يعد عالم الفن التشكيلي عالمًا غامضًا مقارنةً مع عالم الأدب الأكثر انتشارًا بين الناس والأكثر حضورًا إعلاميًا عبر المحطّات الفضائية والصّحف الرّسمية، وكذلك أكثر غموضًا من السينما التي وبالرغم من سحر عوالمها الخفيّة إلا أن المعجبين بأبطال شاشتها ومخرجيها لا يتركون تفصيلًا ينجو من فضولهم، فيحصلون عليه ويحللونه ويشرّحونه ضمن إمكانياتهم؛ أما متابعو الفن التشكيلي ومتلقوه فهم قلة، مهما سبروا غمار هذا العالم فلن يُنتهك غموضه وذاك عائدٌ؛ لأن المتابعين يكتفون بمشاهدة النتاج الفني ويحاولون معرفة مدرسته وطرائق تنفيذه، فيجدون عالم الفن عالمًا يسير باتجاهٍ واحد ضمن مسارات متجاورة وهي إنجاز عملٍ فني يعبّر عن فكرةٍ ما أو تصوير واقع أو حدث أو ربما يبحث عن جماليّة صرفة، ما يعنيه الهمّ الفكري أو التفاصيل التقنية الجماليّة وطريقة تنفيذها التي تضوي العمل الفني تحت راية إحدى المدارس الفنية فيكون واقعيًا، تعبيريًا، انطباعيًا، سرياليًا… ، أو بحسب معالجة فكرته فيكون مفاهيميًا أو تركيبيًا، تقليديًا كلاسيكيًا…. دون أن يكون للعمل مستوى آخر، وهذا بالطبع غير دقيق؛ لأنّ العمل الفني يملك مستوى ثانيًا يسير بالتوازي مع مساراته حاملًا بين جنباته مغامرةً شعوريّة يقدّمها للمتلقي، فالفنان كالمخرج السينمائي إلى حدٍّ ما، يعالج الفكرة بطريقته، يحضّر الديكور ويوزّعه، ويوزّع ممثليه الثابتين بأماكنهم، الإضاءة تُدرس جيدًا والصوت يُحتفظ به داخل فقاعةٍ تنفجر في رأس المتلقي إذا ما أحسن تأمّل العمل المعروض أمامه، مدة العرض هنا مفتوحة ليست ساعة أو اثنتين أو ثلاث… تستطيع أن تتأمل المشهد قدر ما تشاء، والأهم أنه يحدد أسلوبًا خاصًا لمعالجة الفكرة في عمله، فقد يضعه بقالبٍ ساخر يجعل المشاهد يبتسم ملء فيه كفيلم كوميدي، أو يختار قالبًا رصينًا إن كان العمل تاريخيًا أو دينيًا فتتلقى العمل بسكينةٍ وحبور، قد تصرخ وتفتح عينيك خوفًا وأنت ترى عملًا مرعبًا بشخوصٍ مشوّهة، وربما تسرح بخيالك بعيدًا وأنت تشاهد لقطة من عالم الخيال العلميّ ماثلةً أمامك، سترتفع روحك عاليًا وأنت تدندن أغنية عاطفية بعد مشاهدة عملٍ رومانسي يحملك لمكانٍ أرحب وأجمل ويعيد ثقتك بالحب.
ولتتوضّح الفكرة التي أقصدها ولا تبقى كلامًا على ورق، سنذكر هنا أمثلةً عن كلٍّ من الأساليب المذكورة وكيف تمت المعالجة التقنية لينحو العمل نحو أسلوبٍ معينٍ دون سواه لمعالجة الموضوع.
