يعبر بنا الرسام الأمريكي إدوارد هوبر «1882 1967»، نحو عوالم شديدة الخصوصية، ويسلط الضوء على مناطق غير مكتشفة في النفس البشرية، مع تناول عميق وفلسفي لمتغيرات العصر وأثره في الإنسان والذي يلجأ إلى العزلة والصمت الرهيب كملاذ له من قسوة العالم المحيط، حيث تتعثر الصلات بين البشر، وهو فنان واقعي اشتهر بتصوير المشاهد العادية من حياة المدن، الفنادق والقطارات والناس الذين يعانون الوحدة ومن هم مجهولو الهوية في المدن الكبرى، ويركز في أعماله الفنية على تجسيد اغتراب الإنسان.
تنطلق أعمال هوبر من موقف ورؤية، ووجدت على الدوام اهتماماً كبيراً من قبل النقاد ومحبي الفن حول العالم، فإلى جانب كونه واحداً من أهم وأبرز التشكيليين، فهو كذلك قد اشتهر بتلك اللوحات التي تتناول المجتمع الأمريكي بمنظور مبتكر ومختلف، حيث يشار دائماً إلى أن ذلك المنظور هو الذي بدد ما يعرف بالحلم الأمريكي، ولديه مقولة شهيرة تعكس فلسفته في الرسم، تلك التي تقول: «يمكن القول بشكل عام، إن أعظم مكان يمكن أن يتبوأه فن أمة ما، هو عندما يعكس طابع وشخصية ناسها»، ومن أبرز لوحات هوبر: «أناس في الشمس»، «منزل بجوار السكة الحديدية»، «حجرة في نيويورك»، «رحلة إلى الفلسفة»، «الشمس في الحجرة الفارغة»، «الصيف في المدينة»، «مقعد بالسيارة»، «غرفة في فندق»، و«شمس الصباح»، وقال عنه أحد النقاد: «لقد استطاع هوبر أن يجعل من واقعيته شيئاً يفوق في جوهره أكثر اللوحات السريالية خيالا».
لوحة «صقور الليل»، التي رسمها عام 1942، هي أهم أعمال هوبر وأكثرها شعبية، وتقف شاهداً على براعته ومقدرته على الالتقاط، فهي تنتمي إلى أسلوبية ومنهجية وفلسفة الفنان في هجومه الكاسح ونقده اللاذع للعالم الحديث، وما يفرزه من قسوة وصعوبة في الحياة الاجتماعية والتواصل بين البشر، حيث تهيم الكائنات البشرية وحيدة ومعزولة عن بعضها بعضاً، وتعجز عن إقامة جسور تواصل، ليصبح التشظي هو الموقف السائد، وقد رسمت تلك اللوحة بينما هناك عالم جديد يتشكل، ولعل عوالمها تشبه تماماً واقع اليوم في عصر العولمة الراهن وسيادة ثقافة الاستهلاك على النمط الرأسمالي، وهو الأمر الذي يجعل اللوحة شديدة الراهنية وتعبر تماماً عن إنسان اليوم حيث يعيش البشر في جزر معزولة، يعانون الاغتراب والانفصال عن واقعهم، خاصة بعد ظهور الثورة الرقمية، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، حيث صار العالم الافتراضي بديلاً عن الواقعي الذي يفر منه المرء. تشير اللوحة إلى الوحدة القاتلة التي انتشرت مثل الوباء في زمن الصعود الأمريكي في منتصف أربعينات القرن الماضي، لتفضح تلك الفجوة العميقة بين مظاهر التحديث والعصرنة ووحشة الإنسان.
