى أن الحائط الخلفي الداكن بالإضافة للوسادة المستخدمة كمسند للظهر منحا المشاهد انطباعاً بأن الفتاة تجلس جلسة مستقيمة، وتدل على أنها من الشخصيات المحافظة، وذلك يتضح من خلال ثيابها المحتشمة، وقد استعان الرسام بعدد من الألوان، في مقدمتها اللون البني في الخلفية، وذلك ليجعل المشاهد في تركيز كامل على مشهد الفتاة المستغرقة في القراءة، ليجد نفسه مشغولاً بعدد من الأسئلة حول الكتاب الذي تقرأه، كما أن اللون الأصفر في ثوب القارئة يزيد اللوحة أناقة وألقاً، وتظهر الأشرطة البيضاء حول الرقبة واليدين بارزة ونقية ضد الخلفية البنية، وذلك التناقض اللوني هو ما صنع أناقة اللوحة وأعطى انطباعاً بعمق مشهدها؛ حيث إن العمل يحيل القارئ إلى عوالم من الرقة والشعور بالراحة والسكينة والهدوء، وذلك كله من المميزات الأساسية لفن الركوكو.
ويلفت عدد من المؤرخين إلى أن الفنان أراد أن ينقل بصدق وعمق سمات الطبقة البرجوازية، والتي كانت تعلي من شأن الاطلاع والمعرفة، فدائماً ما يشار إلى أن هذا العمل استخدم في الترويج لحب القراءة والاطلاع، وكذلك لإبراز سحر الفتاة، وكأن الفنان أراد أن يقول، إن الجمال الحقيقي لأي فتاة يكمن في العلم والفضيلة؛ لذلك عمل على رسم لوحة تزهر فيها فتاة مشعة بنور المعرفة.
منعطف
العمل يعبر عن مرحلة انتقالية في حياة الفنان، أو العصر الذي عاش فيه، حيث كانت تسيطر اللوحات الكبيرة التي توجهت نحو عوالم الميثولوجيا والمعتقدات الدينية، ولكن بفضل منعطف التنوير الكبير، توجّه الفنانون نحو ممارسات إبداعية جديدة تعبر عن ذلك الانتقال، ومن ضمنهم فراجونارد، لذلك اعتبرت لوحته هذه نموذجاً متقناً لتمثل تيار الركوكو، وتقف شاهدة على براعة الفنان الكبيرة في توظيف درجات الإضاءة من حيث السطوع والظلال، إضافة إلى إتقانه لعبة توزيع الألوان، الأمر الذي منح اللوحة الكثير من الحيوية، وقد نجح الفنان نجاحاً باهراً في جعل هذا العمل باقياً وخالداً كما أراد له، وقد تناوله العديد من النقاد، وتحدث المؤرخ الفرنسي تيوفيل توري عن تلك اللوحة قائلاً: «تجسد اللوحة سحر الوجه لفتاة صغيرة، ببشرة رقيقة، مثل الخوخ، وهي ترتدي ثوباً فاتحاً من حيث اللون، أصفر ليمونياً، يعكس سطوع الفستان وتوهجه، ووسادة بظلال أرجوانية عميقة تبرز حيوية الصورة».