لوحات كوميدية:
وهي لوحات فنية – بالطبع ليس المقصود بهذا النوع الرسوم الكاريكتيرية- بل هي لوحات فنية، أو منحوتات، أو فنونًا ما بعد حداثية تنفذ لمعالجة مواضيع مهمة بأسلوب لطيف يرسم الابتسامة على وجه المتلقي، لكن ليس الهدف منها الضحك بل إيصال المقصود ضمن حالة من الفرح التي تتكوّن عند الملتقي أثناء مشاهدة العمل، وأول ما خطر على بالي هو الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو الذي غادرنا منذ فترةٍ قريبة عن عمر ناهز 91، صوّر خلال حياته الكثير من الشخصيات وعرض حياة المهمشين والطبقة الوسطى، نفّذ أفكاره بأسلوبه المميز في رسم الشخصيات بأجسادٍ أتخمتها السمنة بصورة مبالغة بها مما جعلها أعمالًا تمنحك ابتسامة من القلب، وذاك الانطباع الأول الذي يصلنا عند مشاهدة رسمته للموناليزا بعمر 12 عاماً، ربما يكون رسمها في الدرجة الأولى بقصد السخرية من العمل الأصلي والقداسة المحيطة به، واستخدم أسلوبه المميز لإيصال ذلك، فهي تجلس برصانة وبابتسامةٍ ساحرة، لكنها طفلةٌ منتفخة من السمنة، وكذلك عند مشاهدة تماثيله المكوّرة كالمرأة الممدة على بطنها، والقطة الضخمة الواقفة بثباتٍ وشموخٍ كأسد اللات، أول ما يحدث لنا عند تأمل العمل هو أن نبتسم ثم نفكر بما ستدخله الابتسامة إلا عقلنا.
لوحات مرعبة :
استخدمت مفردة (مرعب) لتكون مماثلة للوصف الذي يلحق بالأفلام السينمائية، فالأعمال الفنية مهما بلغت من درجات الإخافة إلا أنها لن ترعب المتلقي حقيقةً.
تطلّ كلابٌ شرسة الآن أمامي هاربة من أعمالٍ للفنان السّوري «عمران يونس» من المجموعة التي نفّذها خلال سنوات الحرب السورية، هذه الكلاب كائنات مشوّهة بوجوهٍ مخيفة، تندمج ضمن ألوانٍ قاتمةٍ، تشاهد الأعمال فيخفق قلبك وترغب بالابتعاد، لتعود لاحقًا وتحاول أن تعرف أن ما أخافك العمل نفسه وشخوصه، أم أن ذاكرتك استحضرت صورها الخاصة وحاصرتك وأبعدتك عن الأعمال لتنفرد بك لاحقًا.
وإذا ما ذكرنا أعمال الحرب ومجازرها لابد أن نتذكر لوحات «غويا» وكيف تجعل القلب يرتجف وأنت تشاهد البنادق مصوّبة نحو العزّل شأنها شأن ما يجري في كلّ البلدان المنكوبة بالحروب، المخيف هنا الموضوع، فالأشخاص طبيعيون لا يوجد تشويه ولا مبالغات شكلية والألوان هادئة قاتمة تمنح أفقًا سوداويًا للعمل.
وقد يخاف البعض من لوحة مونك «الصرخة» أو يشعر بالرهبة أمام صرخةٍ مسموعةٍ في كلّ أنحاء العالم، أمام الألوان المستخدمة في الدوامات اللونية التي تسحب المتأمل شيئا فشيئا وتهدده بالتلاشي داخلها، وأخيرًا الخوف يكتمل أمام الشخص الذي يحمل من الخوف ما يمكن توزيعه على كلّ من يشاهده ولا ينفد زاده مهما كثروا.
وقد تثير الرهبةَ أعمالٌ مفاهيمية أو تركيبية كعمل الفنان chiharo shiota الذي يحيط الأشياء بشباك عنكبوت (البيانو، القارب، فستان العرس…) فيتسلل الخوف لداخلك وكأنك دخلت لعالمٍ مهجور منذ سنوات طويلة بما سمح لأجيالٍ من العناكب ببناء مستعمراتها الخيطيّة، تتفحص جسدك بعد الانتهاء من تأمل الأعمال وتتساءل هل بدأت العنكبوت بنسج خيوطها حولك!
لوحات تاريخية:
وهي أعمال تصوّر واقعةً تاريخيةً أو تحكي قصةً حقيقيّةً بأسلوبها الخاص، تتميّز هذه الأعمال برصانة المدرسة الكلاسيكية الواقعية في الأشكال والألوان والابتعاد عن المبالغات فهي ككتب التاريخ تقدّم مادةً دسمةً بلغةٍ مباشرةٍ واضحة، كلوحة معركة واترلو لوليام هولمز سولفيان، مفرداتها جليّة: سماء ملبّدة بغيومٍ بنية تحمل المطر المنتظر، تعتبر انعكاسًا لساحة المعركة المليئة بالأشخاص المتحاربين والمحمّلة بدماءٍ قادمة ستمطر أيضاً، خيول تكاد تسمع صوت صهيلها، جنودٌ على امتداد المساحة وإيماءات الجنود تجعلنا نظن أننا ضغطنا زر (إيقاف) لنشاهد ما يجري وما أن نعيد التشغيل ستكمل المعركة أحداثها.
