تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أسئلة وافتراضات حول لوحة فيرمير الملقبة بجوكوندا الشمال

أسئلة وافتراضات حول لوحة فيرمير الملقبة بجوكوندا الشمال

حكايتنا هنا تتعلق بالرسام الهولندي يوهانس فيرمير (1632 – 1675) وبالتحديد بواحدة من لوحاته باتت تعتبر اليوم الأكثر شهرة “الفتاة ذات اللؤلؤة” التي رسمها، عام 1665، لكن الحكاية لن تبدأ في الزمان الذي عاش فيه فيرمير ورسم تلك اللوحة، بل في زمننا الحاضر هذا، وقبل عقدين ونيف من الآن، وهي تبدأ مع كاتبة أميركية شابة تدعى تريسي شوفالييه حدث لها يوماً، وهي المولعة بفن فيرمير وغيره من كبار رسامي العصر الذهبي الهولندي، أن اشترت ملصقاً يمثل لوحة فيرمير هذه علقته في غرفة نومها في مواجهة سريرها بحيث تتمكن من تأملها في كل لحظة. وفي البداية لم تتنبه الكاتبة إلى أن مقاييس الملصق تزيد بمقدار الضعف تقريباً على مقاييس اللوحة الأصلية، غير أن ذلك لم يهمها كثيراً، ما همها كان مجموعة ضروب غموض في اللوحة راحت يوماً بعد يوم تثير لديها ركاماً من أسئلة شغلت بالها فعجزت عن العثور على إجابات عنها. وفي النهاية وقد تفاقمت لديها ضروب الحيرة قررت تريسي أن تتوجه إلى أوروبا بحثاً عن تلك الإجابات، وهي بعد أن مرت بأمستردام وغيرها من المدن الهولندية استقرت، لحين، في لندن، مدركة أن ثمة بالتأكيد متسعاً لدراسة كل ما كتب عن تلك اللوحة.

أسئلة بالعشرات

كان أول ما شغل بال الكاتبة هوية الفتاة المرسومة: هل هي خادمة أم موديل؟ هل هي واحدة من بنات الرسام؟ هل اللوحة بورتريه تمثل في التالي شخصية محددة؟ ولماذا جعل الرسام الخلفية سوداء تقريباً ومحايدة؟ وما الدلالة التي حاول أن يضفيها على الحلق البارز المتدلي من أذن الفتاة اليسرى؟ وما سر تلك الابتسامة الغامضة المرسومة على شفتيها الممتلئتين؟ ومن أين أتى بريق عينيها المتحديتين مع شيء من الحزن وهي تتأمل، كما هو واضح، متفرجي اللوحة بالتالي تتأمل الرسام نفسه؟ ثم هل هي منهكة أم مرتاحة؟ حزينة أم سعيدة؟ تنتظر شيئاً أو مذعنة ليأس ما؟ كانت تلك الأسئلة التي طرحتها الكاتبة على نفسها منذ لقائها الأول باللوحة تشغلها وتقلق لياليها، وكانت تأمل في أن تكتشف كل ما يتعلق بها وبالحقائق التي ترتبط بتكوينها والغاية منها وخلفيات اللحظة التي تكونت فيها ولماذا؟ في عشرات الدراسات عن الرسام وعمله، بل كذلك عن العلاقة بين الحياة الاجتماعية والسلوك الفردي في ذلك الزمن الهولندي الغريب، غير أنها لم تعثر على ضالتها في أي من الدراسات الكثيرة التي لجأت إليها، ولقد تزامن ذلك الإخفاق مع القرار الذي اتخذته حينها وبكل عناد، في أن تحول الأسئلة والإخفاق إلى عمل أدبي، فهي قبل كل شيء آخر، روائية ولها مئات آلاف القراء في بلادها ولغتها.

الخيال ملاذ أخير

والحقيقة أن ذلك القرار كان هو ما أراحها وجعلها ترى أن في إمكانها أن ترضي فضولها الذي لم يرضه الباحثون والمؤرخون ولا السجلات التاريخية ولا الوثائق الرسمية، وذلك هذه المرة باللجوء إلى معين لا ينضب هو خيالها، ستحول الحكاية إلى رواية خيالية تملؤها بفرضيات تغنيها عما يعجز التاريخ عن قوله، وهكذا كتبت تريسي عند نهايات القرن الـ20، وهي مقيمة في لندن، تلك الرواية التي سيقبل عليها القراء بأكثر مما فعلوا بالنسبة إلى أية رواية سابقة لها “الفتاة ذات اللؤلؤة” التي ما انقضت سنوات قليلة إلا وكانت قد ترجمت إلى 36 لغة وبيع منها ملايين النسخ، ناهيك بأنها أعادت الحياة إلى اللوحة التي راح عشرات الآلاف يتدافعون لمشاهدتها في متحفها الهولندي “مارويثوس” في لاهاي، وكأنها باتت المنافس الرئيس للوحة ليوناردو دا فينشي “موناليزا”، أو “لا جوكوندا” طبعاً، كما راح الهواة يتزاحمون لشراء مستنسخاتها في مقاييسها الحقيقية (40 سنتيمتراً عرضاً و45 سنتيمتراً ارتفاعاً)، أو في مقاسات أخرى ولا سيما بعد أن صار لقبها الشعبي “جوكوندا الشمال الأوروبي”.