* وصف
يظهر في مشهد اللوحة أناس في مطعم بوسط المدينة في ساعة متأخرة من الليل، وقد هدأت الحركة تماماً، إذ ذهب معظم الناس إلى منازلهم، وتبرز شخصيات في اللوحة، هي البائع الذي ينحني وكأنه يهم بتنفيذ طلب لأحد الزبائن، بينما هناك امرأة على يمين اللوحة ترتدي فستاناً أحمر بشعر أصهب، وإلى جانبها كوب، يشار إلى أن معظم نماذج الشخصيات النسائية في لوحات هوبر هي مستوحاة من زوجته جوزفين نيفيسون التي كانت زميلته في مدرسة الفنون، فيما يجاورها رجل ببدلة زرقاء وقبعة وأنف ضخم، ويقال إن اسم اللوحة مستوحى من هيئة أنف هذا الرجل التي تشبه منقار الصقور، بينما يجلس رجل يعطي ظهره للمشاهد، وهو الآخر يرتدي بذلة وقبعة، ويبدو على الجميع أنهم غرباء على المدينة، إضافة لكونهم يعانون الوحدة، وتبرز في هذه اللوحة براعة هوبر في التلاعب بالمساحات وتوظيف الضوء والظل والألوان لخلق بعد درامي، حيث استخدم في هذا العمل مزيج من اللون الأصفر والأحمر والأخضر والبرتقالي والبني، بحيث يظهر شكل المطعم بطريقة واضحة وواقعية، وجاء توظيف الإضاءة بطريقة تجعل الكآبة تتسلل إلى المشاهد، فهي تعكس ذلك الفراغ النفسي الكبير الذي يعيشه هؤلاء الأشخاص.
استوحى هوبر هذا المشهد، من مطعم في شارع غرينتش في نيويورك، والمكان ملتقى لشارعين، ولعل الملاحظة الأبرز في اللوحة أن الشخصيات الثلاثة تجلس في صمت تام، وهناك صعوبة في التواصل بين الشخصيات رغم وجودها في مكان واحد وقريبة من بعضها بعضاً، وهذه العزلة هي سمة من سمات ذلك الوقت في كل مدن الولايات المتحدة الأمريكية، فاللوحة تركز على غربة وضياع هؤلاء الأشخاص الذين تقودهم مصائرهم إلى المدن الكبيرة، فيعيشون في متاهة.
وعلى الرغم من أن الكثير من الفنانين الأمريكيين في تلك الفترة، قد اتجهوا نحو تصوير الحياة الحديثة التي بدأت تطل على الولايات المتحدة، بألوانها اللامعة، إلا أن فلسفة هوبر كانت تقوم على أن ذلك اللمعان زائف، بل هو قناع يخفي خلفه حياة شديدة البؤس، لذلك فضل أن يتناول حقيقة ذلك المجتمع الحديث القاتم في لوحاته، حيث كان يرى أن ما يعرف بالتمدن والحداثة هو وهم وبه قدر غير يسير من اللا إنسانية، وذلك أمر نقيض للتحضر، لذلك دائماً ما اعتبرت لوحات هوبر بمثابة تشريح وافٍ لواقع الإنسان وأزمته في الأزمنة الحديثة، حيث تحتشد كمية من الأمراض النفسية. جاء العمل أقرب إلى هجائية ساخنة تجاه مجتمع غرق في الملذات حتى ضاعت إنسانيته أو كادت.
* تأثير
هذه اللوحة وجدت صدى ومردوداً كبيراً على المستوى الشعبي، حيث رغب الجميع في اقتنائها لما تنطوي عليه من رؤى وأفكار، وفيما يتعلق بالنخبة ومجتمع الفنانين والمبدعين، فقد كانت هذه اللوحة من أكثر الأعمال التي تم استلهامها ومحاكاتها وتقليدها، فالجو العام للعمل جاء شبيهاً بفضاء الأفلام التي أنتجت في هوليوود في أربعينات وخمسينات القرن الماضي التي تتحدث عن القصص البوليسية وعالم الجريمة الذي كان منتشراً في ثلاثينات القرن الماضي في أمريكا، وقد استلهمت اللوحة نفسها في صناعة أفلام تتناول تلك الحقبة، وكذلك في أعمال موسيقية، كما قام عدد من الروائيين بتوظيف اللوحة في أعمال سردية.