وكذلك لوحة قتل أرخميدس للفنان توماس دي جورج تصوّر الحادثة التي قتل خلالها «أرخميدس» بعد أن احتُلت مدينته من قبل الرومان أثناء غرقه في مسائله فلم يعلم ذلك، حتى دخل عليه جندي وأمره بأن يتبعه، فطلب منه أرخميدس أن يمنحه القليل من الوقت ولا يفسد عمله، مما أثار غضب الجندي فاستلّ سيفه – اللوحة تصوّر هذه اللحظة من الحادثة بالضبط – وطعنه.
وهناك لوحات البورتريه التي تختصر مراحل زمنية، أو حوادث تاريخية من خلال ملامح وجه الشخصية المرسومة التي تحكي القصة بشكل غير مباشر، كطرق تعليم الأطفال، تريك الشخص وتتركك تكتشف الحكاية من تعابير وجهه، مثل لوحة بورتريه منتشرة لآخر ملوك الأندلس أبي عبدالله الصغير الذي نشاهد وجهه الخائف وتقاسيمه المنكسرة نرى يده التي تبرز من تحت العباءة وتتمسك بها وكأنها آخر ما بقي له، الألم واضح حتى نكاد نسمع في خلفية المشهد المقولة المنسوبة لوالدته عائشة «ابكِ كالنساء ملكًا لم تدافع عنه كالرّجال».
ومن الأمثلة الواضحة أيضًا في اللوحات التاريخية هي لوحات المستشرقين الذين رسموها لتوثيق بعض المناطق في الشرق، أو التقاليد والعادات كلوحة (صيد الصقور) للفنان المستشرق الفرنسي أوجين فرمنتان، وتتميّ. اللوحات التوثيقية بكثرة تفاصيلها والاهتمام بالحدث وما يحيط به من بيئة.
لوحات دينية:
وهي فرع من اللوحات التاريخية إلا أنها تختصّ بالموضوع الديني والعقائدي، فنجد مريم العذراء والمسيح حاضرين في الكثير من الأعمال الفنية وخاصةً في فترة عصر النهضة، مثل لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي، تصوّر المسيح مع تلاميذه على طاولة العشاء ويهوذا الإسخريوطي بينهم، الأجساد تصنع مع بعضها تكوينات متوازنة تمنح العمل استقرارًا وتشي بالمتهم.
وتعتبر لوحة المسيح المخلص لدافنشي أيضًا أغلى لوحةٍ في العالم حاليًا وهي تجسّد المسيح جالسًا رافعًا يده اليمنى، وفي اليسرى كرة زجاجية.
وكذلك لوحاته «عذراء الصخور» «العذراء تغزل النسيج» «العذراء والطفل مع القديسة آن» وغيرها الكثير تركز على الأحداث والقصص الدينية وأبطالها.
أما رسم الأيقونات فهو مختلف، إذ أن الهدف منه تزيين جدران الكنائس فهو جزء من الطقس الديني، وليس فنًا مستقلًا بحمولةٍ دينيةٍ يريد إيصالها للمشاهد من خلال الموضوعات التي يختارها.
بالطبع لا توجد لوحات دينية إسلامية تنحو بنفس طريقة هذه الأعمال وذلك لتحريم التصوير والتشخيص للإسلام وخاصةً للنبي محمّد.
لوحات خياليّة:
في الألفية الثالثة ما زلنا نشاهد أعمالًا فنيةً تعود لبداية المدرسة السريالية إلا أنها تحمل من الخيال والتصوّرات المستقبلية لا يزال غريبًا علينا، فخيال بعض الفنانين يسبق التطور البشري بسنوات، كأفلام الخيال العلمي تشاهدها بدهشة وتوجس، هل هذا ما سيحمله المستقبل؟، وكأنك أمام كرة زجاجية تبصر غد العالم بكائناته الجديدة ومساحاته الغريبة وتضاريسه التي لا تشبه ما نعرفه.
أعمال سلفادور دالي على سبيل المثال تصوّر عالمًا موازيًا يشترك مع عالمنا ببعض التفاصيل،
صحراء بفيلة وأحصنة لكنها تملك أرجلا طويلة ومستدقة للغاية ترفعها عاليًا، تحمل هوادج يعلوها تماثيل كلاسيكية، في أعمالٍ أخرى نرى أجسادًا بشريةً لكنها ذائبة ومرتخية فوق أغصان الشجر، جمجمة في محجري عينيها جمجمتين أصغر في محجريهما جماجم أصغر فأصغر، كائنات بمواصفات جديدة وبيئةٍ جديدة يصنعها خيال الفنان.