وسيصل الأمر إلى أوجه حين يحقق المخرج بيتر ويبر عام 2003 فيلماً مقتبساً من الرواية أسند بطولته إلى سكارليت جوهانسون في دور “ذات اللؤلؤة”، وإلى كولن فيرث في دور فيرمير، والحقيقة أن الفيلم اتبع خطوة بخطوة مسار الرواية التي أبدعها خيال تريسي شوفالييه بصرف النظر عن الحقائق التاريخية التي يمكن أن تكون غير ذلك تماماً، بل هي غير ذلك بتأكيد أية حال، وهو أمر تؤكده الكاتبة مبتسمة وهي تقول “في يقيني أن هذا الخيال ومهما شط بي، يبدو أكثر جمالاً من أي واقع!”.

نظرة غريبة

ولا شك أن الكاتبة كانت محقة بالنظر إلى أن ما من فيلم من هذا النوع، أي نوع الأفلام التي تتحدث عن لحظات معينة في تاريخ الرسم والرسامين، ما كان من شأنه أن يروق للمتفرجين ويعطي للعمل الفني قيمة مضافة بقدر ما فعل هذا الفيلم، ولا طبعاً للقراء بقدر ما كانت فعلت الرواية، بل إن هذه كما الفيلم ضاعفا بالتأكيد من عدد الأسئلة وضروب الغموض والتخمين التي أحاطت باللوحة الأصلية، جاعلة متأمليها يبتعدون وأحياناً سنوات ضوئية عن كل ما كان الباحثون قد تحدثوا عنه في شأنها، لقد حول الأدب والسينما اللوحة التي كانت لا تخلو من بساطة أول الأمر إلى أسطورة، وهو أمر من المؤكد أن فيرمير نفسه لم يسع إليه حين كان يرسم تلك الصبية ذات لحظات صمت وهدوء ناقلاً بألوانه غرابة نظرتها وغموض شفتيها والتفاتتها الجريئة من فوق كتفها، ثم بخاصة تلك اللؤلؤة المتدلية ولو بنزق ما من أذنها تفصح بحسب دراسات اجتماعية عديدة عن معان وضروب سلوك تتجاوز السن التي كانت مفترضة للفتاة المرسومة والتي يمكن طبعاً في الأصل أن تكون واحدة من بنتي فيرمير الكبيرتين!

رسم أجواء العصر الذهبي

وهو أمر لا تنكره الكاتبة ولم ينكره الفيلم حتى وإن كان لهما اختيار آخر يقوم على أن الفتاة، وتدعى غريث، هي ابنة مراهقة لأسرة متواضعة من مدينة دلفت، مدينة فيرمير بالطبع، اضطرتها حاجة عائلتها إلى من يعيلها إلى العمل خادمة في بيت آل فيرمير بعد أن فقد أبوها بصره وبات عاجزاً عن العمل، وهناك، وبشيء من التدرج، تحولت الخادمة الحسناء بعد لقاء أول لها مع فيرمير في مطبخ البيت، إلى مساعدة له في عمله ثم إلى عشيقة له تلهمه في فنه، فيما راح هو يطلعها على أسرار مهنته ويعلمها سر خلط الألوان التي أتت بعض المشاهد الرائعة، في الفيلم بخاصة، لتضعنا من خلال زيارات غريث إلى أسواق وأزقة المدينة، في قلب ذلك المجتمع في لحظات مفصلية من تاريخه الاجتماعي والاقتصادي في وقت كانت تتحول فيه هولندا كلها إلى مجتمع “مركنتيلي” تنمو فيه، خارجة من الفقر، طبقات بورجوازية تعيش وسط وفرة بات إنتاج اللوحات وتعليقها في البيوت الثرية جزءاً من الحياة اليومية، ولا سيما بعد أن كفت اللوحات عن أن تكون لوحات دينية أو زينة للقصور الكبيرة، فاتخذت سمات وجود ديمقراطي هو ما يسمى اليوم بـ”العصر الذهبي” للفن الهولندي.

المؤلفة ليست نادمة

والحقيقة أن هذا كله يصوره لنا الفيلم سائراً فيه على خطى الرواية، ولكن من خلال حكاية تلك العلاقة بين الرسام والصبية التي أجمع كثر من مؤرخي حياة فيرمير بعد قراءتهم الرواية ومشاهدتهم الفيلم، أنها من المستحيل أن تكون صحيحة، بخاصة بالنظر إلى أن سيرة فيرمير المعتمدة تتحدث عن كونه رب عائلة محباً لزوجته كاترين التي أنجبت له 11 ولداً وبنتاً عاشوا جميعاً في كنف أسرة محبة، ولئن كان فيرمير في لوحاته التي لا يزيد عدد ما هو موجود منها اليوم عما يقارب الـ40، قد صور غالباً نساء ولا سيما نساء من أفراد العائلة والمحيط المنزلي يمارسن حياتهن الطبيعية، فإن ليس ثمة في تلك اللوحات ما ينم عن مواقف وحكايات من ذلك النوع، فإن تريسي شوفالييه تبتسم كما يفعل مخرج الفيلم قائلة “أنا لم أزعم غير ذلكن تماماً كما أنني لم أزعم أنني أكتب سيرته. كل ما في الأمر أنني أطرح فرضية لا أكثر. فأنا لست عالمة أو مؤرخة. أنا روائية وما كتبته رواية تنتمي إلى الخيال، وليس ثمة ما يجعلني نادمة”.