وهناك عمل فني تركيبي أنجزه أستديو راندوم إنترناشونال يسمى بالغرفة الماطرة عرض أول مرة في لندن 2012، ليقام في الشارقة بشكل دائم وحصري تسير داخلها دون أن تتبلل فالمطر ينقطع في المكان الذي تقف فيه، أي خيال يحمله هذا العمل، وكم سيكون ممتعًا أن يكون هذا الخيار متاحًا في شتاءاتنا المستقبلية فنستطيع التجوال في الشتاء في الجو الماطر بلا صحبة مظلة.
بالتأكيد ستكون الأمثلة التشكيلية التي تنتمي لعالم الفيديو آرت هي الأكثر وضوحًا من سابقاتها وذاك لتشاركها مع السينما بعدد من الأدوات؛ فنجد الفضاء قد تحوّل لبحرٍ مليءٍ بالأسماك كبيرة الحجم، أو ربما السمك نسي غلاصمه وراح يتنفس ويحلّق كالعصافير وذلك في فيديو بعنوان «Hypoxia» للفنان الدنماركي martin garde Abildgaard.
لوحات رومانسية:
الأعمال الرومانسية إما أن تصوّر أجواءً حالمةً تحملنا لعالمها بسرعة كأعمال مونيه الذي يصوّر مشاهد من الطبيعة بطريقةٍ ساحرة تسمو بالمتلقي لعالم أجمل وأرحب وأكثر خفةً وجمالًا من واقعنا الثقيل وتستخدم ألواناً مليئةً بالحياة لتمنح العمل بعدًا روحيًا، كلوحة زنابق الماء وهي لوحةٌ خضراء سندسية – كوصف الجنان في الكتب المقدسة – تحمل الغابة وانعكاسها على وجه النهر حيث تسبح الزنابق المائية، وما يفصل الأصل عن الانعكاس جسرٌ منحنٍ لا يشذ عن المجموعة اللونية، وكذلك لوحة حديقة مونيه في جيفرني التي لشدة سحرها صارت مزارًا للسيّاح إلى يومنا هذا، هذه الأعمال رومانسيتها تأتي من مجموعتها اللونية ومن عناصرها التي تعتبر مجموعة دوال تكوّن مدلولاتها في ذهن المتلقي –وفق التأويل السيميائي- فالأزهار دال والحب مدلولها الذي ينشأ في ذهن المتلقي.
بينما هناك لوحات مباشرة تصوّر مشهدًا رومانسيًا كاللوحة الأشهر لكليمت «القبلة» التي تصوّر رجلًا وامرأة تجمعهما قبلة فيزهر المكان من حولهما، وكأن الحب وقودٌ للحياة لتشتعل ليس في العمل فقط بل في قلب المتلقي كذلك.
وهناك أيضًا لوحات تصوّر الجمال البشري الصرف كما في لوحات العاريات ليوسف عبدلكي اللاتي يحملنَ بحضورهن من الخفة والرومانسية ما يبعدنا عن واقعنا الثقيل وما يكتنفه من ثقلٍ وبشاعة.
في النهاية، مهما كان الشعور المتوّلد داخلنا بعد مشاهدة العمل الفني التشكيلي سواء أكان فرحًا، خوفًا، تأملًا، حزنًا، حلمًا…. المهم أنه غيّر داخلنا شعوريًا، وأدخلنا في تجربة أو مغامرة عقلية أو روحية ونحن في مكاننا، فنحن بعده لسنا كما كنا قبل مشاهدته بدقائق قليلة، إذن ذاك برهانٌ جليّ أن للفن أثرًا آنيًّا مباشرًا نلاحظه على الفرد المتلقي، والأسلوب الذي ينتقيه الفنان لعمله الفني هو ما يحدد هوية هذا الأثر وعمقه وديمومته، وذاك الأثر يعتبر بدوره خطوةً أولى في صنع تغيير حقيقيّ لاحق على الفرد وبالتالي على المجتمع بوصفه مجموعة أفراد مؤثرين ببعضهم ومتأثرين بما يحيطهم من بيئات طبيعيّة وصناعية تتضمن نتاجات الأدب والفنون بأنواعها.